Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
وبالإضافة إلى جوهر النفس هناك قوى النفس. فالنفس ثلاث قوى: إلهية وبها الفكر والروية ومسكنه الدماغ، والثانية غضبية ومسكنها القلب، والثالثة بها شوق المرء إلى اللذات ومسكنه الكبد. الاعتدال فضيلتها، لذلك كانت فضائل النفس أربع، وفضائل الجسد أربع: الحلم، والعدل، والشجاعة، والعفة للنفس، والتمام، والكمال، والقوة، والجمال للجسد. ومن ساد نفسه بالاعتدال توحد الغضب والشهوة. لكل منهما مقدار. لو زاد عن الحد انقلب إلى شر. حركة القوة الشهوانية تلقاء الرغبة. وحركة القوة الطبيعية تلقاء الرهبة، وحركة الفكر تلقاء العلة. وهي الطبقات الثلاث للناموس، الطبقة العليا بالمحبة، والوسطى بالرغبة، والدنيا بالرهبة. والعشق طمع يتولد في القلب وتعلق الرفيع بالوضيع يسمى شوقا. وتعلق الوضيع بالرفيع يسمى محبة. فالشوق والمحبة مبادئ اتصال العالم. والفرق بين المحبوب والمعشوق أن المحبوب يؤثره الإنسان لنفسه، والمعشوق يؤثر نفسه لها. وفي المعشوق قوة أكثر من العاشق كي تطلب نفس العاشق منه قوة. ومحبة العاشق للمعشوق لحسن التمام. وقد يختلف العاشقان في العشق، واحد عاشق والثاني غير عاشق. وهناك فرق بين الهم والغم. الهم تقسم الأفكار، وحيرة النفس وخمولها، وهو سريع الزوال. أما الغم فخطر كبير، يذهب القوة، ويفقد الحرارة، ويهدم الجسم، ويكدر الأوقات. هو ألم نفساني لفقد محبوب أو فوت مطلوب.
58
وليس الموت مكروها لمن عمل وتدبر. الهم والغم غير واجبين على الحقيقة. لهما أسبابهما فيما يألفه الطبع حتى يصير طريقا للهم وسببا للغم.
59
والنفس إذا فرحت قلقت الطبيعة، واشتدت حركتها، وفار الدم، واحمر الوجه. ويكثر الضحك لاسترخاء العضلات. والحزن يؤدي إلى العكس، يصفر الوجه. فانفعالات النفس لها أسباب عضوية، واللذة غاية الفعل على مجرى الطبيعة والقوة أبدا. تحرك الشيء من غير موضعه. والفعل أولى من اللافعل، والوقوع أفضل من التوقع، والتضاد إزالة الأجزاء التي بالفعل إلى الأجزاء التي بالقوة لتخرجها إلى الفعل. ولا يضاد العقل والنفس غير لأنها بالفعل.
