Min Naql Ila Ibdac Tadwin
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
الإهداء
مقدمة
الباب الأول: التدوين
الفصل الأول: التاريخ
أولا: دراسة التاريخ
ثانيا: الحضارات العامة والخاصة
ثالثا: الوافد والموروث
رابعا: الحضارة الإسلامية
خامسا: تاريخ الفرق
سادسا: تقسيم العلوم
Unknown page
سابعا: أسماء الأعلام
ثامنا: الأقوال
الفصل الثاني: القراءة
أولا: قراءة التاريخ
ثانيا: التاريخ المتبادل
ثالثا: بداية التاريخ
رابعا: حكماء اليونان (الغرب)
خامسا: حضارات الشرق
سادسا: حضارة العرب
سابعا: حكماء الإسلام
Unknown page
الفصل الثالث: الانتحال
أولا: الانتحال إبداع حضاري
ثانيا: المنتحلات الصغرى
ثالثا: المنتحلات الأفلاطونية
رابعا: الانتحال الأرسطي
خامسا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)
سادسا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)
سابعا: المنتحلات الطبيعية
الإهداء
مقدمة
Unknown page
الباب الأول: التدوين
الفصل الأول: التاريخ
أولا: دراسة التاريخ
ثانيا: الحضارات العامة والخاصة
ثالثا: الوافد والموروث
رابعا: الحضارة الإسلامية
خامسا: تاريخ الفرق
سادسا: تقسيم العلوم
سابعا: أسماء الأعلام
ثامنا: الأقوال
Unknown page
الفصل الثاني: القراءة
أولا: قراءة التاريخ
ثانيا: التاريخ المتبادل
ثالثا: بداية التاريخ
رابعا: حكماء اليونان (الغرب)
خامسا: حضارات الشرق
سادسا: حضارة العرب
سابعا: حكماء الإسلام
الفصل الثالث: الانتحال
أولا: الانتحال إبداع حضاري
Unknown page
ثانيا: المنتحلات الصغرى
ثالثا: المنتحلات الأفلاطونية
رابعا: الانتحال الأرسطي
خامسا: الانتحال الأفلوطيني (اليوناني)
سادسا: الانتحال الأفلوطيني (الإسلامي)
سابعا: المنتحلات الطبيعية
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (1) التدوين
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (1) التدوين
التاريخ - القراءة - الانتحال
تأليف
Unknown page
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا.
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
مقدمة
أولا: من «العقيدة والثورة» إلى «النقل والإبداع» (1) النقد الذاتي «من النقل إلى الإبداع» المحاولة الثانية لإعادة بناء علوم أصول الدين في مشروع «التراث والتجديد» في جبهته الأولى «موقفنا من التراث القديم» من أجل إعادة بناء العلوم الإسلامية طبقا لظروف العصر.
1
ولما كان بناء الشيء لا يظهر إلا بعد اكتماله، وعيوبه لا تظهر إلا بعد خلقه، وكان النقد الذاتي والتعلم من التجارب السابقة طريق الإصلاح والتغير والاتجاه نحو الكمال، بدا «من العقيدة إلى الثورة» محتويا على عدة عيوب رئيسية لا تتعلق بالموضوع ولكن بطريقة العرض، ليس في المضمون ولكن في الشكل. واستدعاء الذكريات في لحظات الخلق السابقة جزء من عمليات الخلق القادمة؛ فالذاكرة رصيد الشعور ومادته الأولى، وهو العنصر الرئيسي المكون للوعي التاريخي. والنقد الذاتي سنة متبعة في مشروع «التراث والتجديد» من أجل تطويره وإكماله من الداخل في عملية خلق مستمرة أشبه بسيرة ذاتية يتخلق فيها الموضوع من خلال الذات. ويمكن تلخيص هذه العيوب على النحو الآتي:
2 (أ)
Unknown page
لم يحدث التوازن المطلوب بين التراث والتجديد؛ فقد خرج أقرب إلى التراث منه إلى التجديد، يغلب عليه تحليل القدماء أكثر من تحليل المعاصرين؛ فيتناول الموضوعات القديمة أكثر مما يبين أثرها كمخزون نفسي في سلوك الأفراد والجماعات ووعيهم بالتاريخ، أقرب إلى القلة من المتخصصين منه إلى مجموعة المثقفين، وباختصار أقرب إلى العقيدة منه إلى الثورة. كان السبب في ذلك أنه بالإضافة إلى صعوبة إيجاد ميزان متعادل بين القديم والجديد، كان يتم الانتقال أحيانا من القديم إلى الجديد قفزا بعد أن يتم الاستغراق في القديم دون القدرة على الخروج منه خروجا طبيعيا منتقلا إلى الجديد؛ لذلك خرجت قفزات قديمة وأخرى جديدة متجاورات دون الانتقال بين الاثنين على نحو طبيعي متصل كتوالد طبيعي.
3
كان فك القيد من القدماء هو الهم الغالب على تثوير المحدثين، فما أسهل التثوير إذا ما كسرت القيود. والتحرر من الماضي هو شرط الثورة في الحاضر، والتخفيف من ثقل الحمل هو إسراع في التقدم. كان الغالب هو الفكر السالب؛ فالسلب أقوى من الإيجاب، والهدم يسبق البناء، والرفض متقدم على القبول خاصة في عصر يخشى من الرفض والتمرد والنفي، ويغلب عليه القبول والتسليم، ويلاحق فيه المفكرون والمبدعون. كان القصد هو التحرر من المنبع، وخلخلة الجذور حتى يتحقق التثوير خاصة بعد فشل تجاربنا الحديثة في النهضة في القرن الماضي، والثورة في هذا القرن، عودا إلى بدأ، ورجوعا إلى المنبع والجذور الأولى في السكون والخوف والاستسلام. كانت خلخلة الحائط المنيع من الأساس، مرة إلى الأمام ومرة إلى الخلف تكفي لأية هبة ريح لاقتلاعه بدلا من خبط الرأس فيه فتسيل الدماء. كان يكفي وضع بعض الزيت على المزلاج الصدئ وتحريك المفتاح مرتين فتحا وغلقا حتى يكفي ذلك لأية ريح تفتحه بدلا من ضربة رأس تسيل الدماء ولا ينفتح الباب. (ب)
غلب على الكاتب منهج العرض أكثر من منهج التحليل، عرض أقوال القدماء، ثم الدخول معها في حوار من أجل مراجعتها ثم خلخلتها والشك فيها دون تحليل النص وبيان مكوناته، كيف نشأ وتطور ثم انغلق حتى تحول إلى سلطة. كانت الغاية من العرض كشف القدماء، وإعادة بسط فكرهم حتى تسهل رؤيته، والتعرف على بنيته ثم التصويب عليه بعد أن أصبح لوحة مكشوفة. غلب على الحوار مع القدماء أسلوب المواجهة من الأمام وليس أسلوب الالتفاف من الخلف؛ لذلك صعبت معرفة أين ينتهي العرض وأين يبدأ النقد؟ متى ينتهي كلام القدماء ومتى يبدأ كلام المحدثين؟ أين ينتهي النص القديم ومتى يبدأ النص الجديد؟ كان يمكن إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد عن طريق منهج القراءة وآليات التأويل، وهو ما كان يحدث أحيانا، ولكن الخطورة كانت في ضياع النصين معا، القديم والجديد، وبالتالي يتوارى التمايز والتقابل بين القدماء والمحدثين. وكان قد تم استعمال هذا المنهج من قبل في «مناهج التفسير في علم أصول الفقه»، ولم يكن مرضيا بسبب خروج نص يختفي فيه التمايز بين القديم والجديد، بين التراث والتجديد، مجرد قراءة لا أساس لها ولا منطق، عمل فلسفي خالص، ذهنان يتحاوران في لا زمان ولا مكان بهدف بيان إمكانية التجاوز والانتقال من مرحلة تاريخية قديمة بأسلوبها ومناهجها وموضوعاتها إلى مرحلة تاريخية جديدة مخالفة في تطلعاتها ووسائل تعبيرها وأهدافها، وسمي ذلك منهج النقل؛ أي مجرد إعادة كتابة النص القديم بأسلوب جديد، مستعملة لغة العصر، مثالية الشعور، ومنهج العصر، منهج تحليل التجارب الشعورية تحت تأثير الحركات الإسلامية المعاصرة.
4 (ج)
أتى مسهبا، مطولا، وكأنه موسوعة جديدة في علم العقائد منذ «المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار. وبالتالي استحال عمليا الاطلاع عليه من الجمهور لإحداث التثوير المطلوب. يوضع في المكتبات العامة وليس في المكتبات الخاصة، يحمل على المناضد وليس بيانا يوزع على الناس في الشوارع. أوغل في التفصيلات الجزئية حتى ضاعت الرؤية الكلية، فلم يتحقق القصد من التثوير. كان الهدف هو العلم الدقيق قبل الأيديولوجيا، وحتى لا يتهم الكتاب بأنه ضحى بالأول في سبيل الثاني. كان الهدف أيضا مبارزة القدماء ضربة بضربة وطعنة بطعنة حتى يتم الانتصار عليهم في جولات متعددة وليس بالضربة القاضية. كان المطلوب تقويض الأسس النظرية التي قامت عليها تحليلات القدماء، وكان لا بد من خلخلتها. واقتضى ذلك التعامل مع الجذور جزءا جزءا حتى لا تقطع الجذوع والجذور باقية فتنتج جذوعا أخرى. وعلم الكلام ذاته علم حجاج وجدال وصنعة أدلة وبراهين، بل إن إثبات الشيء مرهون بالدليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيه بمنطق الأصوليين. كان العذر في ذلك ألا يترك تحليل المحدثين صغيرة ولا كبيرة، شاردة ولا واردة، عرضها القدماء حتى يتم تذويب الماضي كله في الحاضر، والقضاء على تكلسه وقدرته على التأثير في التاريخ. ولكن العيب في العصر الذي يبغي الاطلاع السريع، والتعامل مع أجهزة الإعلام، وملء الفراغ الثقافي والتعامل مع الثقافة في الأمد القريب، وليس تحليلا لجذورها التاريخية على الأمد البعيد. هو عصر ثورة المعلومات التي يهمها نقلها من أطراف الأرض إلى أطرافها بصرف النظر عن مضمونها. (د)
جاء التبويب أقرب إلى القدماء منه إلى المعاصرين، ليس فقط في البنية الثلاثية للعلم: المقدمات، والإلهيات (العقليات)، والنبوات (السمعيات)، بل أيضا في ألفاظه ولغته، مثل الذات والصفات والأفعال، والنبوة والمعاد، والإيمان والعمل والإمامة، مما يسهل على أهل التخصص المعاصرين تصنيفه ضمن العقيدة أكثر من تصنيفه ضمن الثورة. لم يكن هناك إشكال في المقدمات النظرية (المجلد الأول)؛ فقد وصلت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى أكبر قدر ممكن من التعقيل والتنظير والتعميم، متجاوزة العقيدة إلى المبادئ العامة؛ أي إلى الأوليات التي تقوم عليها أية عقيدة.
