Min Naql Ila Ibdac Talif
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٢) التأليف: تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
Genres
الإهداء
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
ثانيا: المترجمون
ثالثا: الكندي
رابعا: الرازي والخازن والسجستاني والقوهي
خامسا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
سادسا: ابن سينا
سابعا: ابن الهيثم، وعلي بن رضوان
ثامنا: ابن باجه وابن رشد
Unknown page
الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث
أولا: المترجمون: ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي
ثانيا: الرازي، وابن الجزار، والبلدي، والعامري، وابن هندو
ثالثا: مسكويه
رابعا: ابن سينا، والبيروني، وابن الهيثم
خامسا: ابن بختيشوع، وابن رضوان، والخيام
سادسا: الطغرائي، واللوكري، وابن باجه
سابعا: ابن زهر وابن رشد والعرضي
الفصل الثالث: تمثل الوافد مع تنظير الموروث
أولا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
Unknown page
ثانيا: ابن باجه
ثالثا: المجوسي، وابن البيطار، والطوسي، والفارسي، وابن الألعاني
رابعا: داود الأنطاكي، والقليوبي، والمنذري
الإهداء
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
ثانيا: المترجمون
ثالثا: الكندي
رابعا: الرازي والخازن والسجستاني والقوهي
خامسا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
Unknown page
سادسا: ابن سينا
سابعا: ابن الهيثم، وعلي بن رضوان
ثامنا: ابن باجه وابن رشد
الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث
أولا: المترجمون: ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي
ثانيا: الرازي، وابن الجزار، والبلدي، والعامري، وابن هندو
ثالثا: مسكويه
رابعا: ابن سينا، والبيروني، وابن الهيثم
خامسا: ابن بختيشوع، وابن رضوان، والخيام
سادسا: الطغرائي، واللوكري، وابن باجه
Unknown page
سابعا: ابن زهر وابن رشد والعرضي
الفصل الثالث: تمثل الوافد مع تنظير الموروث
أولا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
ثانيا: ابن باجه
ثالثا: المجوسي، وابن البيطار، والطوسي، والفارسي، وابن الألعاني
رابعا: داود الأنطاكي، والقليوبي، والمنذري
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (2) التأليف
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (2) التأليف
تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
تأليف
Unknown page
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا،
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
يمثل التأليف مرحلة أعلى من العرض؛ فهو أكمل قسمة من حيث البنية العقلية، وأعمق تحليلا من حيث الغوص في المعاني، وأكثر برهنة وأدلة من حيث طرق الاستدلال، وتوجيه المادة نحو نظرية أعم تخرج من نطاق الخصوصية اليونانية ثم تطبيقها على المادة العربية وانطلاقا منها كخاص آخر أشبه بالعام، أكثر قدرة على احتواء الخاص الأول.
وللتأليف عدة أنواع يبدو فيها التحول من النقل إلى الإبداع طبقا لنسبة الوافد والموروث والقدرة على تجاوزهما معا إلى الإبداع الخالص عندما يعتمد النص على بنيته الداخلية اعتمادا على تحليل العقل الخالص دون مصادر خارجية من الوافد أو الموروث، وطبقا لمراحل التأليف المنطقية التي يتحد فيها التاريخ بالبنية يمكن التمييز بين ست منها، ثلاثة في التأليف، ثم يتحول التأليف إلى ثلاث أخرى في التراكم: (1)
تمثل الوافد، عندما يعتمد النص على الوافد وحده من أجل تمثله بعد ترجمته والتعليق عليه وشرحه وتلخيصه وجمعه وعرضه، وحتى يتحول إلى ثقافة داخلية ولا يبقى وافدا خارجيا. (2)
Unknown page
تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، عندما يعتمد النص أولا على المصدر الخارجي ثم يبدأ الموروث في الظهور متفاعلا مع الوافد على استحياء. (3)
تمثل الوافد مع تنظير الموروث، عندما يتعادل المصدران الداخلي والخارجي كما ويتفاعلان كيفا استعدادا لخلق نص جديد يتجاوز الوافد والموروث. وهو ليس تعادلا حسابيا، بل رياضي تقريبي، وحرف العطف «الواو» أو «مع» يفيدان نفس المعنى. ويظهر التراكم بتغير المعادلة والتحول من أولوية الوافد إلى أولوية الموروث. (4)
تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، عندما يبدأ التحول بأولوية المصدر الداخلي على المصدر الخارجي بعد أن تم تمثل الوافد على نحو شبه كلي، وسيادة الموروث عليه بعد أن بدأ التراكم الفلسفي في الظهور وبداية الوعي التاريخي الفلسفي. (5)
تنظير الموروث عندما يختفي الوافد كلية ويتحول النص إلى تنظير للمصدر الداخلي، ويشتد التراكم الفلسفي الداخلي، ويفكر الوعي التاريخي على نفسه ومساره منتقلا من التاريخ إلى البنية. (6)
الإبداع الخالص عندما يختفي الوافد والموروث كلية، ويعتمد النص على ذاته على بنية الموضوع المتحدة مع بنية العقل؛ فلم يعد الإبداع في حاجة إلى نقل خارجي أو داخلي.
ولا يوجد حد فاصل بين هذه الأنواع الستة، إنما هي أنواع متصلة. نسبة الوافد إلى الموروث هي التي تميز بينها في مسار التحول من النقل إلى الإبداع.
ويمكن تحليل كل نص على حدة لبيان مكوناته، الوافد والموروث وآليات الإبداع أسوة بالعرض، وهو ما يبقي على النص وحدته كعمل فلسفي فني، عيبه التكرار خاصة في آليات الإبداع؛ لذلك ربما كان من الأفضل ضم الوافد كله معا في مجموعة النصوص التي تمثل الوافد لمعرفة وضع أرسطو أو أفلاطون أو سقراط في هذا النوع الأدبي وليس نصا نصا. وقد يفرض الواقع الطريقتين معا؛ فعرض الوافد يكون نصا نصا.
وبالرغم من أن نصوص تمثل الوافد نوع أدبي واحد، إلا أنها تمثل تتاليا في الزمان وتتابعا في التاريخ، ابتداء من مؤلفات المترجمين حتى ابن رشد وابن النفيس؛ فالبنية لا تضحي بالتاريخ، والتاريخ لا يضحي بالبنية. لقد استمر تمثل الوافد من البداية إلى النهاية، ولم يتوقف منذ المترجمين الأوائل في القرن الثالث حتى ابن النفيس في القرن السابع، مع أن المنطق والتاريخ يقتضيان أن تمثل الوافد ما هو إلا خطوة مبدئية ومرحلة أولى تنتهي إلى الإبداع الخالص. والواقع أن تمثل الوافد هو مصدر دائم يصب في الوعي التاريخي، هو البداية الضرورية لكل إبداع لاحق؛ فلا إبداع بلا نقل، ولا استمرار في الإبداع دون الاستمرار في النقل.
