وهذا الجرس يدق، وهذه الخادم تقبل وتعلن أن بعض الدائنين يأبى أن ينصرف، وينذر بالمحضر، وهذا الجرس يدق مرة أخرى، وهذا الناشر قد أقبل لأن الزوج كان قد مر به فلم يجده فترك بطاقته، فأقبل لعل صديقه في حاجة إليه، ولكنه يعلن إلى صديقه قبل كل شيء أنه مستعد لمعونته إلا فيما يمس المال، فهو لا يستطيع أن يقرضه الآن قليلا ولا كثيرا. هنا يظهر الصراع بين المؤلف والناشر قويا عنيفا، ولكنه ممتع مضحك، ذلك أن الزوج يعلن إلى الناشر أنه لا يريد قرضا وإنما يريد جزءا من ثمن قصة أتمها ويوشك أن يقدمها إليه، فلا يصدقه الناشر، ولا يحفل به، بل يعلن إليه أن كتبه أصبحت لا تعنيه، ثم ينهض لينصرف، وإذا الكاتب قد أسرع إلى التليفون فدعا ناشرا آخر وأنبأه بأن لديه كتابا يريد أن ينشره، وأنه يحب أن ينشره عنده، وأن يلتقيا ليمضيا العقد، هنا تثور حفيظة الناشر فيذكر ما أنفق وما دبر وما كاد، ويكره أن تكون نتيجة هذا كله لخصمه، وإذا هو قد أسرع إلى التليفون فينتزعه من الكاتب انتزاعا، ويأخذ في المفاوضة، فيعرض خمسة آلاف، وتطلب جاكلين عشرة، ويأبى الكاتب إلا عشرين ألفا وإلا أن يرفض الناشر قصة ماريشال، فيذعن الناشر، وإذا الحياة قد عادت إلى جاكلين، وإذا الأمل قد ابتسم لها، وإذا الناشر قد استأنف الثقة بالكاتب، وهو يطلب إليه أن يستقيل فيأبى في شدة؛ لأن الوزارة أحسن مكان يصلح للتأليف.
وقد تم الاتفاق بين الرجلين، وانصرف الناشر وخلا الزوجان، فبينهما حديث فيه غبطة ومرارة، وفيه إذعان المرأة وطمعها، وفيه ألم الأديب وغروره، ولكنهما قد وعدا الناشر أن يقدما إليه الأصل بعد خمسة عشر يوما، فلا بد من البدء في تهيئة هذا الأصل، وهذه جاكلين قد جلست إلى المائدة وهيأت الآلة الكاتبة، وهذا زوجها قد أخذ يملي عليها كتابه في بطء، بينما يسدل على ذلك الستار.
الأمر للقدر
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «بول هرفيو»
أما هذه المرة فسأدع ما يكتبه أصحاب التمثيل، وما تشغل به الملاعب في هذه الأيام إلى كاتب مات منذ سنين، وانصرفت الملاعب انصرافا مؤقتا عن قصصه التمثيلي، وإن كانت عقول الناس وأذهانهم لم تنصرف عنه بعد، ولا ينتظر أن تنصرف عنه قبل زمن طويل، وهو بول هرفيو.
ولست أدري لم تركت ما كان بين يدي من القصص التمثيلية الكثيرة التي ظهرت في هذا العام أو في العام الماضي وعدت إلى بول هرفيو أستعرض قصصه، وأتخير من بينها قصة أجعلها موضوع الحديث في هذا الشهر، أو قل إنني أعرف السبب الذي صرفني عن الكتاب الأحياء المنتمين إلى هذا الكاتب، وهو أني أحبه، وأعجب به ولا أعرف حدا لحبي إياه وإعجابي به، أحبه فأقرأ قصصه، ثم أعيد قراءتها المرة بعد المرة، فلا أسأم ولا أمل، بل أجد فيها كلما أعدت قراءتها لونا من اللذة جديدا، وفنا من الإعجاب طريفا، وإذا كان هناك شيء يصح أن أتساءل عنه فهو هذا الحب الذي لا حد له، والذي يزداد قوة كلما أمعنت في قراءة هذا الكاتب، لقد حللت طائفة من قصصه، وكتبت عنه غير مرة، ومع ذلك فأنا راغب في أن أعود إليه، وأن أستأنف الحديث عنه، لا أجد في ذلك مشقة، ولا أخشى أن يجد القارئ في العودة إليه مشقة أيضا، أذلك لأن فلسفة بول هرفيو في قصصه التمثيلية هي أشد أنواع الفلسفة الخلقية اتصالا بمزاجي الشرقي، وملاءمته لحياتي الشرقية؟ فالشرقي - سواء رضي أم كره - قدري مطمئن إلى أن هناك سلطانا قويا قاهرا يصرفه ويسيطر عليه، كما يصرف الأشياء من حوله ويسيطر عليها، هو مقتنع بهذا القدر، مطمئن إليه، مستسلم له، وحياته العملية كلها متأثرة بهذا الاطمئنان والاستسلام، كما أن حياته العقلية والشعورية متأثرة بهما تأثرا شديدا، تختصره هذه الجملة التي يرددها المسلمون عن اقتناع وإيمان واطمئنان، والتي كدت أستعيرها عنوانا لهذه القصة: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»