60
ثم يتحول الانتحال إلى الأخلاق الفردية كما هو الحال عند الفلاسفة والصوفية حول فعل الخير بالطبيعة ومن تلقاء النفس. فالمرء الفاضل هو من يفعل أفعاله تلقاء العلة لا تلقاء المعلول كما صرح بذلك أفلاطون في كتاب «السير». وربما يكون هو كتاب «السياسة». وكل فعل عن شهوة النفس لا تشارك فيه النجوم لأنه فعل خير لا محالة دفاعا عن خلق الأفعال. وكل فعل تشارك فيه الكواكب هو فعل مركب وبالتالي ينشأ التضاد بين الخير والشر. والفعل الأوحد لا شر فيه. والفعل فعلان، عام وخاص. والعام كله خير والخاص يرى خيرا أو شرا لأنه نابع من القوة الاختيارية. والفعل الخير هو ما وافق العقول. والشر عدم الخير البتة. وليس المرض وأمثاله شرا بل بعض الخير. الخير والشر ذاتيان وليسا موضوعيين، على مستوى المعرفة وليسا على مستوى الوجود:
عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . والله ليس مسئولا عن الشر في العالم لأن كل ما يصدر عنه فهو خير. لا يفعل الله إلا ما جمع بين القدرة والحكمة. القدرة دون الحكمة تسلط، والحكمة دون القدرة ضعف. ولا يفعل الباري شيئا ضد الفطرة، فهي البرهان على حكمته. أعطى كل مادة مقدار احتمالها من وجوده، ولم يمنعها ما أطاقته من حوله. والصدق أمانة في القول. ويضرب المثل على ذلك من حروب اليونانيين عندما ضرب أراميس الحكيم ضربتين بالسيف، الأولى في يديه والثانية في خاصرته، وأوصى بالأمانة والصدق والعدل قبل أن يقضي نحبه وتفارق الروح الجسد. فالإخراج هنا يوناني حتى يكون الانتحال من البيئة ذاتها، خارجا منها وليس آتيا لها. والكلام الصادق يؤثر في النفس كما لاحظ أفلاطون. القلب يبصر القلب والنية تحس بالنية.
ثم ينتقل الانتحال من الأخلاق الفردية إلى الأخلاق الاجتماعية أو السياسية. فالسياسية لا تعني الحكم، بل تعني سياسة المرء لبدنه ونفسه، وسياسة الأصحاب بمعنى إخوان الصفا بما في ذلك علاقة الإنسان بربه. فالدين بهذا المعنى سياسة، والسياسة دين. وأقوى الأسباب في محبة الرجل امرأته أن يكون صوتها دون صوته، وتمييزها له دون غيره، وقلبها أضعف من قلبه. وسلوك الناس يقوم على ثلاثة دوافع: الأول اقتضاء الحاجة مثل الطعام ضد الجوع، والثاني الموافقة مثل طعام أفضل الأطعمة، والثالث للكمال والاستحسان. الأول مثل الجماع لطلب الولد، والثاني لطلب المنفعة والتخلص من المني الزائد، والثالث للحسن والجمال. لذلك كان الناس على ثلاث مراتب: الشهوة والغضب والعقل طبقا لقوى النفس الثلاث، النقص، والكمال النسبي، والكمال المطلق. وهي تعادل قسمة الأصوليين مقاصد الشريعة إلى تحسينات وحاجيات وضروريات. وتكون الاستشارة من نفس الطبقة خشية الانحراف عن العدل. ولا ضير أن يكون المجادلون والمتحكمون في المدينة. فمنهم تحدث الآراء الرديئة حتى تقابلها الآراء الحسنة.
ثم يتحول الانتحال من الأخلاق الفردية والاجتماعية إلى الأخلاق الدينية والشرعية. فليس من المعقول ألا يكون لأفلاطون الإلهي كتاب في التوحيد وكتب أخرى في العقل والنفس وهو فيلسوف النفس، بل في الجوهر والعرض حتى لا يقل عن أرسطو في الطبيعيات. يؤمن بالقضاء والقدر والوحي والنبوة، والمعاد والثواب والعقاب والجنة والنار. والطاعة للملك مثل طاعة الإمام، لا فرق بينه وبين أولياء الله الصالحين. والوحي غير الرؤية والكهانة. الوحي أعلى من العقل، والعقل أعلى من النفس موطن الرؤية والكهانة. بينها وبين الوحي درجة متوسطة. الوحي ثابت لا زيادة ولا نقصان فيه على عكس الرؤية والكهانة. وهو التصور المعروف بين الوحي والإلهام. ويقول الإله على لسان القدماء أنه ينتقم من الذين لا يطيعون الله على سنته. كما تظهر بعض القيم السلبية كما هو الحال في الثقافة الشعبية الوافدة من الأخلاق الصوفية مثل الاستسلام والصبر، وإيثار السلامة والطاعة.
Unknown page