ولا يعني تمثل الوافد مجرد القبول، بل يعني أيضا الرفض والنقد والمراجعة؛ فهو تمثل فعال جدلي، بداية التفاعل بين الآخر والأنا؛ فالأنا لها وجود ثقافي، وإن لم يتخارج بعد في مواجهة آخر له حضور ثقافي فعلي.
وبالرغم من أن طريقة عرض تمثل الوافد عن طريق أسماء الحكماء ليست بالطريقة المثلى لأنها تشخيص للفكر، إلا أنه لا يوجد أفضل منها في رؤية التتابع التاريخي داخل البنية المتصلة. ولا يعني اسم العلم شخصه، بل تأليفه أو نصوصه. وقد حذف حتى لا يتكرر أمام كل علم. ولما كانت الأعلام تعرض ثقافة ولا تضعها، فإن الحضارة هي المقصود من وراء توالي الأعلام.
Unknown page
وبالرغم من أن العادة هي عدم ذكر النصوص إلا ما ندر منها في الهامش تفاديا لعيوب «من العقيدة إلى الثورة»، وأكثر نصوصه العارضة والدالة على موقف، إلا أن بعض النصوص الدالة في التأليف قد تم ذكرها في الهامش لإبراز الموقف والإقلال من شأن هوامش الأرقام الصورية الصامتة.
ولا يعتمد تمثل الوافد على إسقاط الموروث كلية؛ فالموروث هو الوعاء الشعوري أو اللاشعوري الذي يتم فيه صب الوافد كما هو الحال في رسالة الفارابي «معاني العقل»، أربعة من أرسطو، وواحد من المتكلمين، وواحد في الثقافة الشعبية. وفي كل الأنواع الأدبية يظل الموروث حاضرا بطريقة مباشرة، مثل المراحل من الثانية حتى الخامسة، أو بطريقة غير مباشرة، مثل النوع الأول «تمثل الوافد»، والنوع السادس «الإبداع الخالص».
وقد قام بتمثل الوافد تاريخيا حنين بن إسحاق (264ه)، والكندي (252ه)، والرازي (313ه)، والخازن (ه)، والسجستاني (331ه)، والفارابي (339ه)، والعامري (381ه)، وابن سينا (428ه)، وابن الهيثم (430ه)، وابن باجه (533ه)، وابن رشد (595ه)، ولكن من حيث الأهمية والكم يأتي الفارابي أولا؛ فهو بحق المعلم الثاني، ثم الكندي؛ فهو بحق فيلسوف العرب، ثم ابن سينا؛ فهو بحق الشيخ الرئيس، ثم حنين بن إسحاق رئيس مدرسة الحكمة، وابن الهيثم بطليموس الثاني، وابن باجه دفين فاس، ثم الرازي كبير الأطباء، وابن رشد الشارح الأعظم.
1
ثانيا: المترجمون
(1) حنين بن إسحاق
المترجمون نقلة وشراح ومؤلفون في نفس الوقت، تدخل أعمالهم في الترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض والتأليف، وإن كانت الترجمة هي الغالبة. ولما كانوا في بداية الحركة الفلسفية وأول من اتصلوا بالوافد عن طريق النقل، غلب على مؤلفاتهم تمثل الوافد. ولأنهم كانوا من النصارى، فقد قل تنظير الموروث أو غاب كليا؛ نظرا لأنه لم يكن رئيسيا في ثقافتهم بالرغم من أنهم كانوا على صلة بالحكماء، مثل يحيى بن عدي والفارابي.
ولا تدخل هذه المؤلفات ضمن تاريخ الأدب العربي المسيحي، بل ضمن تاريخ الفكر الإسلامي؛ لأنها لا تمثل تيارا مستقلا داخل الحضارة الإسلامية، بل تشارك في نفس التحليل العقلي المثالي للأخلاق أسوة باليونان، كما هو الحال في «تهذيب الأخلاق» ليحيى بن عدي؛ فاليونان هم القاسم المشترك بين الحكماء والمترجمين ، وهي جزء من العمليات الحضارية ومراحل التحول من النقل إلى الإبداع في الحضارة الإسلامية، من الترجمة والتعليق إلى الشروح والتلخيص والعرض والتأليف، إلى الإبداع الخالص أسوة بنصوص حكماء الإسلام؛ فالعمليات الحضارية لا تفرق بين مؤلفين مسلمين ومسيحيين ويهود ومجوس. كما لا تدخل هذه المؤلفات ضمن تاريخ العلم العام، في المرحلة العربية الإسلامية بعد الشرق القديم، ثم اليونان مع العصر الوسيط المسيحي تمهيدا لتاريخ العلم العربي؛ فلكل حضارة تاريخها الخاص وتحقيبها للتاريخ العام بناء على مركزيتها؛ فالعلم العربي الإسلامي ليس في العصر الوسيط، بل في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية التي أرخ لها ابن خلدون قبل أن تأتي في المرحلة الثانية بعد ابن خلدون وحتى الآن، في عصر الشروح والملخصات، وحتى فجر النهضة العربية الحديثة.
ولا تدخل هذه المؤلفات كجزء من تاريخ العلم العربي في مصادره الأولى؛ لأنها جزء من بنية ثقافية حضارية إسلامية مع باقي العلوم، وإبداعها في تراثها وعصرها، وليس بالقياس إلى العلم الغربي الحديث. هي جزء من علوم الحكمة؛ فالعلوم الطبيعية والرياضية جزء من الطبيعيات، وليست علوما مستقلة عن نسق العلوم العام الذي بدأ في «إحصاء العلوم». (أ) ولحنين بن إسحاق (264ه) «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها»، وهو صاحب التفرقة بين أنواع تأليفه بين الثمار والتفسير والجوامع قبل ابن رشد، وهو تأليف علمي دقيق خال من الإنشاء، يظهر الوافد فيه على استحياء؛ أبقراط، ثم جالينوس، طبيبان في ذهن طبيب، والإحالة إلى قدماء الأطباء وحكماء الأطباء؛ ففي موضوع القيء جميع الأطباء خلا أبقراط يأمرون من يحتاج إلى القيء في الشهر مرتين، وهو أمر أن يكون في الشهر مرة. ويعتمد حنين على وصف جالينوس للسنين.
1
Unknown page
ولا يقتصر الوافد عند حنين على الوافد اليوناني، بل يشمل أيضا الوافد الهندي؛ إذ يتحدث عن الساذج هندي؛ فقد كان التراث الهندي سابقا على التراث اليوناني في شبه الجزيرة العربية عبر التجارة.