5
كما أن «التوحيد» (المجلد الثاني) و«العدل» (المجلد الثالث) أقرب إلى العموم منهما إلى الخصوص، وإلى العقل منهما إلى النقل؛ فلفظ «التوحيد» لفظ فلسفي وميتافزيقي ووجودي، وليس بالضرورة لفظا عقائديا. إنما كان الإشكال في «السمعيات» التي غلبت عليها الألفاظ العقائدية: النبوة ، والمعاد، والإيمان، والعمل، والإمامة؛ لذلك آثرنا وضع اللفظ الجديد تحت اللفظ القديم؛ فالتوحيد هو الإنسان الكامل، والعدل هو الإنسان المتعين. والنبوة والمعاد يشيران، إلى التاريخ العام؛ والإيمان والعمل والإمامة يشيران إلى التاريخ المتعين. في الظاهر البنية القديمة لم تتغير، الإلهيات والسمعيات. وفي الحقيقة تغيرت لأنه أمكن تحويل هذين القسمين للعقائد إلى بعدين جديدين ينقصان في وجداننا المعاصر، الإنسان والتاريخ. آثرت الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون، الشكل القديم لجذب القراء القدماء والأزهريين وعلماء أصول الدين، والمضمون الجديد لجذب القراء المحدثين والجامعيين والثوريين. وبلغة التضاد العصري، الأول لجذب السلفيين، والثاني لجذب العلمانيين، تحقيقا للمصالحة الوطنية بدلا من الاقتتال وسفك الدماء في الجزائر ومصر. والأفضل الإبقاء على الشكل وتغيير المضمون من تغيير الشكل والإبقاء على المضمون.
6
Unknown page
كان يمكن في مرحلة أخرى أن يصبح للجديد الأولوية على القديم، ولكن تضخم العمل في خمسة مجلدات جعل أي إضافة له بمثابة انتحار عملي. كما أن زيادة الجديد على القديم قد تقلل من آليات التخفي والحذر، وبيان إمكانية خروج الجديد من القديم كما تنص البعير بإخراج رأسها دون جسدها وترك إكمال الخروج لأجيال قادمة؛ فالتغيير على الأمد الطويل خير من الفرقعة على الأمد القصير. ومع ذلك فإن علوم الحكمة أكثر أمانا من علم أصول الدين، وعلوم للخاصة وليست علوما للعامة. فهل يؤدي ذلك إلى أن يكون للجديد الأولوية على القديم، وأن يتجه نحو الإبداع أكثر مما يتجه نحو النقل؟ إن الإسراع بمعرفة النتائج دون المقدمات، وبالحصاد قبل الزرع، وبالثمار قبل البذور، أمر بشري. ولكن التأسيس والتأصيل والبرهان ضرورة علمية؛ لذلك قد يغلب القديم على المجلدين: الأول «النقل»، والثاني «التحول». وقد يبدأ الجديد في المجلد الثالث «الإبداع» على حذر؛ فالأفضل أن يتولد الجديد من القديم، وأن يخرج الإبداع من النقل على نحو طبيعي، وربما على نحو خفي يصعب استئصاله.
7 (ه)
زادت نسبة الهوامش والنصوص الحرة مما جعل الكتاب مثقلا متضخما، قد لا ترن في آذان جميع القراء، وقد لا تثير عواطفهم ووجدانهم. بدت تكرارا لا فائدة منه. كان من الأفضل أخذ عبارات دالة أو تحليلها حتى تتحول إلى نصوص مدروسة وليس مجرد نصوص خام. وقعت مغالاة في إيراد النصوص حتى إنها بلغت نصف كل صفحة؛ أي نصف الكتاب، مجلدان ونصف من خمسة مجلدات، وأين القارئ اليوم الذي يستطيع استيعاب ذلك كله؟ ألا يؤدي ذلك التضخم إلى عكس المطلوب، أن تصبح العقيدة من عمل الخاصة وليست تنويرا للعامة؟ كان الهدف إشراك القارئ مع المؤلف في نفس التجارب، التعامل مع نص قديم مثير للأذهان، ومقلق للأعصاب، إشراكهم في الغضب والثورة، خاصة فيما يتعلق بنصوص السلطان، وإشراكهم في التأييد والدفاع، خاصة عن نصوص المعارضة وإبرازها للمعاصرين. فالجرأة في العقائد لها ما يساندها أيضا عند القدماء في تراث المعارضة الذي ضربت حوله مؤامرة الصمت وأصبح في طي النسيان. وقد يكون العذر في ذلك استعمال بعض آليات التخفي؛ فعلم العقائد ليس من السهل التعرض لنصوصه بالفهم والتأويل بعد أن أصبح علما مقدسا في الأذهان، وأصبح إنتاج القدماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فالنص القديم المثير للغضب يشارك القارئ فيه وينفعل به غاضبا نظرا لتجدد حاجات العصر. والنص القديم المثير للتأييد والدفاع عن حاجات العصر يحمي المؤلف من الاتهام بالخروج على السلف وأقوال القدماء. لو كان في النص القديم شر فهو منهم ننقطع عنه، ولو كان فيه خير فهو منا نحرص عليه. لو أثار النص الجديد أنصار القديم فهو نص القدماء، ولو أعجب النص القديم أنصار الجديد فهو نص المحدثين. ولا فرق في آليات التخفي بين استعمال نصوص القدماء أو نصوص المحدثين.
8
ومع ذلك لم يسلم الكتاب من الهجوم عليه من غير المتخصصين والمزايدين، والمتملقين للأذواق العامة، والراغبين في الشهرة، والحريصين على السيطرة على الرأي العام، شفطا للدولة والمجتمع من أسفل، بدلا من الانقلاب عليهما من أعلى، مجرد زوبعة لم تتحول إلى إعصار. (و)
غابت التحليلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تبين نشأة الأفكار والعقائد القديمة وحاجات العصر الحديثة وتجاربه ومطالبه، وحتى لا تبدو الأفكار طائرة في الهواء، لا مستقر لها ولا مكان. غاب البحث في تكوين النصوص وتدوينها وصياغة العقائد وتكلسها حتى يمكن بيان نشأتها في التاريخ قبل أن تصبح مقدسا خارج التاريخ مع أن البحث في النشأة والتكوين كان جزءا من التراث والتجديد.
9
وكان الاستماع إلى هذا النقد المستمر من علماء الاجتماع والمؤرخين يهز الأعماق ويجد له مهربا في تحليل الشعور. كان يشفع في ذلك أن المنهج المختار يبرأ عن رد الظواهر إلى أسبابها الاجتماعية فحسب، ويؤثر إبقاءها تصورات في الذهن وأبنية في الشعور في مجتمعات تراثية ترى حقائق مطلقة في وعيها، وأن وحيها خارج التاريخ. ومع ذلك فإن بيان نشأتها في ظروف اجتماعية معينة، وفي أتون الصراعات السياسية، يساعد على استعمالها في عصرنا كسلاح فكري بدلا من ممارسات المعارضة استنادا على تراث السلطة. الأفكار والعقائد وظائف اجتماعية وفاعلية في الجدل الاجتماعي، ولكن خشية الوقوع في منطق النشأة والتكوين حدث رد الفعل في الوقوع في منطقة البنية والماهية المستقلة. والجمع بين التاريخ والبنية في منهج مزدوج يفي بالمطلبين، حق الواقع الحامل للفكر، وحق الفكر المستقل عن الواقع. ولا ضير أن تتكامل المناهج، وأن تتكاتف الجهود، وأن تتعدد الرؤى، وكل ميسر لما خلق له.
10 (ز)
غياب المقارنات مع الفكر الغربي بوجه عام ولاهوت التحرير بوجه خاص حتى يجد الكتاب مستقرا له وميدانا وعلما قائما يربط نفسه به ويضع نفسه فيه. وإذا كانت الغاية من «التراث والتجديد» هو التحديث، فأين الحداثة؟ كان الخوف من المقارنات ناشئا عن رفض التحديث من الخارج عن طريق الانتساب إلى رؤية أو مذهب أو منهج غربي، ثم قراءة التراث ابتداء منه، إسقاطا أو قراءة أو تحليلات، وإيثار التحديث من الداخل بفعل الاجتهاد، وإعادة قراءة القديم بناء على متطلبات الحديث وحاجات العصر.
Unknown page
11
كانت النية حاضرة، وما زالت، في كتابة دراسة خاصة عن لاهوت التحرير عرضا ومناقشة ونقدا، إهداء إلى الأخوة أقباط مصر، لبيان إمكانية تثوير الدين إذا كان ما زال يغلب عليهم الاتجاهات المحافظة ومساعدتهم على التحديث والعلم بما يدور حولهم من اجتهادات النصارى في الخارج.
