Min Naql Ila Ibdac Sharh
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (٣) الشرح: التفسير – التلخيص – الجوامع
Genres
وبالرغم من شهرة ابن سينا في علوم الحكمة إلا أنه تجاوز الحد بقوله إنه بإمكان الإنسان أن يتولد من التراب كما يتولد الفأر. هذا هو اعتقاده وإن لم يكن قوله. يدخل ابن رشد في مذهب ابن سينا ويدفعه إلى أقصى نتائجه الممكنة في نظرية التولد الطبيعي التي عرضها ابن سينا في أول «حي بن يقظان» لتفسير نشأة حي باجتماع قدر معين من الرطوبة مع درجة معينة من الحرارة، وهو أفضل ما وصل إليه القدماء من علوم الحياة والتطور.
136
ويتهم ابن رشد ابن سينا أنه قال ذلك موافقة لأهل زمانه أي اتباعا للثقافة الشائعة. ربما يعني ابن رشد الثقافة غير العلمية لأنه لو شاعت الثقافة العلمية في تفسير الحياة تفسيرا طبيعيا كانت قد انتشرت وتحولت إلى ثقافة علمية مزاحمة للثقافة الدينية الشائعة. كما تابع علم الأشعرية مع أن الأشعرية لم تصل إلى هذا الفكر العلمي الطبيعي الحيوي التطوري وأقرب إلى الخلق من عدم، وهو فكر أقرب إلى أصحاب الطبائع ونظرية الكمون والخلق المستمر. يبدو ابن رشد هنا متكلما أشعريا تقليديا يرفض القول بالطبائع والتولد الطبيعي.
137
ولقد أخطأ ابن سينا عندما ظن أن الواحد والموجود يدلان على صفات زائدة على ذات الشيء وهو أثر الأشعرية في القول بالصفات زائدة على الذات. جمع ابن سينا بين الإشراقية والأشعرية مما جعله أشعري الحكمة، وحكيم الأشعرية مثل الفارابي. في حين أن ابن رشد معتزلي الحكمة، وحكيم الاعتزال مثل الكندي. مع أن ابن سينا يحاول الاستفادة من الموروث الكلامي لتقريبه إلى الوافد الفلسفي، وفي نفس الوقت يؤول الوافد الأرسطي كي يجعل قريبا من الموروث الكلامي من أجل تحقيق وحدة الثقافة الفلسفية، وهو الهدف الذي قامت من أجله علوم الحكمة. أراد ابن سينا أشعرة أرسطو كي يقترب من الموروث و«أرسطنة» الكلام كي يقترب من الوافد. كما استعمل ابن رشد تفرقة المتكلمين بين الصفات المعنوية والصفات النفسية من أجل نقد ابن سينا. فالواحد والموجود من صفات الذات «الست» أي من الأوصاف وهي ليست زائدة عليها. ينقد ابن رشد علم الكلام عندما لا يحتاج إليه ويكون في تعارض مع أرسطو ويستعمل علم الكلام عندما يمكن استعماله للدفاع عن أرسطو. وحجة ابن سينا ضد التوحيد بين الذات والصفات، الوجود واحد، والواحد موجود، تقوم في رأي ابن رشد على افتراض باطل وهو أن «واحد» و«موجود» يدلان على معنى واحد وهو غير صحيح؛ فهما يدلان على الذات في أنحاء مختلفة. لقد أخطأ ابن سينا وخلط كلامه بكلام الأشعرية وتفرقتهم بين صفات المعنى وصفات النفس، وإن الواحد والموجود من صفات الذات وليست زائدة عليها. وحجة ابن سينا أنه لو كان الواحد والموجود يدلان على معنى واحد لكان القول بأن الموجود واحد مثل القول بأن الموجود موجود، والواحد واحد، وهذا يلزم لو قيل في الشيء الواحد أن «موجود» و«واحد» يدلان على معنى واحد من جهة واحدة ونحو واحد. بل قلنا إنهما يدلان على الذات الواحدة بأنحاء مختلفة لا على صفات مختلفة زائدة عليها. لم يميز ابن سينا بين الدلالات التي تدل على الذات الواحدة على أنحاء مختلفة من غير أن تدل على معاني زائدة وبين الدلالات التي تدل من الذات الواحدة على صفات زائدة مغايرة لها. أخطأ ابن سينا لأن اسم الواحد من الأسماء المشتقة التي تدل على عرض وجوهر. فظن أن اسم الواحد يدل على معنى في الشيء الذي لا ينقسم وهو غير المعنى الذي هو طبيعة. كما ظن أن الواحد المقول على جميع المقولات هو الواحد الذي هو مبدأ العدد هو من الموجودات التي يقال عليها اسم الواحد وإن كان أحقها بالاسم. لو كان الشيء واحدا بأمر زائد كما قال ابن سينا لم يكن شيء واحد بذاته وجوهره بل بشيء زائد على جوهره. فلو كان الشيء الذي صار به واحدا صار بمعنى زائد على ذاته فكيف صار هذا الشيء واحدا؟ فإن كان بمعنى زائد عليه لتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم يلزم أن يكون الشيء واحدا بذاته وليس بصفة زائدة عليه.