2
ومن مؤلفات المترجمين النصارى تظهر البنية الإسلامية أيضا من المؤلف أو الناسخ باعتبارها بيئة حضارية عامة للمسلمين والنصارى على حد سواء. تظهر البسملة والحمدلة والصلاة على الرسول وآله، والاعتماد على المشيئة الإلهية، مع بعض الصفات الأصلية الفلسفية، مثل «واهب العقل والحياة».
3 (ب) وفي «المسائل الطبية» له أيضا، المضموم إليها مسائل حبيش بن الحسن على مذهب أبقراط في الطب؛ فالتأليف عمل جماعي، يتصدر جالينوس وباغلوس الفيلسوف وأندروماخوس في فقرات متتالية، وكأن الوافد قد تم حصاره بالتأليف متحولا إلى تراكم في إبداع خالص.
4
ويذكر كلهم في تاريخ الأدوية المفردة والمركبة لعلاج سم الأفاعي. فكان المبدع الأول باغلوس الفيلسوف، ثم أندروماخوس المتمم والمكمل له، ثم جالينوس المصحح له والمظهر لحسناته وفضائله، ثم جاء حنين بن إسحاق المؤلف نفسه متحدثا عن نفسه كآخر جزء من التاريخ، انتزع من جالينوس قولا مجملا، وجعله مثل البذر لطالب الغلة من كتاب الترياق. اكتملت الحقيقة عند جالينوس ثم اجتهد في بيانها حنين، كما اكتملت الديانات السابقة في الإسلام ولم يبق بعده إلا الاجتهاد في التشريع.
5
ويظهر اسم «اليونانيون» وصفة «اليونانية»، وفي كلتا الحالتين الإشارة إلى اللغة. ويسمي اليونانيون حمى الدق أفطيفيوس، وكل حيوان ينهش في لغة اليونانيين تيريون، وكل دواء ترياق. ويسمي اليونانيون الحمى بأربعة أسماء طبقا لاختلاف درجات الحرارة، وتسمى باليونانية طبقا لكثرة مادتها أو شدة حرارتها، ويذكر اسم عفونة المرة الصفراء وعفونة البلغم باليونانية.
6
ولا يظهر من الموروث أعلام أو موضوعات باستثناء بعض الأسماء الجغرافية التي تعبر عن بيئة محلية، مؤسسا بذلك علم الطب الجغرافي أو علم الجغرافيا الطبية، مثل حدوث البياض عن برد بلاد الصقالبة، والسواد عند سخونة بلاد السودان.
Unknown page
7
ويغلب عليه الطب العقلي الفلسفي، وتغلب على نصائحه البداهة، وهو طب خالص خال من المعارك الطبية أو المدارس الفلسفية، سهل بسيط وواضح، يكاد يخلو من الأعلام، ويعتمد التأليف على فهم القسمة، وهي أولى مراحل التعريف، وهو أقرب إلى الثقافة الطبية. ولما كان الطب ثقافة القدماء أتت معجزات المسيح طبية، كما أتت معجزات العرب أدبية نظرا لثقاتهم الأدبية، ومعجزات اليهود مادية نظرا لطبيعتهم المادية.
وكثير من أسماء الأمراض والأدوية ما زال معربا دون أن يفقد النص أسلوبه العربي الأدبي، على خلاف معاصرينا من الشوام والمغاربة في نقلهم من التراث الغربي، بل يصل الأمر إلى التشبيهات، مثل «النبض رسول لا يكذب».
8
ويخلو من البسملات والحمدلات. (ج) و«كتاب العشر مقالات في العين» منسوب له أيضا، وهو أقدم كتاب في طب العيون ألف على الطريقة العلمية.
9
يتصدر أسماء الأعلام جالينوس، ثم أرباسيوس، ثم بولس الأجنيطي، ثم حنين نفسه، ونيلس، ثم أبقراط، وقراطيس، وقابيطون، وأندراس، وفيلوكسانوس (صاحب كتاب).
10
وقد ألف حنين هذا الكتاب على رأي أبقراط وجالينوس كما هو وارد في العنوان دون ادعاء الإبداع؛ فهو تأليف في الوافد المنقول دون إضافة أو إنقاص أو نقد أو تطوير.
11
Unknown page
الكتاب «مؤلف على ما بينه وشرحه جالينوس الحكيم بأوضح ما قدر عليه من القول وأوجزه». يعني تمثل الوافد؛ إذن الفهم، ثم إعادة العرض بوضوح وإيجاز، وهو نوع من الطب العقلي الذي يعتمد على البداهة وحدها، من مدرسة القياس، وليس من مدرسة التجربة في الطب. ويكمل النص في آخر المقالة السادسة مما نقله الرازي في «الحاوي». ويظهر الجانب النفسي «الروح النفساني» في وظيفة العين.
12
ويذكر القدماء إحالة إلى التراث الطبي القديم واستئنافا وتجاوزا له.
13
يذكر السريان والعرب وحبيش في إطار ترجمة الوافد. والكتاب مزود بالرسوم التوضيحية.
14
ولكن الأكثر ترددا هو صفة اليونانية، ثم اسم «اليونانيون»، ثم القدماء. وتعني الصفة اللغة، ذكر اسم المرض أو الداء معربا قبل الترجمة أو بعدها.
15
وأحيانا تذكر بعض الأسماء المعربة دون ذكر صفة اليونانية؛ لأنها واضحة أنها كذلك. والأسماء المترجمة تكشف قدرة فائقة على نحت المصطلحات. ويظهر الواقع المحلي؛ فأسماء الأدوية مثل الصمغ العربي والعرب والعربية والسرياني والسريانيون والتمر الهندي.
16
Unknown page
وتدل عبارات الربط على أن التمثل رغبة في الإيضاح؛ «وهذا ما أردنا إيضاحه»، «وهذا ما أردنا تفسيره».
17
وكما يبدأ النص بالبسملة ينتهي بسؤال الله أن يحفظ السائل وينفعه، وينفع الناس بالكتاب على يده دهرا طويلا وسنين كثيرة، ولا يطلب مكافأة إلا حسن الدعاء، ويتخلل النص اللجوء إلى المشيئة الإلهية في تعبير «إن شاء الله». (د) وفي «كتاب المولودين» لحنين أيضا يتصدر أبقراط؛ فهو الوحيد الذي كتب في الموضوع قبل حنين، واسمه «في المولودين لثمانية أشهر».
18
ويزيد حنين على ما سبقه إليه أبقراط ويعلل تعليلاته.