12
كان يمكن إكمال هذا النقص في الهوامش لمن شاء المقارنة، وإثارة للأسئلة، وتفتيحا للموضوعات، ووضعا لبرامج في المستقبل لجيل جديد من الباحثين. ربما ما زال هناك فصل حاد بين الجبهتين الأولى: موقفنا من التراث القديم، والثانية: موقفنا من التراث الغربي، كرد فعل على التعالم باستعمال الثقافة الغربية والزهو بمعرفتها، والدراية بأسماء أعلامها ومذاهبها، وحتى يحظى الباحث بحظوة تجعله أقرب إلى المحدثين منه إلى القدماء، وتخفيفا للشعور بالنقص من القدماء أمام المحدثين. (ح)
غلبة الإنشائية على المقدمة والخاتمة، وبعض أجزاء الخطاب في الداخل جعل العلماء ينأون عنه والسياسيين يبرءون منه. والإنشائية أيديولوجيا وليست علما، وعظا وليست تحليلا، خطابة وليست برهانا. وأخذ البعض ممن لا يقوى على الصبر هذه الأجزاء الإنشائية لنقد الكتاب كله وبالتمايز عنه، وهم علماء لا خطباء، عقلانيون لا دعاة. كان السبب الإجرائي هو أن «التراث والتجديد» كان مقدمة «من العقيدة إلى الثورة»، فلما صدر بمفرده قبل صدور الكتاب بثمانية أعوام، جاء الكتاب خاليا منها ومن أية مقدمة أخرى. وطال الوقت بحثا عن مقدمة بديلة، وأخيرا استقر العزم على تقليد القدماء بعد معرفة مقدماتهم. وكانت في معظمها مدحا لله وللسلطان. وجاءت مقدمة الكتاب قلبا لمقدمة القدماء، كما أن الكتاب كله قلب لعلم الكلام القديم رأسا على عقبة، انتقالا من مدح السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب. وجاءت الخاتمة أقل إنشائية أيضا، قلب للقدماء من الفرق بين الفرق إلى الجمع بين الفرق، ومن الفرقة الناجية إلى الوحدة الوطنية. وكان السبب الفعلي هو أن الجمهور جزء من الخطاب حتى يحدث أثره فيه. ولما كان للجمهور لغته وأسلوبه، غلبت بعض الإنشائية في التحليل تحقيقا لهدف الانتشار في الغالبية على التأثير في الأقلية، وإيثارا للعلم النافع على العلم الخالص؛ فالعلم حركة وتغير ونشاط وفاعلية وتاريخ. ليس الهدف من العلم النظر بل العمل. والنظر ما هو إلا مقدمة للعمل، وقد يكون البحث النظري الخالص أحيانا ترفا لا قبل للتاريخ به إذا كان المنزل يحترق ويحتاج لمن يطفئ النار. صحيح أن البحث النظري على الأمد الطويل هو الحل الجذري، ولكن في مجتمعات مستقرة استطاعت أن تفي بالحد الأدنى من الخدمات والحاجات الأساسية والاستقلال والكرامة والوطنية. وهناك الأسلوب الفلسفي الذي يجمع بين التحليل العلمي والأسلوب الأدبي، يعرفه الخاصة والعامة، ويفي بشروط البحث النظري والبيان للناس.
13 (ط)
لم يحدث «من العقيدة إلى الثورة» الأثر المطلوب، ولم تقم الدنيا ولم تقعد. لم يحدث تحول في عقائد الناس، ولم تقع هزة في أروقة المتخصصين، بل ربما زادت العقيدة تكلسا وتشيؤا، وانقلبت الثورة على نفسها في ثورة مضادة. يرن عن بعد وليس له إلا رجع الصدى، ربما لتضخمه مما جعل البعض يطلب اختصاره في جزء واحد.
14
ربما لهموم الناس اليومية وانشغالهم عن العلم التأسيسي على الأمد الطويل. ربما لأننا نعيش في عصر الاستقطاب بين العقيدة والثورة؛ أي بين السلفية والعلمانية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء، وبالرغم من نهاية عصر الاستقطاب في العالم وبداية العولمة عند غيرنا. ربما ليس له منبر شعبي يبسطه للناس وتقام فيه معاركه بالرغم من محاولة ذلك في «اليسار الإسلامي». ربما ليس له جماعة تطوره كما هو الحال في الجماعات والمدارس التي تنشأ حول المذاهب وأصحابها. ربما ليس له حزب يتبناه؛ فقد كبا الإصلاح الذي أراد «من العقيدة إلى الثورة» إقالته من عثرته وتطويره من أجل لم الشمل والوحدة الوطنية.
15
Unknown page
ربما ليس له حزب ثوري يقوم بتحويل الأيديولوجيا الثورية إلى ممارسات ثورية بالرغم من التنبيه على ذلك سلفا في «التراث والتجديد».
16
ربما لأن الإعلام والثقافة والتعليم ما زال كل ذلك تحت سيطرة الدولة التي تستعمل العقيدة لإيقاف الحراك الاجتماعي والدفاع عن الوضع القائم بلسان فقهاء السلطان وفقهاء الحيض والنفاس، وتستعمل الثورة ضد العقيدة بفضل مثقفي الدولة وأجهزتها، تضرب هذا بذلك مرة، وذلك بهذا مرة أخرى حتى يضعف الجناحان ويقوى القلب. والكل يريد السلطة القائم فيها والمعارض لها، والثقافة لعبة السياسة، والوطن هو الخاسر.
17 (2) من علم أصول الدين إلى علوم الحكمة
كان من الطبيعي أن يأتي «من النقل إلى الإبداع» محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة بعد «من العقيدة إلى الثورة » محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين، وكما تم الإعلان عن ذلك في مشروع «التراث والتجديد» لعدة أسباب، أهمها: (أ)
علم أصول الدين وعلوم الحكمة كلاهما علمان نظريان يؤسسان عقائد ونظريات في مقابل العلمين المنهجيين اللذين يؤسسان مناهج وطرقا، علم أصول الفقه وعلوم التصوف. وعلى الرغم من وجود موضوع منهجي في علم أصول الدين، وهو «العقل والنقل»، وموضوع منهجي آخر في علوم الحكمة وهو «المنطق»، إلا أن الطابع العام للعلمين هو الطابع النظري. وهذا لا ينفي وجود فكر عملي أخلاقي سياسي في كلا العلمين، الإيمان والعمل والإمامة في علم أصول الدين؛ وعلم الأخلاق والسياسة وتدبير المنزل في الحكمة العملية في علوم الحكمة، ولكنه فكري عملي نظري؛ أي دراسة نظرية خالصة لموضوعات الأخلاق والسياسة والاقتصاد.
18 (ب)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وإعادة تفكير في نظرية العلم التي تحولت إلى منطق، ونظرية الوجود التي تحولت إلى طبيعات، والإلهيات التي ظلت إلهيات، والسمعيات أو النبوات إلى نفسانيات أو شرعيات، كما هو الحال عند إخوان الصفا بإضافتهم قسما رابعا إلى علوم الحكمة. المنطق تطوير لنظرية العلم، والطبيعات تطوير لنظرية الوجود، والإلهيات؛ أي نظرية واجب الوجود وتطوير لنظرية الذات والصفات والأفعال. وقد كان الفلاسفة الأوائل متكلمين قبل التحول إلى فلاسفة بفضل قراءة الوافد بالإضافة إلى الموروث مثل الكندي. ويقل الكلام تدريجيا حتى تبتلعه الفلسفة كما هو الحال في علم الكلام المتأخر ابتداء من القرن السادس. (ج)
علوم الحكمة أيضا تطوير طبيعي لعلم أصول الدين من حيث منهج الاستدلال؛ فبينما يعتمد علم أصول الدين على الدليل النقلي والدليل العقلي، فإن علوم الحكمة تعتمد في الغالب على الدليل العقلي وحده. صحيح أن الدليل النقلي وحده دون دليل عقلي دليل ظني طبقا لنظرية العلم في علم أصول الدين، وأن العقل أساس النقل عند المعتزلة، وأن من قدح في العقل فقد قدح في النقل لموافقة صحيح المنقول لصريح المعقول عند ابن تيمية، ومع ذلك فإن استعمال الدليل النقلي يعادل استعمال الدليل العقلي في علم أصول الدين.
19
Unknown page
أما علوم الحكمة فإنها استغنت استغناء شبه كلي عن الدليل النقلي، واعتمدت على اتساق الخطاب العقلي وحده؛ فالحكمة تتجاوز الديانات والكتب المقدسة. هي الحكمة الخالدة الواحدة التي وراء تنوع الشرائع وتعدد الديانات. علوم الحكمة بهذا المعنى تطوير للاعتزال. كان الكندي متكلما قبل أن يصبح فيلسوفا، وله رسالة في الاستطاعة في موضوع خلق الأفعال. ثم خطا خطوة أبعد نحو علوم الحكمة، فكان أول فيلسوف، فيلسوف العرب. (د)
علوم الحكمة تطوير طبيعي لعلم أصول الدين، وتحول للعقائد إلى نظريات، وقواعد الإيمان إلى تصورات عامة للكون، وباختصار تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». لقد وضع علم أصول الدين نظرية الذات والصفات والأفعال، وتنازعها تصوران، التشبيه والتنزيه، الحلول والمفارقة، التشخيص والتعقيل. ثم طورتها علوم الحكمة إلى نظرية واجب الوجود، الموجود لذاته في مقابل الموجود بغيره، انتقالا من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان، دون ما حاجة إلى أدلة على وجود الله كما هو الحال في علم أصول الدين أو إلى دليل أنطولوجي كما هو الحال في الفكر الغربي. صحيح أن نظرية الوجود في المقدمات النظرية في علم أصول الدين قد اقتربت أيضا من مباحث الأنطولوجيا، ولكنها ظلت أنطولوجيا الأجسام المادية؛ أي الجوهر والأعراض، منها إلى الأنطولوجيا العامة.
