وأنا - كالنقاد الفرنسيين - شديد الإعجاب بشخصية هذه المرأة التي تدور القصة حولها، أو قل بقدرة الكاتب على اختراع هذه الشخصية الغريبة التي استطاعت أن تقاوم مهارة الصائغ الفرنسي، فاحتفظت بشيء غير قليل من طبيعتها المجرية، فهي غامضة أحيانا أشد الغموض، وهي واضحة أحيانا أشد الوضوح، وهي ضاحكة مغرقة في الضحك، ولكنها في الوقت نفسه تكفكف عبراتها، وتمسح دموعها مسحا رقيقا.
ولست أدري إلى أي حد وفق الكاتب والصائغ في شخصية الزوج، فأنا أفهم ألا يخلو الرجال ولا سيما العلماء من ضعف وسذاجة، ولكني أرى أن الكاتب قد صور هذا الزوج تصويرا اعتمد فيه على خياله أكثر مما اعتمد فيه على الحقائق الواقعة. •••
نحن في سان كلو؛ ضاحية من ضواحي باريس، في بيت تظهر عليه النعمة والثروة، وفي غرفة يظهر عليها الترف ولين الحياة، كما يظهر عليها الجد والعمل، ونحن نجد في هذه الغرفة رجلا قد جلس إلى مائدة بين الكتب والأوراق، وهو يتحدث ويتحدث لا يكاد يقف ولا يستريح، هذا الرجل هو العالم النباتي «فرانسوا دوجلي»، وهو يتحدث إلى مصوره الذي اتخذه ليصور له أنواع النبات في كتاب يهيئه للنشر، ولا نكاد نسمعه يتحدث حتى نتمثل العالم بما فيه من عيوب وخلال، فهو يتكلم مندفعا في موضوعه لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن الحديث شيء، وهو يتكلم لأن الموضوع يلذ له لا لأنه يريد أن يفيد سامعه، وسامعه متبرم به يريد أن يخلص منه ليدرك القطار الذي سينقله إلى باريس، وهو يحتال في هذا التخلص فلا يوفق له إلا بعد مشقة شديدة، وهو يخلص وقد استيأس من إدراك القطار.
فإذا انصرف هذا المصور، وخرج الأستاذ من غرفته لحظات، أقبلت إلى هذه الغرفة فتاة ظريفة، حسنة الصورة، متجملة ظاهرة الرغبة في أن تعجب الأستاذ وتقع من نفسه، تدخل، فما أسرع ما تهوي إلى علبة الحلوى فتزدرد منها شيئا، وتخفي شيئا آخر في حقيبتها، ثم تقف منتظرة أن يعود الأستاذ، فإذا عاد وتحدث إليها عرفنا أنها كاتبته التي تنسخ له ما يهيئ من فصول كتابه.
وهو يتلقاها مبتسما لها مبتهجا بلقائها، يسألها عما كتبت، فإذا هي قد أتمت عملها على أحسن وجه، فيقدم إليها بعض الحلوى فترفض معتذرة بأنها لا تحب الحلوى، فإذا قدم إليها السجارة اعتذرت بأنها لا تدخن، ثم يتركها لحظة وقد ترك سجارته على المائدة، فما أسرع ما تهوي إليها فتزدرد منها جرات، ثم تردها حيث كانت، ويعود الأستاذ فيستأنف معها الحديث، وإذا هي تظهر له رسما من عملها فيه صورة نبات، فلا يكاد الأستاذ يراه حتى يفتن به، وحتى يعلن إليها رغبته في أن تكون مصورته، وأن تضع له هي صور الكتاب، وهي سعيدة مغتبطة تصفق بيديها، وتكاد تقبل الأستاذ فرحا وابتهاجا، ولا تسل عن سعادتها حين يعلن إليها الأستاذ أنها ستقيم معه منذ غد، فتكتب له وتصور وتنسخ على الآلة الكاتبة.
