وفي القصة الفرنسية أشخاص مختلفون؛ منهم من ينتمي إلى الطبقة الوسطى ومنهم من ينتمي إلى طبقة تتكلف الأرستقراطية، منهم الغني ومنهم الفقير، ولكنهم جميعا بعيدون عن هذا الابتذال الذي نراه في القصة المصرية حين نسمع هؤلاء الأشخاص من الرجال والنساء يتحدثون لغة الأزقة والحارات في القاهرة.
والقصة الفرنسية تصور لونا من ألوان الحياة في باريس، وهي تمتاز بالجراءة، بل بالإسراف في الجراءة، جراءة على السياسة، جراءة على العرف، جراءة على المألوف من أخلاق الناس. وقد أراد الكاتب أن يصور تهالك الناس على المنفعة وازدراءهم لما تواضعت الجماعات على إكباره من أصول الخلق والشرف والكرامة. فالقصة مرآة تنعكس فيها حياة جماعة من رجال المال والأعمال كما تنعكس فيها حياة جماعة من الطبقة الوسطى قد أفسدت أزمة الحرب مزاجهم، فهم لا يقاومون الشر وإنما يدفعون إليه ويتفوقون فيه.
للقصة بطلان ممتازان من الرجال؛ أحدهما عضو في المجلس البلدي الباريسي والآخر معلم فقير. فأما عضو المجلس البلدي فمجرم يسرق ويحتال ويستغل نفوذه ويقترف آثاما مالية منكرة، ويتستر في هذا كله بأشخاص يشتريهم لذلك ويأجرهم عليه. وأما المعلم فرجل ساذج شريف نقي النفس في ظاهر الأمر، يصور حياة أمثاله من الفرنسيين أحسن تصوير، ولكنه يتصل بعضو المجلس البلدي في ظرف شديد ويقبل أن يعمل معه، ثم يتبين له الحق فيثور، ثم يذعن كارها لحكم القضاء، ثم ما يزال يسعى إلى الفساد ويسعى الفساد إليه حتى يغلب أستاذه ويتفوق عليه ويستأثر من دونه بما كان يعينه عليه من عمل، بل يستأثر من دونه بهذه المرأة اللعوب التي كانت تحبه أو تتكلف حبه وتشاركه في الإثم، فأصبحت تحب خصمه لأنه استأثر بالثروة والغنى والبراعة في السرقة والاختلاس.
وفي القصة أشخاص آخرون لهم أطوار غريبة، منها المضحك، ومنها المؤلم، ومنها ما يجمع الأمرين معا، ولكن هؤلاء الأشخاص على ذلك ليسوا من هذه الطبقات الشعبية الصريحة التي تمثلها القصة المصرية تمثيلا واضحا ملهيا حقا.
ليس في القصة الفرنسية سماك ينكر دوران الأرض كما في القصة المصرية، وليس فيها غير السماك من هؤلاء الأشخاص الذين يمثلون عندنا ناحية من نواحي الحياة نحبها ونضحك منها، ولكننا لا نكاد نراها في مثل هذه المواقف التي تصورها القصة. وقد عجزت القصة المصرية عن الصراحة والجراءة، ولم تبلغ من الشجاعة ما بلغت القصة الفرنسية؛ فالسارق المحتال عضو في شركة من الشركات لا في مجلس بلدي. وهذا معقول؛ فليس في فرنسا قانون يقيد الحرية الأدبية كالقوانين المصرية، وإن كان في مصر من الأحداث والفضائح ما يذكر بما أراد الكاتب الفرنسي تصويره. والغريب أن الكاتب المصري ذكر ستافسكي في قصته مع أن توباز ظهرت في فرنسا وتجاوزتها قبل أن تظهر الفضيحة الفرنسية الكبرى.
وليس في قصتنا المصرية إشارة إلى الكورنيش ولا إلى ما يشبهها من الحوادث لمكان هذه المراقبة الأدبية الدقيقة. ولست أستطيع أن أمضي في تحليل القصة المصرية لأني لم أشهدها كلها، وإنما انصرفت حين أذنت لي الأوضاع الاجتماعية بالانصراف. ولولا هذه الأوضاع نفسها لانصرفت قبل أن أشهد الفصل الأول كله؛ لأن من المؤلم حقا أن يشهد الإنسان أثرا فنيا بارعا قد أصابه المسخ والتشويه وأخذه العبث من جميع نواحيه. ومع ذلك فقد ضحكت النظارة وأغرقت في الضحك. ولعلي أغلو وأتجاوز الحق إن زعمت أني لم أضحك، فقد ضحكت وضحكت كثيرا، ولكني أظن أننا إنما ضحكنا من لغة القصة وعباراتها ومن براعة الممثلين وإجادتهم لا من القصة نفسها. وهبنا ضحكنا من القصة نفسها فلم يكن ضحكنا ليغير الألم الذي كنا نجده شيئا حين كنا نشهد مواقف الممثلين ونسمع ما كانوا يقولون ونذكر من مواقف الممثلين في القصة الفرنسية وما يقولون.
في هذا النحو من التمصير شر كثير؛ لأنه كما رأيت مسيء إلى الفن يمسخه ويغير معالمه ويرد جماله قبحا وجودته رداءة، ثم هو في الوقت نفسه عدوان لا أدري إلى أي حد يباح. وقد كان الجاحظ يكره أن تختصر آثاره، يشفق عليها من المسخ والتشويه، فكيف بالكاتب الفرنسي بانيول لو رأى قصته وما ألم بها من الخطوب؟ وإذا كان هذا مبلغ ألمنا نحن ونحن مصريون غرباء لم ننشئ القصة ولا نغار عليها كما يغار عليها الفرنسيون الذين أنشئت فيهم ولهم، فكيف يكون ألم الكاتب الفرنسي لو أنه تمثل هذا الخطب العظيم الذي ألم بأثر من أروع آثاره الأدبية وأبقاها؟
وأنا أعلم أن هذا التغيير الخطر يصيب كثيرا من القصص التمثيلية لا في مصر وحدها بل في كثير غيرها من البلاد، ولكن هذا لا يخفف من شر هذا التغيير ولا يمحو ما فيه من سوء. وليس من الحق أني أستطيع أن آتي الشر لأن كثيرا من الناس يأتونه، وإنما الحق أني خليق أن أنصرف عن الشر حين أرى إقدام الناس عليه وتتبعهم له.
وأنا أعلم أن طائفة من قصص موليير قد نقلت إلينا على نحو من هذا التغيير، ولكن هذا وقع منذ عهد بعيد، على أنه يجد شيئا من الشفاعة في هذا الجمال الساذج الريفي الذي نجده في قصة الشيخ متلوف، والذي يعزينا بعض العزاء عن جمال ترتوف إن صح أن يضاف الجمال إلى ترتوف.
حسن جدا أن يمصر التمثيل، وأن يتخذ العربية - ولا سيما العربية الفصحى - له لغة وأداة، ولكن بشرط أن يكون تمصيره صحيحا صريحا لا فساد فيه ولا عدوان، بشرط أن يكون تمصيرا مثبتا للشخصية المصرية على أنها شخصية قوية تنتج وتبتكر أكثر مما تحاكي وتقلد، بشرط أن يكون تمصيرا جريئا جليا لا يثير حزنا ولا ندما ولا حياء.
Unknown page