20
وصحيح أيضا أن علوم الحكمة ما زالت متصلة بالعقائد بالرغم من تحولها إلى تصورات؛ فصفات واجب الوجود مثل العلم والحياة والقدرة تشبه صفات الذات في علم أصول الدين. كما أن موضوع قدم العالم وحدوثه هو الغاية القصوى من مبحث الوجود في علم أصول الدين من أجل إثبات حدوث العالم كدليل على وجود الله. وموضوع المعاد في علم أصول الدين مشابه لموضوع البعث في علوم الحكمة دون صوره الفنية ابتداء من عذاب القبر حتى الصراط والميزان والحوض. علم العقائد يغذي علوم الحكمة من الباطن وإن لم يبد على السطح في التصورات النظرية العامة في علوم الحكمة. (ه)
علم أصول الدين علم مفرد كما يدل على ذلك تسميته بلفظ مفرد، لم تتمايز علومه بعد إلى علم الإلهيات وعلم النبوات أو علم العقليات وعلم السميعات . في حين أن علوم الحكمة علوم بالجمع كما يدل على ذلك تسميتها بلفظ الجمع. تمايزت فيها علوم المنطق والطبيعات والإلهيات طبقا للقسمة الثلاثية الشهيرة. وبالتالي تعتبر علوم الحكمة أكثر تطورا من علم أصول الدين من حيث تحول العلم الواحد الشامل إلى علوم جزئية متخصصة. وقد حدث نفس التمايز في علوم التصوف بالنسبة إلى علم أصول الفقه؛ فقد تمايزت العلوم داخل التصوف لدرجة أن كل مقام أو حال أصبح علما في حين ظل علم أصول الفقه علما واحدا، وكما تدل على ذلك تسمية كل علم بالجمع أو المفرد. ولا تدل وحدة علم أصول الفقه على تأخره، بل على وحدة النسق العلمي بالرغم من اعتماده على علم أسباب النزول وعلم الناسخ والمنسوخ المستمدين من علوم القرآن. ولا يدل تعدد علوم التصوف على تقدمها بل على تشعبها. (و)
علم أصول الدين يتعامل أساسا مع الداخل، مع الموروث الديني، في حين تتعامل علوم الحكمة أساسا مع الخارج، الوافد المنقول بعد أن أصبح موروثا بعد عصر الترجمة. صحيح أن علم أصول الدين يتعامل أيضا مع الخارج، ولكن في مرحلة متأخرة وليس في مرحلة النشأة، في مرحلة التطور والاكتمال وليس في مرحلة التكوين الأولى أو حتى في مرحلة الانهيار الأخيرة، مرحلة قواعد العقائد السلفية. وقد استخدم البعض منه كأدوات وثقافات حديثة لنصرة العقائد القديمة والدفاع عنها وليس كحقائق مستقلة بذاتها.
21
كانت أقرب إلى علوم الوسائل منها علوم الغايات، في حين أنها في علوم الحكمة أقرب إلى علوم الغايات منها إلى علوم الوسائل.
22
كان هدف علم أصول الدين الدفاع عن الأنا ضد الآخر، خاصة في البداية وعلى مستوى العقائد، في حين كان هدف علوم الحكمة تمثل الآخر واحتوائه واستعماله كأدوات وألفاظ للتعبير بها عن مقاصد الحضارة الجديدة الناشئة. وبالرغم من اقتراب علم الكلام المتأخر من علوم الحكمة، إلا أنها ظلت فيه خارجية عن بنية العقائد، مجرد مقدمات نظرية وصلت إلى حد ثلاثة أرباع العلم. أما علوم الحكمة فإنها تكاد تخلو من العقائد الكلامية المباشرة، وتعبر عن تصورات عامة وشاملة للكون اعتمادا على الثقافة الوافدة، ومن خلال مفاهيمها وألفاظها وتصوراتها. فإذا كان علم أصول الدين رؤيا للأنا من خلال الأنا وواقعها، فإن علوم الحكمة رؤيا للأنا من خلال تفاعلها مع الآخر. (ز)
Unknown page
كانت العقائد للعامة، وكان المشتغلون بعلم العقائد أكثرية حريصة على عقائد العامة، في حين كانت علوم الحكمة للخاصة، وكان المشتغلون بها أقلية تصدم عقائد العامة. كانت علوم العقائد تدرس في المساجد، في حين حمل لواء علوم الحكمة أفراد قلائل متهمون بالكفر من خطباء المساجد وأئمتها. صحيح أن الغزالي قد دعا إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، كما أن رسائل إخوان الصفا كانت تعبر عن الثقافة الشعبية، إلا أن الغزالي كان يود إبعاد العامة عن طرق النظر حتى تظل في اختيار التصوف لها كطريق. وإن إخوان الصفا في النهاية كانت من الصفوة المختارة والأقلية المثقفة. كان علماء الكلام من الحرفيين وتجار السوق، كان منهم النجار والعلاف والغزال، في حين كان الفلاسفة من العلماء والوزراء وعلية القوم وندماء البلاط. وإذا كان علم أصول الدين مستمرا كمخزون نفسي عند الجماهير، خاصة فيما يتعلق بتراث السلطة، فإن علوم الحكمة قد انقطع الاتصال بها لأنها كانت أقرب إلى الدوائر الخاصة المغلقة منها إلى الثقافة العامة لم يبق منها شيء في وعي الجماهير إلا جانبها الإشراقي من خلال التصوف. ومن هنا ارتبطت ثقافة الجماهير بعلم أصول الدين أكثر من ارتباطها بعلوم الحكمة. بينما ارتبطت ثقافة الصفوة بعلوم الحكمة أكثر من ارتباطها بعلم أصول الدين. وبدلا من علوم الحكمة القديمة انتشرت الثقافة الغربية المعاصرة كوافد حديث يملأ فراغ الموروث القديم. كما انتشرت أيضا بين الخاصة دون العامة. (ح)
كان هدف الفرقة الناجية من بين الفرق الهالكة تدعيم السلطة دفاعا عن النظام القائم، بينما كان الغرض الأساسي من علوم الحكمة تقويض السلطة القائمة من الداخل؛ إذ انتشرت في الجماعات السرية مثل إخوان الصفا، وارتبطت بفرق المعارضة العلنية مثل المعتزلة، أو السرية مثل التشيع.
23
صحيح هناك فرق كلامية للمعارضة كما أن هناك من الفلاسفة من كان جليس السلطان مثل: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولكن الغالب على العقائد السنية تدعيم الدولة السنية، بينما كان الغالب على نظريات الفلاسفة الاستقلال عن السلطة الدينية والسياسية. سجن ابن سينا ومحنة ابن رشد. لذلك لم يتعرض «من العقيدة إلى الثورة» لعقائد الشيعة؛ لأنها لم تكن مخزونا نفسيا مباشرا في مصر والوطن العربي والعالم السني، بالرغم من حب مصر لآل البيت، وتأسيس الأزهر لنشر الشيعة حتى صلاح الدين، ووجود الشيعة في الخليج والعراق. وهو على أية حالة نقص كبير يعيبه علماء إيران. ولكن علوم الحكمة ذات صلة وثيقة بالتراث الشيعي؛ لذلك أمكن إضافته بلا حرج، ليس فقط عند السجستاني والعامري، بل أيضا عند الطوسي وناصر خسرو والشيرازي وغيرهم. وربما للشيعة باع طويل في علوم الحكمة أكثر مما للسنة. (ط)
قام علم الكلام في صورة فرق؛ أي تيارات جماعية أو أحزاب سياسية أو قوى اجتماعية، مثل السنة والشيعة، والمعتزلة والخوارج، والمرجئة والجهمية. وقد كتب تاريخ علم الكلام بطريقة تاريخ الفرق وبطريقة نسق العقائد معا. في حين حمل لواء الحكمة أفراد قلائل: الكندي والرازي والفارابي والعامري وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. صحيح أنه كان هناك رؤساء للفرق مثل الأشعري وواصل بن عطاء، وكان هناك فكر جماعي مثل إخوان الصفا، ولكن ظل التمايز بين العلمين هو التمايز بين عقائد الفرق ومذاهب الفلاسفة. المتكلمون كثرة والفلاسفة قلة. يعد المتكلمون بالمئات في حين يعد مشاهير الفلاسفة على أصابع اليدين. صناعة الكلام مشاع في حين صناعة الفلسفة نادرة. (ي)
وكما ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، فكلاهما شقان لعلم واحد هو علم الأصول، الأول أصول النظر، والثاني أصول العمل، ارتبطت علوم الحكمة بعلوم التصوف من خلال حكمة الإشراق.
24
فمن الحكماء من ارتبط بالعقل والعلم، أي بالطبيعة، مثل الكندي والرازي وابن رشد. ومنهم من ارتبط بالذوق والإشراق مثل الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل. ومن الصوفية من ارتبط بالتصوف العلمي والرياضيات والمجاهدات مثل الصوفية الأوائل وصوفية المرحلتين الأخلاقية في القرون الثلاثة الأولى وصوفية المرحلة النفسية في القرنين الرابع والخامس. ومنهم من ارتبط بالتصوف النظري مثل صوفية القرنين السادس والسابع، السهروردي وابن الفارض وابن عربي وابن سبعين؛ ففي الجزء الرابع من «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا، وفي «حكمة الإشراق» للسهروردي، لا فرق بين علوم الحكمة وعلوم التصوف، بل قد نشأت خصومات وعداوات بين المجموعة الأولى، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، وبين المجموعة الثانية: علوم الحكمة وعلوم التصوف، بين علماء التنزيل وعلماء التأويل، بين استنباط الواقع من الوحي واستقراء الوحي من الواقع.
