Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
الثقة بالنفس وعدم الخوف على الدين الجديد من الديانات القديمة، بل والإقبال على الثقافات السابقة في وقت لم تملك فيه الحضارة الناشئة ثقافة إلا الشعر والديانات العربية القديمة، والعادات والأعراف القبلية. كما تدل على الانفتاح على الآخرين، وأن فتوح البلدان لا تعني القضاء على ثقافاتها كما حدث في الاستعمار الغربي الحديث، بل الحفاظ عليها، والتعرف على مضمونها، ونقلها إلى لغة الفاتحين، وتقديرها واحترامها، واستخدامها كأدوات للتعبير، بل والدفاع عنها ضد سوء تأويلها والطعن فيها والنيل منها، وإكمال أوجه نقصها، والجمع بين شتاتها، وضمها كلها في منظومة واحدة، ورؤية شاملة تعبر عن تصورها للعالم، وإعطائها نسقا متكاملا، ومثالا خالدا على إبداع الثقافات. فتأكيد الهوية لا يمنع من الاختلاف، وإثبات الأنا لا ينفي الآخر، وتأصيل الذات لا يكون على حساب الغير، وليس كما يحدث هذه الأيام من انغلاق للأنا على ذاتها باسم الدفاع عن الهوية والأصالة، والخصومة مع الغير والعداء للآخر باسم تأكيد الأنا وإثبات الذات؛ فانغلق الأنا وانعزل الآخر، وحدث الشقاق في الأمة، وازدوجت الثقافة، ونشأ الصراع بين الأخوة الأعداء؛ بين السلفية والعلمانية، بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والتجديد، بين العقيدة والثورة. ظاهرة «الشكل الكاذب» مجرد افتراض عقلي قادر على تفسير جدل اللفظ والمعنى والشيء في حالة الالتقاء الحضاري بين ثقافتين، مجرد ظاهرة لغوية لا تمس الإحساس أو الوجدان أو الفكر والنظر أو الممارسات العملية، مثل تحويل لفظ ما بعد الطبيعة أو الفلسفة الأولى إلى إلهيات، أو تحويل الله إلى عقل فعال. (2)
القدرة على الحوار مع الآخر، والتعامل معه من موقف الندية مع الاحتكام للعقل والطبيعة والتجربة الإنسانية. لم تأخذ الحضارة الناشئة دور العقيدة الجديدة المتعالية على ثقافات الغير، وهي عقيدة الفاتحين المنتصرين بناء على مركب عظمة. ونظرت لحضارات الشعوب المفتوحة نظرة دونية بناء على مركب نقص. بدأت الحضارة الناشئة بتقدير العلم واحترام العلماء؛ فهي وريث الديانات القديمة وحاملة لواء الفتح الجديد. ولا فرق بين الوحي والعقل، بين النبي والفيلسوف؛ لذلك وزن الخلفاء ثقل المخطوطات اليونانية القديمة ذهبا لإحضارها من بلاد الروم إلى عاصمة الخلافة. وانتسب النصارى إليها، وقاموا بخدمتها وترجمة التراث اليوناني من لغتهم السريانية إلى اللغة العربية. كانوا نصارى دينا، وعربا لغة، ومسلمين ثقافة. ولأول مرة في تاريخ التقاء الحضارات تحدث هذه الندية المتبادلة بين ثقافة الفاتحين وثقافة المفتوحين، بل وأحيانا لحساب ثقافات المفتوحين لغة ومثلا وتصورات، اعترافا بفضل الآخر على الحضارة الإنسانية، تأخذ البدن منه وتعطيه الروح. (3)
