وقد علق بذهني هذا ودار في نفسي من يومئذ، فأضفته إلى ما كنت أعرف من فضل المقاومة، بل ضرورتها، فإني عاجز عن تصور حياة لا يلقى فيها الحي مقاومة. وكيف تكون يا ترى هذه الحياة إذا أمكن أن توجد حياة على هذا النحو؟ لا أدري، ولا أحسب أن أحدا يستطيع أن يزعم أن في وسعه تخيلها ... ماذا يدفع فيها إلى العمل ويغري بالسعي، ويبعث على الطموح؟ الحب الذي هو الوسيلة إلى حفظ النوع في الدنيا، كيف يكون حينئذ ولا مقاومة هناك ولا عائق ولا صعاب، ولا عراقيل ولا حواجز من العرف أو القانون أو غير ذلك؟ أتراه يصبح لهوا وعبثا ومسلاة؟ وكيف تكون له لذة اللهو ومتعة العبث ومزية التسلي وهو لا يمكن أن يوجد أصلا؟ أم ترى ينحط فينقلب مجرد رغبة عارضة واشتهاء زائل بزوال دواعيه الوقتية؟ وكيف تنشأ الرغبة؟ وماذا يشحذ الشهوة ولا شيء هناك من قبيل الموانع؟!
ودع الحب وانظر في غيره واسأل نفسك، ماذا عساك أن تطلب حينئذ ولا عسر هناك ولا عناء ولا خوف من حرمان؟ لأنه لا عقبة هناك ولا صعوبة ولا مقاومة من الأحوال أو الحظ أو الناس أو التنافس، أو غير ذلك مما تكون به المقاومة.
ويطول بي الكلام إذا أنا أحببت أن أتقصى وجوه هذا الأمر. وما الداعي إلى الإطالة والمسألة واضحة. كلا، لم أخسر بأن خلقت في هذا الزمن، ولا خسر أحد شيئا بأن خلق في زمنه؛ وإنما ينظر الإنسان إلى ما هو مستطيع ويقيسه إلى ما يشتهي فيرى البون عظيما والبعد كبيرا والمسافة طويلة بين المطلوب والموجود، فيتوهم أن ذلك إنما كان هكذا؛ لأن في الزمن عيبا وفي أحواله فسادا، وأنه لو كان في زمن آخر لكان حقيقا أن يكون أمله أقرب منالا وسعيه أعظم توفيقا. وهذا وهم كما قلت، فإن رغائب الإنسان في أي زمن أكثر مما يبلغ وينال. والذي يسمح لرغبته بأن تطغى إلى هذا الحد حتى لتصور أمر الحياة على هذا النحو المقلوب، تكون شهوته أقوى من إدراكه أو إرادته أو أعصابه إذا شئت. ***
وجدت بالتجربة أني لا أستطيع أن أحب كما تريد المرأة من الرجل. ولست أعني أني عاجز عن الحب، فما أعرف لي في هذه الدنيا عملا غير ذلك، فأنا أحب الطعام الجيد والشراب اللذيذ والنوم الهنيء والراحة التامة، وأحب الكتب والصديق الموافق الذي لا ينغص الحياة على صاحبه بطول المخالفة وكثرة المكابرة ودوام الشذوذ. وأحب أشياء كثيرة لا أستطيع أن أحصيها، ولكني أحب نفسي، وهذا هو البلاء الأكبر. وليس هو ببلاء إذا أردت الحق، ولكن المرأة تراه كذلك. وعندها أنك تبيع نفسك حين تحبها. ولا بأس بأن يبيع المرء نفسه أحيانا، ولكن بيعها لا يستلزم أن تترك حبها وتكف عنه. وهل يعقل أن تفيض بحبك على الناس والأشياء ولا تخص نفسك ببعض هذا «الفيضان»؟ غير أن غير المعقول عندك هو المعقول عندها، والذي لا يجوز خلافه ولا صبر لها على سواه، فهي من أجل ذلك تسود عيشك وتريك النجوم في الظهر الأحمر.
على أن الرجل يستطيع أن يخفي حبه لنفسه أو يموهه ويستره بما يحجبه؛ ولا أظن أن في هذا عسرا، فإنه يفعل هذا كل ساعة، ولا يزال يعزو أعماله إلى بواعث أخرى يظنها أشرف وأسمى من حب النفس، فهو مثلا يأكل لا لأنه يشتهي الطعام؛ بل لأن من واجبه أن يحرص على أن يظل قويا قادرا على خدمة النوع الإنساني؛ وقس على هذا. غير أن هناك ما لا سبيل إلى ستره وكتمانه أو تمويهه، إذ من الواضح مثلا أن من العبث أن تنظر إلى اليمين وأن تروح تزعم أنك إنما كنت تنظر إلى الشمال، فإن اتجاه العين لا يخفى، ولفتة الوجه لا مغالطة فيها. فإذا كانت النظرة إلى امرأة وأنت مع أخرى فالويل لك ولست مسئولا عنك.
قالت لي مرة إحداهن وأنا معها - وقد رأت عيني تدور: «بص هنا»، وجذبتني من ذراعي، فقلت وأنا مستغرب: «ولماذا لا أبص هناك؟» قالت : «كده!» بهذا الإيجاز الذي لا يفيد شيئا، فقلت: «كده يعني ماذا؟» قالت: «كده!» ولم تزد، فضاق صدري، فقد عجزت أن أفهم سر هذا الأمر المتعب أو حكمته، وقلت: «يا ستي، إن الله قد خلق عيني متحركة غير ثابتة، فكيف ألزمها الثبات؛ ثم هبيني استطعت ذلك فلماذا أتكلفه؟»
فقالت: «عيب».
فصحت: «عيب؟ يا خبر أسود!»
فقالت: «لا يليق أن تنظر إلى الفتيات في الطريق.»
ففهمت، ولكني لم أقتنع وقلت: «إن لي على هذا ردا طويلا، فهل تسمحين بأن تسمعيه؟»
Unknown page