25
وهو النزاع الشهير بين الفقهاء من ناحية والصوفية والحكماء من ناحية أخرى، وعلى الرغم من النزاع بين الفقهاء والمتكلمين. (ك)
Unknown page
علوم الحكمة تالية على علم أصول الدين، كما أن علم أصول الدين سابق على علوم الحكمة في الزمان. نشأ علم أصول الدين أولا نشأة داخلية صرفة، ابتداء من أحداث محلية خالصة مثل الإمامة ومرتكب الكبيرة، واستمر الأمر كذلك على مدى قرنين من الزمان، في حين لم تنشأ علوم الحكمة إلا بعد عصر الترجمة، بعد دخول عنصر ثقافي جديد، هو الوافد، بالإضافة إلى الموروث القديم، فنشأ علم ثالث من حدث ثقافي يجمع بين الموروث والوافد. يطور الموروث ويعقله كي يتمثل الوافد. ويؤول الوافد ويوظفه للتعبير عن رؤية الموروث المتجددة. بدأ علم الكلام مبكرا منذ القرن الأول، واستمر إلى فترة متأخرة حتى القرن الثامن في علم الكلام الفلسفي عند الإيجي والتفتازاني والبيضاوي وأصحاب قواعد العقائد حتى «رسالة التوحيد» و«الحصون الحميدية». في حين بدأت علوم الحكمة متأخرة منذ القرن الثالث، وانتهت مبكرا في العالم السني حتى القرن السادس، ببارقة ابن رشد. واستمرت في إيران حتى القرنين التاسع والعشر عند صدر الدين الشيرازي وناصر خسرو. ولم يستطع السلطان عبد الحميد إحياءها بإعادة التحكيم بين الغزالي وابن رشد بين «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت».
26 (ل)
غلب علم أصول الدين على ثقافة المشرق دون المغرب، ربما لقرب المشرق من منطقة الديانات والمذاهب التي نشأ علم الكلام للرد عليها والدفاع عن الشبهات الآتية منها، في حين كان صقع المغرب بعيدا عن هذه المنطقة كما يعترف بذلك ابن رشد.
27
وبالرغم من جمع ابن حزم لأقوال المتكلمين في «الفصل» في إطار علم تاريخ الأديان المقارن، كان هناك عداء لعلم الكلام في المغرب على ما وضح في «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد. وربما كانت سيطرة الفقهاء في الأندلس على الحياة العقلية أحد أسباب غياب علم الكلام فيه. في حين شاعت الفلسفة في المغرب شيوعها في المشرق بالرغم من محنة ابن رشد. فظهر فلاسفة في المغرب كما ظهر فلاسفة في المشرق. ولا يعني ذلك وجود عقلية مشرقية صوفية إشراقية وعقلية مغربية عقلانية علمية؛ فقد ظهرت العقلانية والعلم في المشرق قدر ظهور التصوف والإشراق في المغرب. العقلية مفهوم أوروبي وافد، نشأ بدافع عنصري حضاري. إنما التيار الغالب مفهوم علمي ووصف تاريخي.
28
ثانيا: النقل والإبداع بين القدماء والمحدثين (1) نقل المحدثين
إذا كانت الغاية «من العقيدة إلى الثورة» هو التثوير ضد الاحتلال والقهر والتخلف، فإن الغاية «من النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التغريب في عصرنا ضربا للمثل بنموذج القدماء، كيف تمثلوا الوافد ثم أعادوا إخراجه؟ كيف مارسوا النقل ثم قاموا بالإبداع؟ وإذا كان الهدف «من العقيدة إلى الثورة» هو القضاء على التحجر في الداخل، والتقوقع على الذات، وتحويل العقائد إلى أشياء ومقدسات، فإن الهدف من «النقل إلى الإبداع» هو القضاء على التبعية للخارج، وتقليد الآخر، وتحويل الثقافة الأجنبية إلى ثقافة عالمية، تعطي حقائق أكثر مما تعطي وقائع، ومصدرا للعلم بدلا من أن تكون موضوعا للعلم.
29
لذلك يأتي نقل المحدثين قبل إبداع القدماء نظرا لأن الأول هو الباعث على الثاني. هناك إذن علاقة في مشروع «التراث والتجديد» بين الجبهة الأولى «موقفنا من التراث القديم»، والجبهة الثانية «موقفنا من التراث الغربي». الأولى ترى الأنا من خلال الآخر، حين ترى الثانية الآخر من خلال الأنا. الأولى تجدد رؤية الأنا لذاتها من خلال ثقافة العصر، وهي في الغالب ثقافة الآخر. والثانية ترى الآخر العصري من خلال الأنا المتجدد عبر التاريخ ومن أجل رده إلى حدوده الطبيعية ، وإفساح المجال لتعدد الثقافات، ورد الاعتبار لثقافات الأطراف بعد أن كانت ثقافات المركز، وتحويل ثقافة المركز الحالية على الأمد الطويل إلى ثقافة الأطراف كما كانت عبر التاريخ. يمثل «من النقل إلى الإبداع» هذه العلاقة كنقطة التقاء بين الجبهتين؛ فهو دراسة لصلة الأنا بالآخر عند القدماء والعامل الموجه هو صلة الأنا بالآخر عند المحدثين؛ ومن ثم كان أقرب أجزاء الجبهة الأولى إلى الجبهة الثانية. «من النقل إلى الإبداع» لا يدرس كل علوم الحكمة في كل جوانبها المنطقية والطبيعية والإلهية والإنسانية، بل يدرس موضوعا واحدا فقط تبنى عليه علوم الحكمة كلها، وهو موضوع النقل والإبداع، الخيط الذي يربط أجزاء علوم الحكمة بناء على هم العصر وهاجس المحدثين. وهو هم حقيقي يقوم على افتراض الإبداع كما يقوم هم المستشرقين على افتراض النقل.
Unknown page
30
وهذا لا يمنع من قيام دراسات أخرى أكثر دقة حول النص العربي القديم، النص اليوناني وترجماته السريانية والعربية ومراحل الشرح والتلخيص والجمع والتأليف أكثر دقة، ليس استشراقا بل أبحاثا وطنية خالصة تحمل هموم العلم وهموم الوطن، هم التراث وهم التجديد، هم القديم وهم الجديد، رصيد التاريخ وأزمة الإبداع. هناك دافع وطني في البحث العلمي حتى ولو كان مجرد يقظة الذات تجاه الموضوع، خاصة الموضوعات التاريخية والحضارية، تضع الأنا في مواجهة الآخر؛ فالأنا غاية والآخر وسيلة، علوم الأنا هي علوم الغايات، وعلوم الآخر هي علوم الوسائل، خاصة وقد أخذ الآخر موقف الهجوم من الأنا منكرا دوره في التاريخ بعد أن تصدر المركز ودفع بجميع الحضارات البشرية إلى الأطراف. والوعي الحضاري هو أساس الوعي العلمي.
فبعد اتصالنا بالغرب منذ أكثر من مائتي عام، منذ فجر النهضة العربية الحديثة، بدأت علاقة التتلمذ والتعلم على يديه. وتم نقل المعلومات منه إلينا حتى أصبح العالم هو المتعلم؛ أي حامل العلم وناقله وليس مبدعه وخالقه. وطالت مدة نقل المعارف دون أن ينشأ علم جديد. ولما كان معدل الغرب في الخلق والإبداع أسرع بكثير من معدلنا في النقل والترجمة، ازدادت المسافة بيننا. وكلما ظننا أننا قاربنا اللحاق اليوم بما أنتجه بالأمس اتسعت الهوة بيننا حتى نصاب بالصدمة الحضارية، ونيأس من التقدم، ونكتفي بدور التابع، ويصبح الآخر في المقدمة ونحن في المؤخرة، حتى لا نكاد نراه فيتبع بعضنا بعضا. ونتحول إلى تلميذ أبدي لا دور له إلا النقل. ويكون الغرب هو المعلم الأبدي، دوره الأساسي في الإبداع. وتتراكم المعلومات طبقة فوق طبقة، وعلما فوق علم، حتى نطمس معالم الواقع ويغيب التنظير المباشر له. فتكون الثقافة في جانب والواقع في جانب آخر، ويصبح العلم حرفة وليس رسالة، وينشأ التكسب بالعلم، وتظهر طبقة من حملة العلم ونقلة المعلومات، تحصل على الشهادات والأوسمة، وتنال الجوائز المحلية والعالمية، وتصبح نجوما في أجهزة الإعلام تنافس نجوم الرقص والغناء. وتتكافأ النظريات، وتتعادل المذاهب دون قدرة على الاختيار أو النقد إما بمراجعتها على العقل أو بالتحقق من صدقها في الواقع، وتنفصل عن بيئتها الأولى التي خرجت منها، وتصبح «عالمية» خاصة بعد سيطرة أجهزة الإعلام الغربية على وسائل نقل المعلومات، فتنتشر حضارة الغرب وحدها، وتطمس معالم الثقافات المحلية، وتصبح الحضارة الإنسانية ذات بعد واحد، أحادية الطرف، وحيدة القرن. بل إن ثقافات الغرب قد تمت السيطرة عليها بثقافة أعم هي الثقافة الأمريكية؛ أي اللاتاريخي اللاحضاري الآلي الذي حاول الجمع بين الثقافات الأوروبية المحلية، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والهولندية والإسبانية، على أيدي المهاجرين الجدد والفارين من القانون والباحثين عن الذهب، العنصري الطائفي الذي لم تؤثر فيه فلسفة التنوير في الأعماق، في التصورات وفي السلوك. ولما كانت الثقافة الأساس النظري لكل انتشار آخر، فسرعان ما تعم السيطرة الاقتصادية والعسكرية، وتعم التبعية، وتضيع الهوية لدى كل الشعوب غير الأوروبية. ولا خلاص من ذلك إلا بثورة عارمة مضادة تنقل الأمة من الفعل إلى رد الفعل، من التغريب إلى مقاومة الغرب؛ فمقاومة الغرب إنما هي نتيجة التغريب ورد فعل عليه. يولد الشيء نقيضه، ويتضمنه ليرثه ويحل محله.
لقد طالت فترة الترجمة والنقل عن الغرب بالرغم من مرور أكثر من مائتي عام. ولم نصل إلى مرحلة الشرح والتلخيص الواعي كمرحلة نحو العرض والتأليف من أجل الوصول النهائي إلى مرحلة الخلق والإبداع. لم نصل إلى مرحلة صياغة الحكمة النظرية والحكمة العملية إلى صياغة منطق وطبيعيات وإلهيات كما وصل القدماء. ترجماتنا معظمها عشوائي لأسباب المهنة، والقليل منها قصدي من أجل المساهمة في النهضة العربية المعاصرة.