الوعي المستنير بالصلة بين اللفظ والمعنى والشيء، بين اللغة والفكر والعالم؛ فاللفظ مجرد أداة للتعبير، ولكنه ليس جوهر المعنى، فالمعنى مستقل عنه. اللغة مجرد شكل خارجي لمضمون الفكر، ويمكن التعبير عن نفس المعنى بألفاظ عديدة؛ فالله هو الجوهر والماهية، وواجب الوجود، والعلة الأولى، والمحرك الأول، والغاية القصوى، والخير المحض، والصورة الخالصة بألفاظ اليونان. وهو الكمال، والمثال، والمطلق، والصيرورة، والدافع الحيوي، والتطور الخالق، والحرية، والوجود، والمستقبل بلغة المعاصرين . اللفظ متغير والمعنى ثابت. والألفاظ تأتي من لغات متعددة، وتنطق بأصوات متغايرة. أما المعنى فلا يتغير من لفظ إلى لفظ أو من لغة إلى لغة. وقد تتغير التصورات والمفاهيم والرؤى التي هي تأويل للمعاني طبقا لنوعية الثقافات وخصوصية الحضارات، التحولات الدلالية للمعنى طبقا لطبائع الشعوب وأمزجتها. أما الشيء فهو الموضوع القصدي؛ فالعالم أصل الأشياء، لا خلاف عليه بين لفظ ولفظ، وتصور وتصور. العالم أصل اللغة، والأشياء منشؤها. (4)
الاعتراف بحدود اللفظ القديم الذي استعمله علماء الكلام، وأنه أصبح غير قادر على مواجهة الخارج، وإن كان قادرا على مواجهة الداخل، وأن مواجهة الخارج تتطلب ألفاظا من نوعه، وأسئلة مستمدة منه، وليس ألفاظا محلية تقليدية قديمة لا تقوى على الحداثة، وتعجز عن المعاصرة. هي ألفاظ دينية ارتبطت بدين معين، وبتراث خاص لا تقوى على رحابة العقل، وإطلاق الفكر في الوافد اليوناني. هي ألفاظ اصطلاحية مغلقة على ذاتها، يصعب الخروج منها أو الدخول إليها، ألفاظ شرعية يصعب معها الحوار والأخذ والعطاء، والتفاعل مع ألفاظ أخرى. المعنى الشرعي الاصطلاحي هو ركيزة المعنى الاشتقاقي والعرفي، هو المعنى الثابت، والعرفي هو المتحول، والاشتقاقي هو جذره الحسي في عالم الأشياء. هي ألفاظ نشأت من ثنايا الوحي، لها قدسيتها وإطلاقها، ولا يمكن تعقيلها أو تنظيرها أو حتى تأويلها. ليست ألفاظا عقلية عامة يمكن الحوار معها واستبدال بعضها بالبعض الآخر. هي ألفاظ خاصة لوحي خاص، الوحي الإسلامي، وليست ألفاظا عامة تنطبق على الوحي وعلى غيره من مراحل الوحي السابقة أو من الاجتهادات البشرية المستقلة. لا تتمتع بقدر كاف من العموم لمخاطبة الناس جميعا؛ فكل حضارة تنشأ إنما تبدأ من خصوصية المصطلحات. (5)
التسليم بعجز المصطلحات القديمة عن التعامل مع الثقافات الوافدة. لقد انتشرت هذه المصطلحات في علم الأصول وهو في مواجهة الداخل، ونجحت في كسب معاركها، ولكنها عاجزة عن مواجهة الخارج الذي يعتمد على العقل وحده، ويقدم مصطلحات عقلية صرفة. لقد تمت التضحية بالألفاظ القديمة وقصرها على علم الكلام وتبني الألفاظ الجديدة، وإنشاء علم بأكمله هي علوم الحكمة؛ فقد تجددت الحياة الثقافية، وانتشرت الثقافة الأجنبية، وأصبحت تمثل الآخر المطلق السراح تحديا للذات. لم تعد الألفاظ الاصطلاحية الخاصة قادرة على التصدي للغزو الثقافي الجديد فنشأت مصطلحات جديدة أكثر اتساعا وعقلانية، وأقدر على الحوار مع الثقافات الوافدة. (6)