19
ولم يشتهر الكتاب لعدم المعرفة بلغة أبقراط ولا بالغرض من كتابه. وكرر الكتاب العنوان من جديد. يصرح فيه حنين أنه مجرد شارح لمعاني أبقراط في كتابه المذكور. وفي الخاتمة تحت مسائل أبقراط في «المولودين لثمانية أشهر»؛ مما يصعب معه التمييز بين التأليف والعرض ووضع المسألة بطريقة السؤال والجواب، وهو أسلوب تعليمي. ويسمي نفسه خادم أمير المؤمنين في عنوان الكتاب؛ مما يدل على توظيف العلماء عند السلاطين وخضوعهم لهم. ويتكرر العنوان في مسائل ألفها للسيد أمير المؤمنين أطال الله بقاء خادمه حنين بن إسحاق المتطبب،
20
ويبدأ بالبسملة والاستعانة بالله وسؤاله التوفيق، ولا ينتهي بالإيمانيات.
21 (ه) ولا فرق في تأليف المترجمين بين تمثل الوافد والعرض؛ فمقالة حنين بن إسحاق «في الضوء وحقيقته» جمعها من كتب أرسطوطاليس بمجرد إعادة كتابتها وعرضها عرضا نسقيا.
Unknown page
22
تمثل الوافد هنا يعني تجميع موضوع من أماكن متفرقة ثم وضع إطار نظري له. ويذكر أرسطو (مرتين)، وكتاب النفس (مرة واحدة)، ويضم عشر فقرات تبدأ منها بأحد أفعال القول: قال، احتج فقال، فالقول يسبقه الاحتجاج. ونسبة صيغة «احتج فقال» أعلى من صيغة «قال» فحسب؛
23
فالاحتجاج والقول حجة وبرهان، دليل وموقف، أسوة بأسلوب الفقهاء في الرد مسبقا على اعتراضات الخصوم. ويبين دخول المؤلف في فكر أرسطو وحججه وبراهينه ورؤيته من الداخل، وليس نقله من الخارج. وبالرغم من الغياب الكلي للموروث وغياب البسملات إلا أن الحمدلات في النهاية حاضرة.
24 (2) قسطا بن لوقا
ومن الواضح أن أعمال المترجمين تقع في تمثل الوافد؛ فهم أقرب إليه وأبعد عن الموروث، وهم أول من خرج من الترجمة إلى التعليق إلى الشرح والتلخيص والجامع قبل العرض والتأليف والتراكم. مثال ذلك رسالة «الفرق بين النفس والروح» لقسطا بن لوقا، أو ربما لإسحاق بن حنين.
25
فيحال إلى أفلاطون ثم أرسطو ثم ثاوفرسطس، وجالينوس، وأبقراط، وخروستوس؛ فأفلاطون وأرسطو هما فيلسوفا النفس يعبران عن وجهتي النظر؛ استقلال النفس عن البدن عند أفلاطون، وارتباطهما معا عند أرسطو.
26
ويحال إلى محاورة «طيماوس» لأفلاطون. ومن الفرق يذكر الفلاسفة والأطباء اليونانيون تمايزا بينهم وبين غيرهم. فتمثل الوافد لا يقضي على المغايرة بين الأنا والآخر.
Unknown page
والتأليف بناء على سؤال عيسى بن أرخانشاه طبقا لعادة العرب في التأليف وأحكام السؤال والجواب في أصول الفقه.
27
سؤاله عن الفرق بين الروح والنفس وأقوال الأوائل فيه. ولا يخلو النص من تعليق في الهامش من المحقق المؤلف أو القارئ أو الناسخ؛ فالتعليق ليس فقط على الترجمة، بل على التأليف،
28
والجواب في غاية الاختصار والإيجاز؛ فالتأليف ما زال في أوله عند المترجمين.
29
ويبدأ بتحديد ماهية كل من النفس والروح، أوجه التشابه بينهما وأوجه الاختلاف، أوجه الاتحاد بينهما وأوجه التمايز.
والبداية من أعلى، كمحاولة للتعريف النظري الخالص؛ مما يدل على درجة عالية من التحديد وتمثل الوافد. وهو تأليف شارح؛ أي أنه أقرب إلى العرض، وهو أولى مراحل التأليف، والغاية منه تحديد معاني الألفاظ كما هو الحال في الشروح المتأخرة عند المؤلفين.
30
وكالعادة تبدأ الرسالة بالبسملات والاستعانات بالله بالدعوة للسائل.
Unknown page
31 (3) يحيى بن عدي
ويغلب على المقالات الفلسفية ليحيى بن عدي (264ه) التحول من النقل إلى الإبداع في العرض والتأليف والتراكم، تمثل الوافد حتى الإبداع الخالص، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، ثم تمثل الوافد مع تنظير الموروث، ثم يغيب تنظير الموروث قبل تمثل الوافد وتنظير الموروث. يغلب الطرفان النقيضان، الأول تمثل الوافد، والسادس الإبداع الخالص؛ ثم الطرفان الوسيطان، الثاني تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، والثالث تمثل الوافد مع تنظير الموروث؛ ويغيب الوسطان، الرابع تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، والخامس تنظير الموروث. ولا توجد مقالات في العرض الجزئي.
32
وسبب تغليب تمثل الوافد هو القرب من الترجمة، وكان يحيى بن عدي مترجما وفيلسوفا في آن واحد، ناقلا وعارضا. ويغلب على الموضوعات المنطق أكثر من الطبيعيات والإلهيات؛ فهو تلميذ الفارابي. (أ) ففي مقالة «في غير المتناهي» يتصدر أرسطو ومؤلفاته، السماع الطبيعي، ثم قاطيغورياس.
33
يستشهد بأرسطو على القضايا الأولية، مثل أن الجزئيات التي لا تدخل في الكليات لا تكون الكليات حاضرة لها، كما صرح بذلك في قاطيغورياس، كما يشرح قول أرسطو في المقالة الأولى من السماع الطبيعي إن غير المتناهي كم، وفي المقالة الثالثة إن ما لا نهاية له قائم بنفسه لغموض القولين؛ فالتمثل هنا بمعنى الإيضاح.
ولا يعني تمثل الوافد وغياب تنظير الموروث الانعزال عن العصر وقضاياه، بل هو استجابة إلى شك متفلسفة العصر من قبل الوهم وسوء القياس، والظن بالعدد أنه ذو نهاية من تلقاء أوله، وغير متنهاه من تلقاء آخره. يبين ابن عدي فساد هذا الرأي وبطلان هذا الوهم، وإثبات أنه لا يوجد في العدد معنى غير التناهي أو عدد لا نهاية له. ويعتمد في ذلك على الأوائل في العقل. وقد يكون الدافع على ذلك تفرد الله بصفة اللامتناهي كما أوضح الكندي من قبل. وإذا كانت الرسالة تبدأ بالبسملة من الناسخ فإنها تنتهي بطلب تأييد «الله الهادي إلى الحق، البادئ بالجود على الخلق، ذي الجود والحكمة والحول، ولي العدل، وواهب العقل»، له الحمد والشكر كما هو أهل له. (ب) وفي «تبيين وجود الأمور العامية، والنحو الذي عليه تكون محمولة، والنحو الذي تخرج به من أن تكون محمولة» يتصدر الفيلسوف أرسطو ومؤلفاته، البرهان، ثم السماع الطبيعي، ثم الكون والفساد والنفس.