31
غلب على مصطلحاتها التعريب؛ أي النقل الصوتي للفظ، وليس الترجمة أي النقل المعنوي، حتى امتلأت اللغة العربية المعاصرة بمعظم المصطلحات العلمية الحديثة المعربة، وخلت من الشروح أو التلخيصات أو التعليقات القادرة على الغوص في المعنى وإعادة عرضها بأسلوب جديد، وتوجيه مقاصدها من الوافد نحو الموروث لخدمة الثقافة المحلية وليس ترويجا للثقافة الأجنبية. وما زالت الترجمة مستمرة، ولم نصل بعد إلى مرحلة التأليف الفلسفي المستقل الذي يجتمع فيه الوافد والموروث، أو الذي يتم فيه توظيف الوافد من أجل إعادة صياغة الموروث طبقا لثقافة العصر، وإعادة عرض القديم من خلال الجديد من أجل بداية إبداع ثقافي عربي جديد.
32
كانت الترجمات امتدادا للموروث داخل الوفد وترويجا لثقافة الخارج في الداخل كنوع من الوكالة الحضارية له؛ فالعقلاني يروج للعقلانية، والعلمي يترجم الاتجاهات العلمية، والإنساني الوجودي ينقل الوجودية، والماركسي يبشر بالماركسية، والبنيوي يدعو إلى البنيوية حتى أصبح الفكر العربي المعاصر مجرد تجاور بين ثقافتين، الموروث والوافد دون تفاعل بينهما إلا في أقل القليل بطريق المرآة المزدوجة، قراءة الأنا في الآخر وقراءة الآخر في الأنا كما فعل الطهطاوي في «تخليص الإبريز».
كانت الثقافة الغربية نمطا للتحديث في الفكر الغربي المعاصر بتياراته الرئيسية الثلاث: الإصلاح الديني، والفكر الليبرالي، والتيار العلمي العلماني. وكانت فلسفة التنوير مطلبا للجميع، ونموذجا يحتذى به تلبية لمطالب الواقع من عقلانية وحرية ونزعة إنسانية وعلمية طبيعية وتقدم. كما ظهرت مذاهب سياسية تعبر عن اختيارات الصفوة مثل الليبرالية والقومية والماركسية في مقابل إسلامية الجماهير ونزعاتها المحافظة. وذاعت المذاهب والمناهج الفلسفية الغربية من مثالية ووضعية ووجودية وشخصانية وماركسية وظاهرية وبنيوية وأخيرا تفكيكية وما بعد الحداثة. فلما ظهرت عزلتها وسط الثقافة العامة وحصارها من الموروث حاولت التكيف معه. فخرجت لنا «الجوانية» باعتبارها مثالية إسلامية، و«الماركسية التاريخانية» أو «الماركسية الليبرالية» باعتبارها ماركسية عربية، و«الشخصانية الإسلامية» و«الوجودية العربية» و«الاشتراكية العربية» تستخدم فيها الثقافة المحلية لتبرير الثقافة الوافدة، وليس الثقافة الوافدة، كأدوات تعبير عن الثقافة المحلية.
33
Unknown page
صحيح أن إبداعاتنا عملية في إتمام حركة التحرر الوطني، وإنشاء دولنا الحديثة، والتصنيع، واستصلاح الأراضي، وفي الثورات الحديثة، ثورات الضباط الأحرار أو الثورة الإسلامية في إيران أو الثورات والهبات الشعبية في مصر والسودان والمغرب والجزائر وتونس والأردن وسوريا. ونظرا لأن هذه الإبداعات العملية لم تواكبها إبداعات نظرية على نفس المستوى انهارت معظم المشاريع القومية الليبرالية والقومية الاشتراكية والإسلامية. بل وتفاقمت الأزمات، واشتد الكرب: احتلال مزيد من الأراضي في فلسطين، انتهاك حقوق المواطنين، تفاقم أزمة الحريات العامة، ازدياد الهوة بين الأغنياء والفقراء، سيطرة التجزئة على الأمة الواحدة، اندلاع الحروب الطائفية والقبلية والعشائرية، زيادة التبعية للخارج، الاعتماد عليه في الغذاء والسلاح والتعليم والثقافة، ضياع الهوية لصالح التغريب، سكون الجماهير ولا مبالاتها لما يحدث في حياتها من انتهاك لاستقلالها ونيل من كرامتها الوطنية. كل ذلك يحدث في منطقتنا والعالم يجدد نفسه، الرأسمالية تجدد نفسها، والاشتراكية تحدث نفسها، بينما تنحسر أيديولوجيات العالم الثالث وتنهار مشاريعه في التحرير والاستقلال الوطني.
صحيح أن المشاريع العربية المعاصرة ظاهرة أمل في حياتنا الثقافية والسياسية في ظروف موقفنا الحضاري المثلث الجبهات: التراث القديم، والتراث الغربي، والواقع المباشر. وهي تعادل المذاهب الفلسفية الغربية في ظروف العصور الحديثة في الغرب وقطيعته المعرفية مع الماضي منذ عصر النهضة الأوروبي في القرن السادس عشر. يتم إبداعها في ظروف مغايرة لظروف القدماء؛ فقد نشأ معظمها مواكبا لهزيمة 1967م، وبالتالي خرجت من جرح الهزيمة. في حين خرج إبداع القدماء من نشوة الانتصار وزهو الغلبة. وكلاهما إبداع وإن اختلفت الظروف، وإن تعددت النماذج. انتشرت في مصر والمغرب والشام مراكز الإبداع في الوطن العربي والآن يلحق الخليج.
34
وقد تنشأ أجيال جديدة تتجاوزها وتطلق حدودها، وتبدع مناهجها الخاصة بدلا من استعارة المناهج الغربية، بنيوية في المغرب أو ماركسية في الشام أو مثالية في مصر أو اجتماعية في الخليج. وتتخلى عن روح التحزب السياسي والفكري، وإلا ارتدت قطعية مذهبية، وتثبت فاعليتها وأثرها على الناس وتحريكها للتاريخ بخروجها عن نخبويتها وعقول أصحابها إلى الفضاء الخارجي. (2) إبداع القدماء
وفي مقابل نقل المحدثين هناك إبداع القدماء. والدافع الحقيقي لكتابة «من النقل إلى الإبداع» هو إعطاء درس للناقلين المحدثين من المبدعين القدماء. ليست الغاية دراسة صلة الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني أو كما يقال «أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية» أو «التراث اليوناني في التراث الإسلامي» دراسة تاريخية صرفة بمنهج تاريخي مقارن، بمنهج الأثر والتأثر. فقد كثر اللغط في ذلك إما من المستشرقين لتفريغ الحضارة الإسلامية من مضمونها والقضاء على الإبداع الذاتي أو من الدارسين العرب التابعين للمستشرقين نقلا وترويجا أو ادعاء للتحديث وللانتماء إلى اليونان على حساب الثقافة المحلية، وللوافد على الموروث أو استسهالا لنقل ما هو شائع من أحكام طلبا للرزق واستيفاء ادعاء العلم بثقافتين. الهدف هو قراءة القدماء بهم المحدثين، ونعي المحدثين في علاقتهم بالغرب أمام القدماء في علاقتهم باليونان. الهدف هو تلمس مواطن الإبداع في علوم الحكمة بعد أن تم النقل والشرح والتلخيص والتعليق والعرض والتأليف، ثم الإبداع الخالص لمقارنة اللحظة الأولى باللحظة الثانية، عصر المأمون وعصر محمد علي، ديوان الحكمة ومدرسة الألسن، حنين بن إسحاق ورفاعة رافع الطهطاوي. الهدف هو تعلم نموذج الإبداع من القدماء أو لإعطاء نموذج إبداع جديد بعد أن طال نقل المحدثين، ولم يظهر إبداعهم بعد إلا على نحو جزئي وفردي دون أن يصبح بعد تيارا عاما، وعملا جماعيا، وسمة لمرحلة تاريخية. المهم قراءة هم الحاضر في نشوة الماضي وقراءة عظمة الماضي في مأساة الحاضر، قياس مرحلة الهزيمة بمرحلة الانتصار والعودة إلى مرحلة الانتصار للبحث عن جذور الهزيمة. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنموذج قديم لحل إشكال معاصر عن طريق تحليل الوعي التاريخي للأمة واكتشاف أنماطها السابقة فيه، في لا وعيها الثقافي الذي تراكمت عليه ثقافات السلطة والتقليد. وقد يصبح في الإمكان عن طريق الوعي التاريخي وإحياء النموذج الماضي درء مخاطر العصر والقضاء على الاغتراب فيه. والوعي بإبداع القدماء قد يكون أحد الوسائل لتجاوز نقل المحدثين. «من النقل إلى الإبداع» إذن محاولة لإعطاء نموذج من القدماء على الاحتراس من التغريب وعدم الوقوع فيه؛ فقد تعرف الحكماء القدماء على الغرب في عصرهم أي اليونان. ونقلوا عنهم المعارف في جيل واحد أو جيلين. وبمجرد بداية القرن الثالث، والنقل ما زال مستمرا بدأ الإبداع.
35
واستمر التأليف موازيا للنقل في القرن الرابع حتى انتهى مجموع النقل وعم التأليف كطابع عام لمرحلة تاريخية هي التي أصبحت عنوانا للحضارة الإسلامية وذروة لها.
36
كما استمر الشرح والتلخيص والتعليق في القرنين الخامس والسادس في خط مواز مع التأليف المستقل.
37
Unknown page
تمثل الحكماء حضارة الآخر بعد ترجمتها ونقلها ثم احتوائها بالشرح والتلخيص ثم نقدها وقبول ما يتفق منها مع العقل والطبيعة والتجربة الإنسانية وعذر الأخطاء فيها، وردها إلى طبيعية البيئة الثقافية الخارجية كاللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشعوب الأجنبية.
