وهمت «إنصاف» أن تتكلم فأحست في حلقها مثل دق المسامير، فأطبقت فمها وأهوت على يد الفتاة تقبلها وفي عينيها دموع!
العروس!
لم يرقها اليوم أن تجلس إلى المرآة جلستها الطويلة، فدلفت إلى النافذة تنوء بهم ثقيل على صدرها، واتكأت بمرفقها على حافة المقعد، ثم أزاحت السجف وجلست ترقب الطريق، وبلغ أذنيها غناء المغنيات في بيت جارتها كريها نابيا كأنما ينعى إليها الشباب ...!
لقد جاوزت الخامسة والعشرين وما تزال قعيدة الدار، تنتظر الخاطب المجهول يدق الباب ليطلب يدها. أتراها لم تكن أجمل من فلانة وفلانة وفلانة؟ بلى، وإنها لخير منهن، ولكنهن تزوجن جميعا وانتهى بهن القدر إلى المستقبل الذي تحلم به كل فتاة، وهي وحدها ما تزال تنتظر ...!
وأخذ الزمن يتراجع في خاطرها، كما يطوى شريط السينما، فإذا هي ما تزال بنت السادسة عشرة، تزدهيها فتنة الجمال، وتسيطر على نفسها كبرياء الغنى، وتعبث بها أهواء الأنوثة الباكرة، ثم إذا هي بين أترابها في المدرسة كما كانت؛ معقد المنى، ونجوى الخواطر، وملتقى نظرات الغبطة. لم يجتمع لواحدة من رفيقاتها يومئذ ما اجتمع لها مما تفخر به الفتاة، فلم تكن لتشاركهن في الحديث إلا على كبرياء وأنفة، وحين يجري حديث الشبان بينهن في همس موسيقي مطرب، كانت تمط شفتيها في سخرية عابثة، ثقة بأنها الفتاة المرموقة المشتهاة، كأن على من دونها من الفتيات أن ينتظرن ريثما تختار هي فتاها المجدود، ثم تترك لهن من بعد حق الأمل في الزوج الذي يشتهين ...!
وكان لها من نشأتها وجاه أبيها ما يفسح لها في الأمل ويمد لها أسباب المنى العريضة.
كان ذلك قبل أن يموت أبوها! أفينقص من شرفها وجمالها وثرائها أن أباها قد مات؟ ... فأين الخطاب يزدلفون إليها ويزدحمون ببابها في طلب الرضا والقبول؟
إنها لرهينة الدار منذ سنوات خمس، فلا تبصر الطريق إلا من خصاص النافذة، ولا تفارق محبسها إلا في ظل أمها الأيم العجوز، فلم تكن تعرف من الشبان غير ابن عمها.
لقد كان فيما ترى مثال الشاب الذي يداعب خيالها. لم يكن قد أتم دراسته العالية بعد، ولكنه أتم الرجولة؛ وكان على فقر من المال، ولكنه على غنى في النفس وكمال من الأدب والفضيلة. كما كانت تعجب برجولته ونبله! ولكنها لم تكن تسمح لنفسها أن تمنحه أكثر من الإعجاب. آه لو كان على سعة من المال ... إذن لتمنت أن يكون زوجها الذي تقاسمه الحياة ... ولكن من أين له ...؟ من أين له أن يهيئ لها أسباب الرفاهية التي تشتهي؟
لم تكن تدري أنها تحبه إلا يوم جاءها البشير أنه خطب لنفسه فلانة، فأغلقت من دونه الباب وجلست وحدها تبكي ما ساعفتها الدموع. ولم يكن هو يدري ... إلا يوم زارها من بعد، فإذا في عينيها تساؤل وجواب، وعلى شفتيها ابتسامة ذابلة، ثم إذا هي تفر فتضرب الحجاب بينها وبينه؛ خشية أن يرى على وجنتيها علامة التأثر ترسمها الدموع!
Unknown page