34
ويؤخذ قول أرسطو حجة لمنكري وجود المعاني والصور الذهنية والنفسية في الخارج؛ لقوله في «البرهان» إن الصور فرع باطل، وإن إثباتها في الخارج ليس اضطرارا؛ ولقوله في «النفس» إن ما يوجد في الخارج هي الأشخاص، وقوله في «الكون والفساد» إن الجسم العام لا وجود له. كل ذلك في إطار نقده لنظرية المثل، وهو سوء تأويل لأقوال أرسطو. صحيح أن أرسطو ينكر وجود المعاني الكلية في الخارج، ولكنه يثبت وجودها وجودا منطقيا، كما صرح في «قاطيغورياس» أن ليس كل الموجودات في موضوع، وصرح في «البرهان» بإمكانية وجود كلمات تضم الأجزاء، وهي الأمور العامة، وبين أيضا أن البرهان لا يكون إلا على الكلي وليس على الجزئي، وأن البرهان على الكلي أفضل من البرهان على الجزئي. وإذا كان العلم لا يكون بما ليس بموجود، فكيف لا يكون للكليات وجود منطقي، وأرسطو فيلسوف مبرز وعاقل؟ من الواضح إذن إثبات أرسطو المعاني كأنواع، والأنواع لها وجود منطقي، وهو ما صرح به أرسطو في «السماع الطبيعي»، كما أن الصورة متصلة بالمادة، والمادة تقبلها؛ فالصورة ليست مجرد وهم؛ ومن ثم يفسد تأويل قول أرسطو بأن المعاني لا توجد إلا في النفس. الموجودات عند أرسطو على درجات بين المادة والصورة، كما صرح بذلك في «السماع الطبيعي». يعني تمثل الوافد إذن تصحيح فهم أقوال أرسطو ضد سوء تأويلها من مختلف الفرق، والعودة إلى نصوص أرسطو المتقابلة في عديد من مؤلفاته المنطقية والطبيعية لإعطاء التأويل الصحيح، وهو ما كرره ابن رشد فيما بعد. وباستثناء البسملة في البداية من المؤلف أو الناسخ لا توجد إيمانيات أو حمدلات أو دعوات وصلوات. (ج) وفي «مقالة في تزييف قول القائلين بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ» لا يذكر من الوافد إلا «السماع الطبيعي»، وهو نقد للمتكلمين مثل نقد ابن رشد؛ فقد تبين فيه أن لكل صورة من الصور الطبيعية مقدارا من العظم لا يوجد في أصغر منه، وهو تلبيس من الخصوم.
35 (د) وفي «مقالة بينه وبين إبراهيم بن عدي الكاتب، ومناقضته في أن الجسم جوهر وعرض» يذكر أرسطو مرة واحدة اعتمادا عليه لإثبات فساد العالم أي فئاته، وهي قضية أولية في العقل لا تحتاج إلى برهان. ومع ذلك فإن الدليل هو أن كل جسم جوهر وعرض سواء في هذه الدنيا أو في غيره. ويكشف ابن عدي عن التصور الديني للعالم، وما هو مستقر به في الديانات من القول بالمعاد والثوب والعقاب. وقد حدث التراكم الفلسفي في هذه الفترة المبكرة؛ فيحيى بن عدي يناقض إبراهيم بن عدي.
Unknown page
36 (ه) وفي «قول فيه تفسير أشياء ذكرها عند ذكره فضل صناعة المنطق» لا يذكر إلا الفيلسوف أرسطو ثم السوفسطائيون.
37
وهو دفاع عن المنطق ضد مغالطات السوفسطائيين، وإثبات للمنطق المعياري ضد المنطق البرجماتي. ويعتمد على أرسطو في إخراج النتائج اليقينية من المقدمات اليقينية الكاذبة، والنتائج الكاذبة من المقدمات الكاذبة. وبعد البسملة من المؤلف أو الناسخ تتم الدعوة بطول العمر للسائل، فالمقالة إجابة على سؤال، والدعوة لله ذي الجود والحكمة والحول، ولي العدل، وواهب العقل، والشكر له دائما كما هو أهل له. (و) وفي مقالة «في تبيين أن الشخص اسم مشترك» لا يذكر إلا فرفوريوس، وتعريفه للشخص الذي يطلق على كل واحد ضد المتفلسفين الذين زاغوا عن الحق، واعترفوا أنه يدل على معنى واحد بعينه عام موجود لجميع الأشخاص. تمثل الوافد هنا يعني تصحيح خطأ الفلاسفة؛ فالشخص اسم مشترك يدل على معنيين. ولا يذكر من الموروث إلا المثل العربي زيد وعمرو لضرب المثل على اسم شخص. وينتهي المقال إلى أن اسم الشخص مشترك، وأن المعاني التي يدل عليها متفقة أسماؤها وليست متواطئة، بتوفيق الله وتسديده وحين معونته. وينتهي المقال بالدعوة بالتوفيق والتسديد وحسن العون من الله.
38
فالموضوع وافد، جزء من ثقافة المترجم وإطاره المرجعي، ولكن القالب موروث من مبحث الألفاظ عند الأصوليين في اشتراك الاسم.
39 (ز) وفي «مقالة في الموجودات» يذكر الفيلسوف أرسطو، ثم السماع الطبيعي.
40
يذكر تعريفه في النفس بأنها كمال، وتحديده للطبيعة بأنها مبدأ وحركة وسكون في الشيء بالذات لا بالعرض، وتحديده للهيولى بأنه الموضوع الأول لشيء شيء الذي عنه يتكون الشيء وموجود فيه لا بطريقة العرض، وتحديده للصورة بأنها خلقة لما فيه بنفسه مبدأ الحركة، وهي الصورة الهيولانية. والحركة كمال ما هو بالقوة بما هو كذلك، والزمان مدة تعدها الحركة بالمتقدم والمتأخر. كما بين في السماع الطبيعي أنه ما لم تكن هناك حركة لا يكون هناك زمان، وعرف المكان بأنه السطح الداخل من الجسم المادي للسطح الخارج من الجسم المحوي. وبين في المقالة الرابعة من «السماع الطبيعي» أن الخلاء غير موجود. ولا تزال كلمة «الأسطقسات» معربة؛ فالتعريفات أشبه ببداية المصطلحات، وكلها من أرسطو، ولقبه الحكيم.