وفي الوقت الذي كان يتناهى فيه الإبداع عندنا كان النقل يتم في الغرب منا إليه؛ فقد كان ابن رشد آخر الفلاسفة المسلمين في المغرب (595ه) معاصرا لأكبر المترجمين اللاتين فيه، جيرار الكريموني (583ه/1187م). وفي الوقت الذي سقطت فيه طليطلة (478ه) وقت إمام الحرمين في المشرق أستاذ الغزالي واللذين لم يؤثر فيهما هذا السقوط في بناء العقائد ولا في اختيار الأشعرية والتصوف، انتهى دورها كمركز للإبداع عند المسلمين، وبدأ دورها كمركز للنقل والترجمة عند النصارى. وكان اليهود حلقة الاتصال بين الاثنين، إبداع المسلمين ونقل النصارى. وإن من مهام «من النقل إلى الإبداع» أيضا هو إعادة كتابة تاريخ الوعي الأوروبي بالتاريخ الهجري ردا على تاريخ الحضارة الإسلامية بالتاريخ الميلادي ووضعها في مراحل تاريخ الوعي الأوروبي، مرحلة العصر الوسيط. «من النقل إلى الإبداع» دراسة لنشأة الحضارة الإسلامية وتطورها في علاقتها مع الآخر في مرحلة الازدهار والاكتمال وفي الوقت الذي كانت فيه الحضارة الغربية في العصر الوسيط في مرحلة التعلم والتتلمذ علينا حتى يتم الوعي بالمسار المتبادل بين الأنا والآخر من أجل القضاء على ظاهرة التغريب في عصرنا، والوعي بنهاية عصر ريادة الغرب وتبعية سواه.
38
وإن تذبذب وعينا التاريخي المعاصر بين التاريخين الهجري والميلادي، وميلنا إلى التاريخ الميلادي منذ عصر النهضة ليدل على تداخل المسارين، مساري الأنا والآخر، واغتراب المسار التاريخي للأنا في المسار التاريخي للآخر باستثناء إيران بعد الثورة الإسلامية، واليمن بعد الثورة الوطنية، ودول شبه الجزيرة العربية تأكيدا على المحافظة الدينية كدعامة أولى للنظم السياسية، ودرءا للثورة التي ارتبطت بالمذاهب السياسية الغربية، القومية والليبرالية والماركسية. وقد أكدت كل الشعوب الناهضة على التاريخ الوطني للأنا استقلالا عن الغرب وتأكيدا للهوية مثل اليابان. وإن الصهيونية تؤرخ لليهودية منذ خلق العالم وإلا أرخوا مرة مع اليونان، ومرة ثانية مع المسلمين، ومرة ثالثة مع الغرب الحديث. وما ينطبق على التاريخ ينطبق على الجغرافيا؛ فنحن الشرق الأوسط والصيني الشرق الأقصى بالنسبة إلى الغرب، مع أننا العالم العربي الإسلامي بالنسبة إلى أنفسنا، أوروبا غربنا وآسيا شرقنا. الغرب بالنسبة لنا هو الغرب الأدنى، وأمريكا بالنسبة لنا هو الغرب الأقصى. والحرب العالمية الأولى بالنسبة للغرب هي نهاية عصر الخلافة وبداية الحروب الصليبية الثانية بالنسبة لنا. والعصر الوسيط بالنسبة للغرب هو عصرنا الذهبي قبل ابن خلدون، والعصور الحديثة بالنسبة للغرب هي عصر الشروح والملخصات بالنسبة لنا قبل نهضتنا الحديثة منذ القرن الماضي وبالرغم من كبوتها هذا القرن.
وكان انفتاح القدماء على الآخر متعددا متنوعا دون أن تستأثر بهم حضارة على حساب أخرى. نقلوا حضارات الأمم السابقة بلا تحيز لإحداها أو سيطرة لها على ذهن الأمة. نقلوا ثقافات اليونان والروم من الغرب؛ وفارس والهند من شرق. فقد انتشر الإسلام شرقا قدر انتشاره غربا، بل كان انتشاره شرقا أسرع وأكثر امتدادا في البر نظرا لسهول آسيا الوسطى الممتدة حتى بحر الصين. كان النقل عن اليونان أكثر وأوسع انتشارا وأكثر حضورا وإثارة نظرا لانتشار الثقافة اليونانية على رقعة البلاد المفتوحة أكثر من أية ثقافة أخرى. وكانت قد انتشرت من قبل في الديانات السابقة مثل النصرانية واليهودية والديانات الشرقية كالمانونية وغيرها، هذا بالإضافة إلى ما تتميز به الثقافة اليونانية من خصائص تجعلها قريبة من الحضارة الناشئة الجديدة مثل العقلانية والقدرة على التأمل والاستدلال، والاتجاه نحو الطبيعة والفطرة، والنظرة الإنسانية للعالم. ولقد حاول القدماء ذلك صراحة كما فعل صاعد الأندلسي في «طبقات الأمم» حرصا على التعددية، وإعطاء كل شعب حقه والاعتراف بدوره في الحضارة البشرية العامة دون ما استثناء أو أثرة.
39
وقد تكون علاقة القدماء بالآخر وأولوية الغرب: اليونان والرومان، على الشرق: فارس والهند، مثل علاقتنا الآن بالغرب الحديث: أوروبا المعاصرة، وأوليتها على الشرق: الصين والهند، نظرا لارتباط تاريخنا الحديث، حقبة الاستعمار، بالغرب، بالرغم من تأييد الشرق لنا أثناء حركة التحرر الوطني، ونظرا لأن الغرب ما زال يمثل بالنسبة لنا مصدر التحدي الأول، مصدرا للعلم بدلا أن يكون موضوعا للعلم. وقد يكون ما رآه القدماء من خصائص مثالية عند اليونان، مثل العقل والطبيعة والإنسان، ما نراه حاليا منذ رواد النهضة العربية الحديثة في الغرب من مثل التنوير وهي نفسها المثل القديمة، العقل والطبيعة والإنسان والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم. لقد تحدث القدماء عن فارس والهند والصين أكثر مما نتحدث عنهم الآن. لم يعرف القدماء اليابان، ويكاد يعرفها المحدثون بالرغم من أن نهضة الشرق الحديث أكثر جذبا لنا من نهضة الشرق القديم وجذبها للقدماء.
40
لقد حدث حوار بين القدماء، بين أنصار فارس، زهرة الشرق، وأنصار اليونان درة الغرب، بين الحكمة الفارسية والحكمة اليونانية دون خصومة أو شقاق.
41
Unknown page
تعادل جناحا العالم الإسلامي، الشرقي والغربي، فطار العالم الإسلامي دون أن ينحرف غربا أو ينحرف شرقا:
لا شرقية ولا غربية . في حين طرنا نحن بجناح غربي قوي وجناح شرقي ضعيف، فاغتربنا، وانحزنا للغرب، ونشأت بيننا ظاهرة التغريب، وعمت وانتشرت حتى أصبح وعينا القومي مغتربا عن مسار الأنا في مسار الآخر.
42
وإذا وعينا الشرق فإننا نعي الهند أكثر مما نعي الصين أو اليابان، بل إن فارس التي شاركتنا الدين والحضارة والتاريخ حصرناها في أقسام اللغات الشرقية، وعاديناها في الجوار.
وإذا كان «من العقيدة إلى الثورة» قد أصبح هو العنوان المفضل للجزء الأول من الجبهة الأولى لإعادة بناء علم أصول الدين بعد أن كان العنوان في وصف المشروع الأول منذ عقدين من الزمان «علم الإنسان»
Anthropology
في مقابل «علم الله»
Theology ، فكذلك كان عنوان «من النقل إلى الإبداع» هو «فلسفة الحضارة» لأنه يتعلق بصلة حضارة الأنا بالحضارات الأخرى، اليونانية والرومانية والفارسية والهندية.
43
ويدل تركيب «من ... إلى» على هذا التمايز بين القدماء والمحدثين، والانتقال من القديم إلى الجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. كان من ضمن العناوين المقترحة، ولو في الخاتمة «من تمثل اليونان إلى رفض الغرب» إبرازا للتقابل بين إبداع القدماء في تمثل اليونان، واحتواء ثقافتهم، والتعبير عن الأنا من خلال الآخر، ونقل المعاصرين وتغريبهم واحتوائهم في ثقافة الغير وتبعيتهم لها. ولا ضير في نمطية التركيب «من ... إلى»، فما زال مؤثرا في النفس، «من العقيدة إلى الثورة» انتقالا من عقائد القدماء إلى ثورة المعاصرين، «من النقل إلى الإبداع» انتقالا من نقل المعاصرين إلى إبداع القدماء؛ فالمعاصرة لا تعني الزمان التاريخي بالضرورة بل الموقف الحضاري. وبهذا المعنى قد يكون القديم أكثر معاصرة من الحديث، وقد يكون الحديث أكثر قدما من القدماء. وتستمر هذه النمطية في التركيب في باقي أجزاء الجبهة الأولى «من الفناء إلى البقاء» لإعادة بناء علوم التصوف، «من النص إلى الواقع» لإعادة بناء علم أصول الفقه، «من النقل إلى العقل» لإعادة بناء العلوم النقلية.
Unknown page
44
ولفظ «النقل» هو اللفظ القديم لما نعنيه حاليا بلفظ الترجمة وما يعنيه الشوام بلفظ «التعريب»؛ أي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى. وأحيانا يفيد النقل النقل الحرفي للمعني من لغة إلى لغة. في حين أن لفظ الترجمة قد يفيد الذهاب إلى ما هو أبعد من النقل إلى تأويل المعنى؛ أي إلى النقل المعنوي. النقل يتم على مستوى الألفاظ، والترجمة تتم على مستوى المعاني.
45
النقل مجرد تحريك اللفظ من لغة إلى لغة في حين أن الترجمة تعبير عن معنى اللفظ في لفظ بلفظ مرادف في لغة أخرى، وقد فضلنا اللفظ القديم «النقل» على الحديث «الترجمة» حرصا على التواصل مع القدماء. أما لفظ «الإبداع»، فإنه لفظ قديم، أحد أسماء الله الحسنى :
بديع السموات والأرض ، وهو لفظ حديث كثر استعماله من أجل الدلالة على أزمة الإبداع في عصرنا، الإبداع الشامل في الفكر والأدب والفن والعلم والسياسة، إحساسا بأن فترة النقل قد طالت، إما النقل عن القدماء أو النقل عن المحدثين.
