Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
أما الإشارات إلى أسماء الحكماء، فإنه تم تفضيل النسبة على الكنية أو اللقب، الكندي وليس أبو يعقوب أو فيلسوف العرب، والفارابي وليس أبو نصر أو المعلم الثاني، وابن سينا وليس أبو علي والشيخ الرئيس، والغزالي وليس أبو حامد أو حجة الإسلام، وابن رشد وليس أبو الوليد أو الشارح الأعظم. فالكنية تحول العلم إلى شخص، وقد تقلل من هيبته وثقله في التاريخ، ولا يعرفها كل القراء. واللقب يضفي عليه هيبة أكثر مما هو عليها، تقدسه وتعظمه وتمنع من نقاشه والحوار معه وتجاوزه. كما أن هذه الألقاب من صنع التاريخ ومن وضع المؤرخين في عصور متأخرة عندما تحول الماضي إلى مقدس وعز الإبداع في الحاضر، وهو ما يعارض روح «من النقل إلى الإبداع»، بل ومشروع «التراث والتجديد» كله، الذي يقوم على أن الحاضر يزخر بإمكانيات أكثر من الماضي، وأن المستقبل أغنى وأثرى من الحاضر طبقا لروح التقدم في التاريخ. (2) إغفال المراجع الثانوية
المراجع الثانوية نوعان؛ الأول دراسات المستشرقين، والثاني دراسات العرب المحدثين. وتأتي في المرتبة الثانية من أجل تصحيح حكم خاطئ. وما دام الأصل موجودا فلم الفرع؟ وما دام «من النقل إلى الإبداع» دراسة نصية للمصادر الأولى، فلم مضغ اللقمة ثانية في فم الآخرين؟ إن أهمية الاستشراق ترجع فقط إلى تحقيق النصوص كوثائق تاريخية، والتعريف بالتراث وإخراجه من بطون المكتبات القديمة استئنافا لدور الحضارة في التحقيق العلمي للتراث، بداية باليوناني ثم المسيحي في العصر الوسيط وانتهاء بالتراث اللاأوروبي في الهند والصين والعالم الإسلامي. ترجع أهمية الاستشراق إلى توفير المادة العلمية دون تحليلها، إعطاء البدن دون الروح، والنظر إلى العالم دون الله. به كل شيء ولا شيء، المعلومات دون العلم، النظر دون الرؤية، وبطبيعة الحال الماضي دون الحاضر. فالمستشرق غريب على التراث وليس من أصحاب الدار، لا يهمه احتراق المنزل ما دام يتعامل مع الرماد، ولا يهتم بالأحياء طالما يخاطب الأموات. أما التحليلات والاستنتاجات والأحكام فشيء آخر يخضع لمناهج الاستشراق وتنبع من عقلية المستشرقين. الاستشراق بهذا المعنى «موضوع دراسة» وليس «دراسة موضوع». هو في حاجة إلى مراجعة علمية دقيقة قبل استخدامه كمرجع من أجل تصحيح الأحكام أو من أجل إيجاد الدلالة الحضارية للمادة التاريخية الخام.
92
نشأت معظم الدراسات الاستشراقية قبل نشأة علوم التأويل المعاصرة والأنثروبولوجيا الحضارية. لم يقم بها فلاسفة أو مفكرون أو مثقفون وطنيون يحملون هموم الفكر والوطن، بل لغويون ومؤرخون وضعيون على طريقة القرن التاسع عشر. ليس الهدف هو إثبات الإبداع الذاتي للشعوب، بل تفريغها من مضمونها وإثبات تقليدها للغير ، اليونان القديم أو الغرب الحديث في حالة دراسة الفكر العربي الحديث لنقل الأطراف إلى إبداع المركز. ما أسهل من إصدار قائمة مراجع الاستشراق من أية مكتبة عامة أو من هوامش آخر المستشرقين أو من الموسوعات والمعاجم أو من المجلات الاستشراقية المتخصصة ومؤتمرات جمعياتها السنوية، براءة من عقدة النقص أمام الاستشراق، وتأكيدا لمركب العظمة والتفوق عند الغرب. لقد بلغت الدراسات والبحوث الوطنية سن الرشد، ولم تعد في حاجة إلى هذا التحايل النفسي على الذات وعلى الآخر باسم البحث العلمي الدقيق.