أما الموروث فيظهر في البسملة من المؤلف أو الناسخ، وتعريف الباري أولا بأنه جوهر غير ذي جسم، جواد، حكيم، قادر، أزلي، عاقل ذاته، على غاية الحقيقة ، أقدم من كل ما سواه بالذات وبالمرتبة وبالشرف، علة وجود كل موجود غيره، وتكون كل متكون. وينهي المقالة بالحمدلة. (ح) وفي «القول إن كل متصل فإنه ينقسم إلى أشياء تنقسم دائما بغير نهاية» لا يذكر إلا كتاب إقليدس استشهادا به على أن كل خط منقسم قسمين دون التصريح بوجود الجزء الذي لا يتجزأ. والموضوع تجريدي أقرب إلى البراهين الرياضية. وتبدأ المقالة بالبسملة، وتنتهي بعون الله.
41 (ط) وفي «إثبات طبيعة الممكن، ونقض حجج المخالفين لذلك، والتنبيه على فسادها» بالرغم من أنها رسالة موجهة إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قريش في العنوان، إلا أنها لا تذكر إلا الوافد؛ أرسطو، ثم كتاب باري أرمنياس، ثم الفلاسفة القدماء.
Unknown page
42
وهي الرسالة الوحيدة المقسمة إلى أبواب (وفصول)، وعرض ملخصها سلفا، والموضوع هو حل الخلاف بين الفلاسفة القدماء حول طبيعة الممكن، وحله عن طريق «اقتصاص كلام أرسطو»؛ أي العودة إلى الأصول والتنبيه على مواطن الغلط ضد النافين له، وإيراد البراهين على إثباته، وبيان المستغلق من كلام أرسطو وتوضيحه. فالتمثل يعني إزالة الخلاف بين الشراح اليونان والذهاب من الأنا إلى الآخر، ثم توضيح الأصول ذاتها عند الآخر؛ فهو واجب تجاه الآخر قبل أن يكون واجبا تجاه الأنا. وحجة النفاة مأخوذة من كلام أرسطو من ضرورة صدق أحد النقيضين وكذب الآخر. نشأ الخلاف بين الفلاسفة القدماء ابتداء من كتاب العبارة لأرسطو باري أرمنياس. والخلاف بين القدماء هو: هل الجزئيات في الزمان المستقبل ممكنة أم هي ضرورية كلها؟ وحله باقتصاص كلام أرسطو الفيلسوف في حجة النافين للممكن، ثم إبطالها من غير زيادة أو نقص على «قصته». المعاني الكلية فيها الإيجاب والسلب؛ وبالتالي الصدق والكذب، وليست المعاني الجزئية. ويتم شرح ذلك تفصيلا حسب معانيه بتحليل ألفاظ الزمان مثل «الآن»، وألفاظ الحكم مثل السلب والإيجاب، وبيان مضمون بعض الألفاظ مثل الأمرين، ويعنيان الوجود والعدم. يرد أرسطو على النافين للممكن سلبا ثم يثبته إيجابا. ويشرح ابن عدي غرضه في فصل فصل من العبارة حتى يلم العبارات بقصدها. مواضع الغلط في حجج النافين هو عدم التمييز بين حال وجود الشيء إذا كان موجودا وحال وجوده على الإطلاق.
ويبدو التصور الديني في حجة نفي الممكن، وهو سبق العلم الإلهي، وهو علم ضروري خال من الممكنات، وهو ليس سببا عنصريا (ماديا) أو صوريا أو فاعلا أو كماليا (غائيا) أو أدويا (من أداة) أو مثاليا، وهو تحديد للموضوع عن طريق السلب لأنواع العلل الأرسطية أن تكون نافية للممكن. وعلم الله المسبق هي حجة المتكلمين لإثبات القدر ونفي الاستطاعة وخلق الأفعال. يحيل ابن عدي إلى رسالته في ماهية العلم؛ مما يدل على تكامل مشروعه الفكري. وتضرب الأمثلة بزيد وعمرو لبيان الفرق بين الماهية والوجود طبقا للأسلوب العربي. ويوصف الباري بجل اسمه، وتعالى عما يقوله الضالون. ويتم عرض الرسالة بتأييد الله ذي الجود والحكمة، ولي العدل وواهب العقل، وهي صفات الحكماء ونعوتهم لله. ويتم البحث بمعونة الله وحسن توفيقه بالتوكل على الله.
ثالثا: الكندي
(1) الرسائل الفلسفية والطبيعة (أ) نظرا لأن الكندي (252ه) أول الفلاسفة، ويمثل تحولا من الترجمة إلى التأليف، ومن الكلام إلى الفلسفة، ظهر «تمثل الوافد» لديه بوضوح. وأهم ما يميز تأليف الكندي، مثل «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، انفتاحه على الوافد إلى أقصى حد؛ مما ساعده على تمثله، ونقده إلى أقصى حد؛ مما ساعد على تجاوزه، الانفتاح على الآخر والاستقلال عنه، تقريظ القدماء وتطويرهم، والتأكيد على أهمية الأوائل وتصحيح أقوالهم، ضرورة البداية بالسلف وضرورة استمرار الخلف، الجمع بين القديم والجديد، أو بلغة العصر بين الأصالة والمعاصرة. أهم ما يميز الكندي إذن هو الوعي التاريخي العام بتطور الحضارات، وإكمال اللاحق منها السابق. وكما لا تستطيع حضارة واحدة أن تصل إلى كل شيء، كذلك لا يستطيع فرد واحد أن يعرف كل شيء. ومن هنا أتت ضرورة التكامل والتراكم والتعاون بين الحضارات؛ فكل حضارة لها المبرزون والعاديون. ونظرا لعدم استطاعة إنسان واحد بعمره القصير وجهده المحدود الوصول إلى الحقيقة، لزم تضافر الجهود، وتراكم الأعمار، ومساهمة الأجيال، وتعاون الأمم، وتكامل الحضارات. هناك شركة بين الحضارات وألفة بين الشعوب. وتتحقق هذه الوحدة الحضارية من خلال العمل . تتعاون الأمم حضاريا فيما بينها، ويساهم كل منها بدوره في صياغة حضارة إنسانية شاملة واحدة. يحدث التراكم الحضاري من أجل التقدم البشري. البشرية كلها مشروع بحث عن الحق والكشف عنه، ومساهمة كل أمة في هذا المشروع دون مركزية لإحداها، أو عنصرية لقوم، أو إجحاف لحق الأمم الأخرى، بل الاعتراف بدور الأمم السابقة وفضلها بالدفاع عنها. كل أمة تكمل الأمم السابقة، ما نقص عندها. هناك تكامل بين الأمم، وليس الهدم أو الإنكار المتبادل. مهمة المحدثين إكمال ما ترك القدماء ناقصا في نظرة كلية شاملة؛ فالأجزاء فيه تتجه نحو التكامل، والكل يضم الأجزاء فيه.