46
وكثرت الندوات، وأنشئت المجلات، وقامت مراكز الأبحاث لتناول مشكلة الإبداع. وبالتالي يحتوي العنوان: «من النقل إلى الإبداع» على لفظ قديم ولفظ جديد، ويدل على الانتقال من القدماء إلى المحدثين، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن التراث إلى التجديد، ومن مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، وعلى نفس إيقاع «من العقيدة إلى الثورة».
أما العنوان الفرعي «محاولة لإعادة بناء علوم الحكمة» فهو أيضا العنوان النمطي الفرعي لكل أجزاء الجبهة الأولى لإعادة بناء العلوم القديمة: علم أصول الدين، علوم الحكمة، علوم التصوف، علم أصول الفقه، العلوم النقلية بعد أن دخلت العلوم العقلية والطبيعية في علوم الحكمة النظرية، والعلوم الإنسانية، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ في الحكمة العملية، وهو التعبير الوحيد المضاف إلى تعبيرات القدماء في تسمية علومهم لما كان عصرهم هو عصر العلوم الدينية والشرعية، في حين أن عصرنا هو عصر العلوم الإنسانية. وعلوم الحكمة هو التعبير المختار عند القدماء ابن سينا خاصة كعنوان فرعي في موسوعاته الكبرى «الشفاء»، وملخصها «النجاة»، وشرحهما، والإضافة عليهما وقراءتهما في «الإشارات والتنبيهات»، وليس الفلسفة والذي استعمله القدماء في وصف الفلسفة اليونانية وليس في تحديد معنى العلم.
47
فالتمايز بين الأنا والآخر واضح في العنوان الفرعي «علوم الحكمة» عند الأنا في مقابل «الفلسفة» عند الآخر. التعبير الأول عربي أصيل مستمد من الأصل الأول، القرآن الكريم:
Unknown page
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ،
يؤتي الحكمة من يشاء ، في حين أن اللفظ الثاني معرب من اللفظين اليونانيين: فيلا سوفيا. وقد نقلا معربين: «الفلسفة»، ومترجمين: محبة الحكمة.
48
ثالثا: ظاهرة «التشكل الكاذب» (1) خطأ الحكم بالنقل والتأثر والخلط والتوفيق
ذاعت عدة أحكام خاطئة على علوم الحكمة منذ تسميتها الفلسفة الإسلامية بأنها امتداد لعلوم اليونان، وأن الحكماء؛ أي الفلاسفة، ما هم إلا أتباع المعلم الأول، وأن أقصى ما أبدعوه هو المعلم الثاني أو الشارح الأعظم. علوم الحكمة ما هي إلا شروح على متون الشرح لفظا بلفظ، وعبارة بعبارة، وفقرة بفقرة، وفصلا بفصل، وبابا بباب، وكأن المسلمين قد استبدلوا بنص الوحي نص أرسطو؛ فالأنا يدور في فلك الآخر. الآخر هو الأصل، والأنا الفرع. كان أقصى إبداع للحضارة الإسلامية هو شروحها على أرسطو ونقل ذلك إلى الغرب، استفاد منه أولا لتأييد الدين ثم لفظه ثانيا عندما اكتشف عورته وهو بصدد نشأة العلم الحديث إبان الفصل بين الفلسفة والدين، والعلم والإيمان. وقد أصدر هذا الحكم بعض المستشرقين. وتابعهم فيه بعض العرب المقلدين من محرري الكتب المقررة ومدعي التجديد إيحاء برفض المحلية وتبنيا لمحلية الثقافة وهي اليونانية، مستنكفا من حضارة الأنا ومدعيا ثقافة الآخر، إحساسا بالدونية. وبالإضافة إلى عيوب الاستشراق العامة المنهجية والموضوعية التي وراء كثير من أحكامه يخطئ هذا الحكم ليس فقط بالنسبة للحضارة الإسلامية في التقائها مع الحضارات المجاورة، بل بالنسبة لالتقاء الحضارات بعضها بالبعض الآخر. فلا توجد حضارة ناقلة لأخرى.
49
الحضارات كائنات حية، لكل منها استقلالها الذاتي، وحياتها الخاصة، وشخصيتها المتميزة، لكل منها جوهرها وبؤرتها ومحاورها وتصورها للعالم وقيمها. لكل منها عمرها ودورتها ودورها في تاريخ الحضارات البشرية. علاقاتها بالحضارات المجاورة تحكمه قوانين التقاء الحضارات ومنطقه والذي حاول الغرب صياغته في علم «أنثروبولوجيا الثقافة». إن لم يعرفه التابع العربي نظرا لعدم اطلاعه على الثقافة الغربية والعلوم الإنسانية، فإن المستشرق لا عذر له لأن الثقافة الغربية ثقافته، والعلوم الإنسانية علومه. وعادة ما يكون المستشرق لغويا مؤرخا لا شأن له بتطورات الثقافة الغربية ولا علومها، عالما داخل حضارته من الدرجة الثانية. وقد يكون على علم بها ولكنه بها ضنين؛ فهي إبداعات الحضارات المتميزة الحديثة لا تطبق إلا في الموضوعات المتميزة الحديثة. والحضارة الإسلامية ليست كذلك؛ فهي تنتمي إلى الحضارات اللاأوروبية، حضارات الأطراف التي وظيفتها النقل عن المركز. تنتمي إلى الحضارة السامية بما فيها من تناقض وسحر وتسلط في مقابل الحضارة الآرية التي تقوم على العقل والعلم والحرية. وهي نظرة عنصرية قديمة سادت الاستشراق الأوروبي في القرن الماضي. والواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها من الحضارات المجاورة، تأخذ منها طبقا لاختيارها الخاص، وتتمثل منها ما تريد، وتعيد توظيفه من منظورها وطبقا لاحتياجاتها. لا يوجد نقل حرفي أو تقليد فردي من حضارة لأخرى؛ فهذا افتراض نظري لا وجود له، يدل على عقلية الرائي وأهدافه أكثر مما يكشف الموضوع المرئي وتكوينه. هي عقلية تقوم على التفرقة بين المركز والمحيط، الأصل والفرع، المبدع والناقل، العبقري والمجدب، الأبيض والأسود، السيد والعبد، اليوناني والبربري. تلك كانت علاقة اليونان بغيرهم من الشعوب المجاورة، نموذج علاقة الغرب الحديث بالشعوب اللاأوروبية في أفريقيا وآسيا بعد القضاء على الشعوب الأصلية في أمريكا اللاتينية.
وقد يخف الحكم من النقل الآلي، والنسخ المطابق، والتقليد الأعمى إلى الأثر والتأثر، أثر الفلسفة اليونانية في الفلسفة الإسلامية، وتأثر الفلسفة الإسلامية بالفلسفة اليونانية. هنا على الأقل يوجد تمايز بين حضارتين، تمايز وجود، وأن كان هناك فيض من المركز إلى المحيط في الثقافة والعلوم. هناك أثر ميتافيزيقا أرسطو على إلهيات ابن سينا في العلة الأولى والمحرك الأول، وأثر فيض أفلوطين على تصور الفارابي للصلة بين العقل الأول والعقول العشرة، وأثر أفلاطون على أنصار الحكمة الإشراقية مثل إخوان الصفا، وأثر أرسطو على ابن رشد في كل شيء في المنطق والطبيعات والإلهيات. أقسام النفس وقواها عند ابن سينا من أرسطو، والمدينة الفاضلة عند الفارابي من جمهورية أفلاطون. ويرجع خطأ الحكم بالأثر والتأثر إلى السرعة والحكم بظاهر اللغة بالإضافة إلى عموم استعمال لفظي الأثر والتأثر؛ فاللغة ثوب الفكر بتعبير القدماء، شكل دون مضمون، لفظ دون معنى، بدن دون نفس، صوت بلا دلالة. واستعمال علوم الحكمة ألفاظ الفلسفة اليونانية ومصطلحاتها لا تعني تبني معانيها وتصوراتها أو وصف نفس الأشياء التي تحيل إليها هذه الألفاظ وتفيد نفس المعاني. اللفظ مجرد أداة ووسيلة وليس غاية أو قصد الحكم بالأثر والتأثر إذن حكم متسرع لا يذهب أبعد من مستوى الألفاظ بدعوى أنه حكم على المضمون. ينطلق من اللغة، ويمتد إلى الفكر، من العرض إلى الجوهر، ومن الظاهر إلى الحقيقة. وكان المستشرق قد تربى على أن أصول الحضارة عند اليونان كما تدل على ذلك الحضارة الغربية في عصورها الحديثة. كما أن المستشرق عنصري الحضارة، مركزي الثقافة، أبيض اللون، ومتفوق العصر كما يبدو في الأعمال السينمائية. وبالتالي يحيل موضوعه في الأطراف إلى أصوله في المركز، فيحكم بالأثر والتأثر. الغير عنده يرد إلى الأنا لديه؛ فيرد كل شيء إليه، وتصب الخيرات والثروات والسكان والعلوم والثقافات في المركز من المنابع التي خرجت منها: ذهب جنوب أفريقيا، عبيد أفريقيا، قطن مصر، توابل الهند، مطاط الملايو، ثقافة العالم القديم وعلومه. حضارة اليونان خلق عبقري على غير منوال. أثرت في حضارات الشعوب المجاورة، مصر وفارس وفينيقيا وكنعان وبابل وآشور، ولم تأخذ منها شيئا بالرغم من حداثة اليونان وقدم شعوب الشرق القديم.
50
والحقيقة أن لفظ أثر لفظ متشابه. الأثر متعدد المستويات: المستوى الأول اللغة، وهو ما حدث في علوم الحكمة، هو المستوى الظاهري الشكلي الخارجي. وهو ليس أثرا بالمعنى الدقيق بعد عصر الترجمة، بعد أن أصبحت اللغة مشاعا عند الجميع، لا فرق بين وافد وموروث. إنما الخلاف بين اللفظين المتشابهين هو خلاف فقط في علم الأصوات، في طريقة النطق مثل عقل
Unknown page