وهما في هذا الحديث وإذا رجل يقبل، وهو «جان دي فيلييه» صديق الأسرة وخليطها، كان قد سافر يقضي الصيف في الألب، ولكنه استثقل السفر فعاد إلى باريس، وهو سعيد بهذه العودة؛ لأنه سيرى صديقيه، وسيأخذ مكانه بينهما كدأبه في كل يوم، وهو يسأل صاحبه عن امرأته، فيحدثه هذا بأنها ذهبت إلى باريس تصيد الثعلب الأزرق؛ لأنها مفتونة به، ولن تستريح حتى تظفر بهذا الصيد، ولكنها لا تصيده من الغابات ولا من الحقول، وإنما تصيده من المتاجر، فهي لا تلتمس الثعلب، وإنما تلتمس فرو الثعلب، وهي تخرج في طلبه كل يوم إذا أصبحت، ولا تعود إلا إذا أقبل المساء، وهو يدعها وما هي فيه من صيد؛ لأنه مشغول ببحثه عن النبات.
ويمضيان في الحديث حتى يصلا إلى لون من الطعام يحبه هذا الرجل الذي أقبل، وإذا الفتاة الكاتبة المصورة تزعم أنها تحسنه، وتعد بعمله إذا كان الغد، فلا تسل عن ابتهاج الأستاذ بهذه الفتاة النادرة الكاتبة المصورة الطاهية معا، ويتم الاتفاق بينهم على أن تهيئ لهم الفتاة من الغد هذا اللون من ألوان الطعام، ثم تتركهما يتحدثان.
والرجل يقص على صاحبه أنه رأى سيارة الراقص المعروف «ريالتو»، فأعجبته، ولن يستريح حتى يشتريها منه، وقد ذهب ليتحدث إليه في ذلك، فلقي خادمه يحمل زجاجات الشمبانيا، وألوانا من الطعام، ولكن الخادم أنبأه أن سيده غائب، فانطلق وهو يعلم أن سيده مشغول بإحدى السيدات لا يستطيع أن يستقبله، ذلك أن «ريالتو» هذا أستاذ رقص، وهو أجنبي جميل الطلعة، تفتن به تلميذاته عادة.
ثم يمضي «جان» في حديثه فيقول: إنه انصرف من بيت الراقص إلى الغابة، فما هي إلا أن رأى الراقص في سيارته ومعه امرأة لم ير منها إلا ساقها وحذاءها، وقد استقرت في نفسه صورة هذا الحذاء، فهو يصفه ويحقق وصفه حتى يسئم صاحبه، و«جان» هذا موسيقي بارع، فهو يجلس إلى «البيانو» ويأخذ في الإيقاع، وقد انصرف عنه صديقه إلى عمله.
وهما في هذه الحال إذ تقبل الزوجة «سسيل»، وكأنها قد سمعت إيقاع البيانو فعرفت وجود صديقها، فدخلت في رفق، ووقفت إلى جانبه، وأخذت ترافقه مغنية وهو يوقع، فيلتفت، ثم تكون التحيات، ثم الحديث، ثم تقع منه نظرة على ساقها وحذائها وإذا هو صعق، أو كالصعق؛ لأنه عرف الساق، وعرف الحذاء، وهو يعود فيصف الحذاء مرة أخرى لصاحبه، ويذكر الراقص، وتسمع سسيل هذا فتضطرب قليلا، ثم تخفي من أمرها ما تستطيع، وهي تبالغ في الإخفاء، وهو يبالغ في الوصف والإعادة والتكرار حتى يسأم الزوج فينصرف إلى عمله، ويدعهما يتحدثان كدأبهما دائما، فإذا خلا بعضهما إلى بعض كان بينهما حوار ينتهي بأن يتهم «جان» صاحبته بالإثم، وهي تدفع عن نفسها، وتغلو في الدفاع، وهو يتهمها ويسرف في الاتهام، حتى يفسد الأمر بينهما أو يكاد، ونحسن نحن في هذا الحوار أن الصلة بين هذين الصديقين ليست صلة مودة وصداقة، وإنما هي صلة حب يخفيها كل منهما على نفسه، وعلى صاحبه، ثم يدور الحوار، ويشترك فيه الزوج مرة أخرى، فيذكر أمر الكاتبة المصورة، ومهارتها في الطهي، وما تقرر من إعداد هذا اللون إذا كان الغد، وإذا «جان» يعلن أنه سيدعو الراقص «ريالتو» ليتناول معهم العشاء، وليذوق من هذا اللون البديع.
Unknown page