ثم إن فلسفة بول هرفيو في الأخلاق، وفهمه للحياة يمثلان هذا النوع من القدرية التي يؤمن بها الشرقيون، ويذعنون لها إذعانا كون أمزجتهم تكوينا، فأنت حين تقرأ قصة من قصص بول هرفيو لا تكاد تمضي في القراءة حتى تحس أن الكاتب جاد في أن يزيل عن نفسك طائفة من الغشاوات التي تختلف كثافة ورقة، والتي تخيل إليك أن لك من الأمر شيئا، وأنك تستطيع أن تصرف حياتك وحياة الناس، وأن تؤثر في الأشياء من حولك بهذه الإرادة التي تمتلكها، وما يزال الكاتب يزيل هذه الغشاوات غشاوة غشاوة، وما تزال أنت تمضي معه متخففا من أثقالها شيئا فشيئا، واجدا لذة غريبة في التخلص من هذه الغشاوات، ومواجهة الحياة كما هي، حتى ينتهي بك الكاتب إلى آخر القصة، وإذا أنت مقتنع معه بأن إرادتك ليست شيئا، وأن ما كنت تحسبه لنفسك من قوة وبأس وسلطان لا يزن شيئا أمام هذه القوى العظيمة الخارجية التي تصرفك وتسيطر عليك، وتخضعك لسلطانها، سواء أردت أم لم ترد.
لا يبحث بول هرفيو عن طبيعة هذه القوة، ولا يعنيه أن يحددها ولا أن يصفها، ولا أن يتعمق فيما بعد الطبيعة ليتبين كنهها، وليتبين ما بينها وبين القوى الأخرى من صلة، كل ذلك لا يعنيه، وإنما الذي يعنيه هو أن يلاحظ وجود هذه القوى، وتأثيرها في حياة الناس، وإكراهها الناس على أن يسلكوا طرقا ما كانوا ليسلكوها لو أنهم أحرار، ويصطنعوا أمورا ما كانوا ليصطنعوها لو أن لهم إرادة أو اختيارا، لتكن هذه القوة دينية، أو لتكن هذه القوة طبيعية، أو لتكن هذه القوة اجتماعية، أو لتكن هذه القوة مزاجا مؤتلفا من هذه الألوان كلها، فطبيعتها لن تغير من الحقيقة الواقعة شيئا.
والحقيقة الواقعة هي أن هذه القوة تأخذ علينا الطرق، وتطيف بنا من كل ناحية، وتضطرنا إلى ما نأتي من الأمر في حياتنا الفردية والاجتماعية فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين الناس من صلة.
وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أن نخفف من هذا الغرور الذي يملؤها، ويخيل إلينا أنا شيء مذكور، وأن نرى أنفسنا كما نحن ضعافا مسيرين لا حظ لنا من قوة، ولا قدرة لنا على المقاومة، ثم إذا كان هذا حقا كنا خليقين أن نلائم بينه وبين حكمنا على الأشياء، وحكمنا على الناس، فنقصد في المدح والذم، ونعتدل في اللوم والإطراء، ولا نسرف في تقدير التبعات، ولا نسرف بعد ذلك في تقديرنا ما يلائم هذه التبعات من مقاومة باللوم حينا وبالعقوبة حينا آخر، وإذا كان هذا حقا فخليق بنا أيضا أن نستقبل الحياة راضين مطمئنين، لا ساخطين ولا ثائرين، وما قيمة السخط الذي لا يجدي؟ وما قيمة الثورة التي لا تغني؟ وفيم نضطرب وفيم نثور ونحن مضطرون آخر الأمر إلى أن نذعن ونستسلم ، أليس الرضا بما لا بد منه خير من هذه المقاومة العنيفة التي ليست في حقيقة الأمر إلا جهدا ضائعا وضربا من ضروب اللغو.
Unknown page