1
الخلاف بين الحضارات في اللسان، وليس في الفكر، أو في البحث عن الحق وطلبه، أو الوصول إليه؛ لذلك لزم شكر القدماء والاعتراف بفضلهم؛ إذ لا يمكن ذم من كانوا أحد أسباب المنافع الكبرى والصغرى، حتى وإن قصروا عن الحق فإنهم شركاء فيه بما أفادوه من ثمار فكرهم التي استفاد منها البشر جميعا. لم يستأثر شعب بالحق كله، بل ساهم في معرفته الجميع؛ فالشكر لهم جميعا للصغير والكبير لمن ساهم بالقليل وبالكثير؛ فلولا القدماء لما كان المحدثون، والحق فوق الأمم والشعوب، ولا يضير الحق أن يعلن من الأمم البعيدة والأجناس القاصية، وكأن الكندي يعبر عن آية
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
2
بداية الوعي بالتاريخ هو البداية بالقدماء وإكمالهم، والتحول من النقل إلى الإبداع.
Unknown page
3
ولم يذكر الكندي أرسطو في «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، وهي عمدة رسائله الفلسفية، إلا مرة واحدة استشهادا به على فكرة الكندي الخاصة بضرورة احترام القدماء، أو أخذ الحق من أي مصدر كان دون الانغلاق على الذات والتشنج ضد الآخر ورفضه، مجرد حجة خارجية لفكرة داخلية اعتمادا على أكبر سلطة عند القدماء في الحضارات القديمة لإيجاد نوع من التواصل بين القديم والجديد؛ لذلك كانت أكثر الألفاظ ورودا في مؤلفات الكندي التي تتمثل الوافد «القدماء»، «حكماء القدماء».
4
ولا يشير الكندي إلا إلى كبار الحكماء المبرزين منهم؛ فهم علامات تطور الحضارة البشرية. والإشارة إلى القدماء على وجه العموم دون تحديد حضارة خاصة، وإن كانت اليونانية هي الأغلب، أو تعيين لتيار أو فيلسوف خاص، وإن كانت الرواقية هي الأغلب. وتحقيق المناط في التاريخ لا يهم، بل المهم الفكرة والاتجاه القصد. (ب) وفي «سجود الجرم الأقصى» قد تتحول حضارة بفكرة تقبلها باقي الحضارات، مثل فكرة تقابل العالم الأصغر مع العالم الأكبر، وتصبح فكرة معقولة في حكمة البشر بصرف النظر عن الشعب القائل بها أولا. له فضل السبق، ولكنها مستقلة عنه، تطابق العقل والواقع، صورة فنية، تشبيه إنساني، تسانده الملاحظة والتجربة ويدعمه النقل،
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، ورددها إخوان الصفا فيما بعد. تمثل الوافد إذن يقوم أحيانا على انفتاح على الموروث بطريقة لا شعورية؛ إذ يقبع الموروث في اللاشعور يستقبل الوافد في الشعور.
5
ويشير الكندي إلى ما أسماه القدماء الحكماء من اليونانيين بعد المشاهدة والتجربة والتعليل، ويصدق أقوالهم؛ فمراجعة كتب القدماء ضرورية قبل التسليم بها، ولا يمكن معرفة كتب القدماء دون معرفة أوائل العلوم، وإلا كان الناقل لها كالحمار يحمل أسفارا، كالأمي الذي لا يعرف لغة أو يقرأ كتابا. وتتم مراجعتها بالحس والمشاهدة، والانتقال من اللفظ والمعنى إلى الشيء، ومن الخطاب إلى الواقع، ودون ذلك لا يمكن فهم كتب القدماء. شرط الفهم معرفة العلم أولا قبل قراءة كتاب علم، انتقالا من الشيء إلى اللفظ، ومن الواقع إلى الفكر. هناك إذن حدود للمعرفة المكتبية التي لا حصر لها، ولكن يمكن ضبطها بالتجربة المباشرة؛ لذلك يفرق الكندي بين الاسم والمسمى، وحدة المسمى وتعدد الأسماء؛ فالشيء مستقل عن اللغة، والموضوع سابق على الإدراك؛ لذلك تشير الحضارات إلى نفس الشيء بلغات متعددة. يستعمل الكندي إذن منهجا مركبا في العلم. حين تمثل الوافد يقوم على أربع خطوات، هي: (أ)
معرفة أوائل العلوم الطبيعية، وترتيبها وفنونها والصبر عليها؛ فالتمثل لا يبدأ بالكتاب، بل بالمعرفة السابقة عليه، انتقالا من الشيء إلى اللفظ، ومن العالم إلى اللغة، ومن الأنا إلى الآخر . (ب)
مراجعة كتب القدماء؛ فالتمثل ليس موقفا سلبيا يقوم على التحصيل والتعليم والنقل ، بل على مراجعة المنقول ابتداء من المعروف بالعقل والتجربة. (ج)
معرفة لغتها والتفرقة بين الأسماء والمسميات حتى يسهل التفاعل بين الأنا والآخر، بين المنقول والأشياء المستقلة عنها، والتي هي مشاع بين الحضارات جميعها. (د)
Unknown page
العلوم الإنسانية نسبية محدودة، تختلف في إدراكها الحضارات والشعوب. ومن هنا أتت ضرورة التكامل بينها من أجل رؤية متكاملة للموضوع المستقل وراء المنقول.
6
وأحد أسباب تمثل الوافد عند الكندي اختصار ما أطاله القدماء طبقا لما عرف صحته وجربه بنفسه؛ فهو ليس اختصارا للأقوال، بل تحقق من صدقها، واستبقاء ما طابق الواقع، وحذف الحشو والإطالة، وما لا يطابق الواقع أشبه بدور «الجوامع» عند ابن رشد. ويتم الاختصار بناء على التجربة، والمراجعة لأقوال القدماء، والتوثق من صحتها بمراجعتها على التجارب تمحيصا لها، وهو مقياس مستمد لا شعوريا من مصطلح علم الحديث، مراجعة الخبر على الحس؛ فشهادة الحس أحد شروط التواتر مع العدد الكافي، واستقلال الرواة، وتجانس انتشار الرواية في الزمان.
7
المطابقة مع الحس أساس الحكم على صحة ما يقوله القدماء كرواية تاريخية، كما هو الحال في نظرية العلم في علم الأصول واليقين في الأخبار. لا يكفي في العلم مجرد روايات السابقين ونقل آرائهم، بل لا بد من تمحيصها وتصديقها وزيادتها بالعلم المباشر.