الاعتراف بفضل المصطلحات الجديدة لما تتسم من عقلانية وطبيعية وواقعية وإنسانية. وهي من السمات الرئيسية للوحي وأسسه في العقل والطبيعة والإنسان والمجتمع والتاريخ، والجرأة على استخدامها، وترك الألفاظ القديمة بالرغم من هجوم الفقهاء واتهام الحكماء بالتبعية والتقليد، والخروج على الموروث، والمروق عن الدين. كانت المصطلحات والألفاظ اليونانية بالمصادفة التاريخية عقلانية طبيعية إنسانية متفقة مع مضمون الألفاظ القديمة، فسهل انتشارها، والتعبير عن المعاني العقلية الطبيعية الإنسانية بألفاظ جديدة مطابقة لها، والبعض منها ألفاظ مشتركة بين القديم والجديد مثل العقل والنفس، والروح، والإنسان. فلماذا يحكم على هذه الألفاظ المشتركة بأنها وافدة من الخارج وليست نابعة من الداخل؟ الأقرب أن تكون هي الألفاظ القديمة بمعاني جديدة لا ترفضها المعاني الاصطلاحية؛ فالتجديد اللغوي إنما يحدث في حالة عجز الألفاظ القديمة عن التعبير عن المعاني الجديدة فقط. أما في حالة القدرة فتبقى الألفاظ التي يتطابق فيها القديم مع الجديد. (7)
كان من الطبيعي بعد عصر الترجمة وانتشار ثقافات جديدة بألفاظها أن تنشأ عملية تجديد عن طريق تغيير الألفاظ، إسقاط الألفاظ القديمة لعجزها عن التعبير عن المعاني الجديدة، واستعمال الألفاظ الجديدة كأدوات للتعبير والأكثر قدرة على الحوار والتفاعل بين الموروث والوافد. والألفاظ هي ثوب الفكر، والفكر بطبيعته متعدد الأثواب. وإذا ما كبر الثعبان غير من جلده وإلا ضاق عليه ومات. ودون هذه العملية تقع الأمة في ازدواجية الثقافة. تعجب الخاصة بالجديد فتتصل به وتنقطع عن القديم. فالفكر أولى بالحرص عليه من اللغة، والمضمون له الأولوية على الشكل. فتتمسك العامة بالقديم كرد فعل على الخاصة، وتتصل به وتنقطع عن الجديد، وبالتالي تقع الأمة في صراع بين العلمانية الجديدة والمحافظة القديمة، بين اختيار الصفوة وثقافة الجماهير.
ظاهرة «التشكل الكاذب» وهو الافتراض الذي يقوم عليه «من النقل إلى الإبداع» من أجل إعادة بناء علوم الحكمة تقوم على تحليل لغة الخطاب، الخطاب الموروث والخطاب الوافد من أجل معرفة كيف نشأ الخطاب الفلسفي الثالث وكيف تكون عن طريق عملية الاستبدال اللفظي مع الإبقاء على المعاني ثم التنسيق بينها في التعبير عن تصور للعالم يجمع بين أصالة الموروث وحداثة الوافد.
53
أما الأشياء ذاتها فإن التعبير عنها يمثل مرحلة الانتقال من النقل إلى الإبداع؛ فجدل اللفظ والمعنى أقرب إلى منطق النقل، في حين أن جدل المعنى والشيء أقرب إلى منطق الإبداع. وفي التأليف الخالص الذي يتجاوز النقل والتعليق والشرح والتلخيص والعرض يظهر الإبداع بالتعامل مع الأشياء مباشرة والتنظير لها، والتعبير عنها دون تمييز بين موروث ووافد على مستوى اللفظ أو المعنى بعد أن تم التوحيد بينهما في عملية «التشكل الكاذب». التأليف تنظير مباشر للواقع دون توسط نص قديم أو نص جديد، بل تحويل الواقع إلى نص إبداعي مستقبلي مضافا إلى النصين السابقين: النص الماضي القديم والنص الحاضر الجديد. وبالتالي يحدث التراكم المعرفي الضروري، ويظهر الإسهام الحضاري لكل ثقافة في تراكم حضاري للإنسانية جمعاء.
Unknown page