93
ولا يعني الاستشراق فقط دراسة الأوروبيين لعلوم الحكمة، بل يشارك فيها أيضا بعض الباحثين والأساتذة العرب المحدثين، نصارى ومسلمين، في الجامعات الوطنية والخاصة، حتى أصبح هذا النمط من الدراسات هو العلم الذي تعطى في اجتيازه الشهادات والدرجات العلمية.
94
ولا يبحث العالم إلا همه. ولما كان همه هو إبداع المعاصرين وتجاوز نقلهم بدليل إبداع القدماء، فإن هم المستشرقين إثبات نقل القدماء بناء على نقل المعاصرين، وتأكيدا للمركزية الأوروبية القديمة عن اليونان أو الحديثة عند الغربيين المحدثين. ويمكن تحقيق هدفي موضوعيا في حين يصعب تحقيق هدف المستشرق إلا ذاتيا بناء على الأحكام المسبقة والحكم بظاهر اللغة في النصوص الفلسفية القديمة ونقص في العلم بمناهج التأويل الحديث والأنثروبولوجيا الحضارية، مع أنه تربى في الغرب وتعلم في جامعاته. ولكنه لا يستعمل ذلك كله إما كسلا أو تجاهلا. فدراسة الشرق تتم بأسهل الوسائل، اللغة والتاريخ، والتحرر الثقافي كقصد أقرب إلى الموضوعية من الغزو الثقافي كهدف.
إن الاستشراق العربي، وهو امتداد للاستشراق الغربي، إنما يقوم على التبعية للغرب والإعجاب بتقدمه، وأنه آخر ما وصلت إليه البشرية من تقدم، وأنه هو المبدع الخلاق، وما على غيره من الشعوب إلا التبعية والتقليد. وهذا إحساس بالنقص أمامه، والعجز أمام خلقه، ونسيان للإبداع الذاتي للشعوب عبر التاريخ مثل إبداع القدماء. ولو أخذ الاستشراق العربي موقفا حضاريا ذاتيا، واعتبر نفسه من الداخل وليس من الخارج مسئولا عن التطوير وإعادة البناء لتحول من استشراق عربي إلى بحوث وطنية.
أما النوع الثاني، وهو الدراسات الثانوية التي كتبها معظم أساتذة الجامعات المصرية خاصة والعربية عامة في عصر النفط ومن أجل الترقيات والإعارات والتدريس اعتمادا على كتب جامعية مقررة، فإنها لا تمثل تأليفا علميا بهدف البحث العلمي، فلا هي بالاستشراق الغربي الأصلي، ولا هي بالدراسات الوطنية المحلية. لا تحمل هموم العلم أو الوطن. يكرر بعضها أحكام الاستشراق تملقا للغرب وإحساسا بالدونية أمامه وتشدقا بالاطلاع عليه، والبعض لا يكاد يعرف اللغات الأجنبية الأصلية التي كتب بها ولم يعرفها إلا ببعض الترجمات المحلية. وتصدر أحكام مماثلة في عبارات عامة مثل تسمية علوم الحكمة الفلسفة العربية أو الحديث عن أثر اليونان في الفلسفة الإسلامية دون تحليل لمعنى الأثر ودون وعي بالنص كموضوع حضاري. مثل هذه المؤلفات هي مؤشرات على انهيار الدراسات الإسلامية والبحوث في علوم الحكمة كدليل على انهيار عام للحضارة آثر فيها خلفاء الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد على أن يكونوا متفرجين من الخارج وليسوا أصحاب دار، متكسبين بعرض القدماء وليسوا مطورين لهم، مفضلين عالم النفط الخارجي والساعات الإضافية الداخلية على محبة الحكمة.
Unknown page