8
ولا يشذ على هذه المراجعة والتصديق أحد، حتى ولو كان أرسطو. (ج) وفي «المد والجزر» روى أرسطو أن نصول السهام إذا رمي بها في الجو ذاب الرصاص الملصق بها، وهي رواية محرفة؛ لأن رصاص السهام لا يذوب في نار المدة التي يخرق بها السهم الجو، ولا يمكن أن يحمي الهواء أكثر من النار، كما أن الهواء الذي يخرق السهم يتغير بهواء جديد؛ فالتجربة لا تصدق هذه الرواية عن أرسطو، والتجربة مدعاة للتصديق؛ لأن الحس مقياس صدق الخبر.
9
ويذكر أرسطو للتحقق من صدق رواية ذوبان رصاص السهام باختراقها الجو؛ لأن التجربة أثبتت أن الحرارة المتولدة عن الاحتكاك بالهواء أقل من حرارة النار، كما أن الهواء البارد اللاصق في الجو يبرد حرارة الاحتكاك بالهواء المحتك؛ فالرواية عن أرسطو محرفة بالضرورة. (د) وفي «رسالة الجو» يراجع الكندي من القدماء أقوال مارينوس وبطليموس، وقياساتهما لارتفاع البخار معللا بارتفاع الجبال في بيئتهم؛ فالعلم تحليل كمي، وليس فقط تحليلا كيفيا؛ يعتمد على القياس، وليس على مجرد الرأي؛ فالإحالة إلى الآخر بناء على سؤال التراث، ومراجعة صحة نتائج الآخر بعد تجربة الذات، كان يمكن للكندي ذكر غيرهم؛ فالتخصص لا يعني التشخيص أو الإعجاب بشخص دون غيره.
10
Unknown page
ويسمي الكندي أصحاب المقالات في علم الهيئة المتكلمين، وهو لفظ موروث لتمثل الوافد؛ ومن ثم يصبح القدماء أشبه بفرقة كلامية ما دامت قد انتشرت أقوالها في الداخل، وكأنها من الفرق غير الإسلامية. يدرس الكندي الموضوع، فإذا ما اتفق مع القدماء أشير إليهم، خاصة إذا كان القدماء من المنجمين؛ أي من العلماء غير العلميين. وقد يرجع اختلاف العلماء إلى اختلاف الأسماء على نفس المسميات.
11
وواضح أن المراجعة تتم أولا في العلم اليوناني قبل أن تكون في الفلسفة اليونانية، وأن تمثل الوافد كان أولا للعلم قبل أن يكون للفلسفة؛ فقد كان الكندي طبيبا ورياضيا وطبيعيا وفيلسوفا، يدرس الطبيعيات والرياضيات دراسته للإنسانيات والإلهيات.
وصلة القدماء بالمحدثين صلة الأصول بالفروع، وهما مفهومان أصوليان؛ فقد وضع القدماء القواعد وبنى المحدثون عليها، وهي نظرة أيضا أصولية، الأصل والفرع في القياس الشرعي. يضع القدماء المقدمات ويستنتج المحدثون النتائج، والبحث بلا مقدمات لا يؤدي إلى شيء، ومضيعة للعمر والوقت. وإن ظهور تعبيرات، مثل القدماء المبرزين من المتفلسفين قبلنا من غير أهل لساننا، حكماء القدماء من غير أهل لساننا، القدماء من اليونانيين، الحكماء القدماء، المتقدمين، القدماء من حكماء اليونانيين، لأكثر ذكرا من أعلام اليونان، أرسطو وأفلاطون وسقراط وبطليموس وأيسقلاوس والإسكندر. يحيل الكندي إلى القديم من أجل تأصيل الجديد، ويتمثل الوافد من أجل تنظير الموروث فيما بعد بصرف النظر عن الأشخاص، وهو وعي تاريخي حضاري عام يكشف عن تفاعل الحضارات، وليس تبعية مفكر لمفكر، أو إعجاب فيلسوف بفيلسوف، أو عشق حكيم لحكيم، كما يفعل الباحثون في هذا العصر. (ه) وفي «الجواهر الخمسة» يذكر الكندي من المجموعات الفلاسفة واختلاف آرائهم في الزمان دون ذكر لأفلاطون أو أرسطو، كما فعل في المكان. قال بعضهم إنه الحركة ذاتها، بينما أنكر ذلك البعض الآخر. ثم يتحقق الكندي من صواب أحد القولين أو خطئه دون الاعتماد على أفلاطون أو أرسطو، أو ذكر لهما أو لغيرهما. يحكم الكندي على الأقوال ويفصل بينها كما يفصل الإسلام مع باقي الديانات، وكما يفعل القدماء مع الكتب السابقة، حكما وفصلا للخطاب،
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، وكما يفعل ابن رشد القاضي للفصل بين المتخاصمين وهم الشراح. ويحيل إلى شرحه لكتاب المقولات؛ أي إلى الأنا متمثلا الوافد، وليس الوافد مباشرة كما هو الحال في العرض.
12
ويشير الكندي في «الجواهر الخمسة» إلى أرسطو (مرتين)، وأفلاطون (مرة واحدة)، وربما استعمل الكندي لأول مرة صياغة «قال» الحكيم أرسطوطاليس بداية بالقول، وليس بداية بالشيء، ووصفه بأنه الحكيم احترام له. وسبب الاحترام أن الحكمة ضالة المؤمن، والحكيم من صفات الله؛ فأرسطو مر على الإسلام أولا. ويقدم الكندي قراءة إسلامية لأرسطو اليوناني، ويحدد الموضع الذي قال فيه أرسطو ذلك توخيا للدقة، واستشهادا بعلم مدون، وليس فقط برأي شخص عن هوى أو ظن، ثم يظهر أفلاطون مع أرسطو في تعريف المكان، واختلاف الفلاسفة فيه سبب غموضه وخفائه؛ فبينما أنكره البعض، قال البعض الآخر مثل أفلاطون إنه جسم، وقال فرد ثالث إنه ليس بجسم، وقال أرسطو إنه موجود وبين. لم يذكر الكندي إذن أفلاطون وأرسطو بشخصيهما، بل لأنهما يمثلان رأيين بنيويين في المكان، وليسا مقصورين عليهما فقط، بل يشاركان فيهما غيرهما من الفلاسفة. ويستعمل الكندي عبارة «أما أرسطوطاليس»؛ أي إنه قد يكون لديه القول الفصل في النهاية، ثم لا يترك الكندي لأرسطو هذا القول الفصل في النهاية دون توضيحه والكشف عنه بمزيد من البرهنة. هناك إذن تحقق ومراجعة، وليس تبعية أو تقليدا.
13
والانتقال من القديم إلى الحديث هو انتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن الصعوبة إلى السهولة، وكان تطور الحضارات كما برز في تطور الفلسفة هو نحو مزيد من الإيضاح والسهولة.
14
Unknown page