138
أخطأ ابن سينا إذن في اعتبار الواحد والموجود يدلان على معنى زائد في الشيء لأنه لا يرى أن الشيء موجود بذاته بل بصفة زائدة عليه، والواحد والموجود عنده عرضان في الشيء. وتلزم منه محالات عديدة منها ضرورة التسلسل إلى ما لا نهاية حتى يصبح الشيء معرفا بذاته لأن كل شيء معرف بصفة زائدة عليه يلزم هذه الصفة أن تكون معرفة بصفة زائدة ويتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية. كما أنه أخطأ في ظنه أن الواحد الذي هو مبدأ الكمية هو الواحد المرادف للوجود.
لقد خلط ابن سينا بين الواحد العددي والواحد الموجود. وظن أن الواحد مبدأ العدد هو جنس للموجودات العشرة إذ إنه يدل على عرض مشترك بينهما. وأشكل عليه الفرق بين الاثنين. أخطأ في الخلط بين اسم الوجود الذي يدل على الجنس واسم الوجود الذي يدل على الصادق أي على كل واحد من المقولات العشر، خطأ في علم المنطق وخطأ في علم الطبيعة. لقد توهم ابن سينا أنه ما دام اسم الوجود اسما مشتقا فإنه يدل على العرض لا على الجوهر مضحيا بالجوهر في سبيل العرض، ومدمرا للطبيعة. يكشف ابن رشد خطأ ابن سينا عن طريق تحليل اللغة والتمييز بين الاسم المفرد والاسم المشتق كما هو الحال في مبحث العبارة في المنطق أو بين المحكم والمتشابه كما هو الحال في علم الأصول. خطأ ابن سينا ينتهي إلى استحالة تعريف الجوهر ما دامت الجواهر أعراضا والأعراض جواهر. وانتهى الأمر كذلك إلى ما لانهاية. وهنا يثبت ابن رشد خطأ قضية ابن سينا بتحويلها من قضية ميتافيزيقية إلى قضية منطقية. ويدافع ابن رشد عن العالم ضد تحويله إلى مثال عند ابن سينا. فالصراع بين ابن رشد وابن سينا مثل الصراع بين أرسطو وأفلاطون . كما حاول ابن رشد إرجاع الفكر الإسلامي إلى العالم فلم يستطع، وظل تحت سطوة الإشراق وعلم الأشعرية.
ونظرا لأخطاء ابن سينا في كل هذه المقدمات اعتقد أن الصور كلها من العقل الفعال وهو الذي يسميه واهب الصور. وهو خطأ الفارابي كذلك أي في كل تيار الفلسفة الإشراقية. لم يفهم كلاهما معنى قول أرسطو وتصوره للنفس النباتية وما لا إلى قول أفلاطون بالصور المفارقة. فابن رشد مع أرسطو في التوحيد الطبيعي، وابن سينا والفارابي مع أفلاطون في التوحيد المفارق للطبيعة. ويشرح ابن رشد علاقة الصورة بالمادة. مذهب أرسطو به اختراع وكمون. وهو الجامع بين المذهبين المتعارضين على التوسط وهو مذهب ابن رشد.
139
Unknown page