Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
بل يجعل التنزيه العقل قادرا على تمثل الصفات كمبادئ عامة مطلقة وشاملة غير مشخصة في إرادة والجميع قادر على إدراكها وتمثلها، وهي المبادئ الإنسانية العامة التي طالما ضحى الأفراد والشعوب في سبيلها. (6-3) سلبيات التنزيه
ولكن من ناحية أخرى، وبالرغم من كل هذه المزايا في التنزيه كتعبير صادق عن الوعي الخالص أو الذات، وبالرغم من كونه رد فعل تاريخيا مشروعا على التأليه والتجسيم والتشبيه، أدى دوره في المحافظة على التوحيد الخالص وفي إعلان سلطان العقل على الانفعال واستقلال قوانين الطبيعة وحرية الإنسان والمجتمع، بالرغم من هذا كله فقد يثير التنزيه عدة تساؤلات تدفع المتكلم الأصولي الجديد إلى مزيد من التأمل والبحث عن كيفية الحرص على الوعي الخالص دون أن يرتد إلى بعض عناصر التشبيه، ومنها: (1)
بالرغم من كل ما حاوله التنزيه من بعد عن التشبيه وتخليص المؤله من كل شبهة إنسانية، إلا أنه ما زال أيضا مشابا بالتماثل من مجرد استعمال اللغة بألفاظها وتصوراتها. وبالرغم من استعمال أسلوب النفي وهو أسلوب التطهير، إلا أنه يستعمل أيضا اللغة حتى ولو كانت تنفي ألفاظها وتصوراتها. فما دامت عواطف التنزيه قد تمت صياغتها في لغة، فإنها لم تعد تنزيها. لذلك فضل الصوفية الصمت أو على أكثر تقدير استعمال الرمز الذي يتجاوز حدود اللغة الإنسانية. فالتنزيه مهما بلغت درجة صوريته وتجريده مرتبط باللغة والتصورات الإنسانية لأنه يستحيل تجريد الإنسان من مواقفه الحياتية وتجاربه الاجتماعية، وضعا وهدفا. ولما كانت الناس مختلفة فيما بينها في المجتمعات والعصور والبيئات الثقافية واللغات، فقد اختلفت بينها في درجات التنزيه. وزيادة في التنزيه يمكن أن يقال إنه لا يمكن التعبير عنه على الإطلاق بالمقولات الإنسانية حتى تلك التي تقوم على أقصى درجة في التجريد مثل الجوهر والعرض أو الممكن والواجب؛ لأن هذه التصورات الثقافية لا تتعدى كونها في الحقيقة تعبيرا عن عواطف التأليه التي هي أيضا تعبير عن عواطف التطهر والتقوى والترفع والعلو. ويكون الخطاب حينئذ نوعا من التمرينات الذهنية التي تعبر عن مضمون الشعور وتحليل العقل لها. فإذا كان في التجسيم قد أضيف المكان كبعد للتأليه يتحدد فيه المؤله ففي التنزيه يضاف الزمان ويطلق. وإذا كان التجسيم تصورا للتأليه في المكان، فإن التنزيه تصور التأليه مثل باقي القسمات كالجوهر والعرض، والواحد والكثير، والنفس يقوم بها الذهن البشري للتعبير بها عن عاطفة الطهارة التي هي أساس التأليه مثل باقي القسمات كالجوهر والعرض، والواحد والكثير، والنفس والبدن، وهي القسمة التي فضلها الحكماء فيما بعد للتعبير بها عن التأليه في الوجود. فكما أن الجوهر أشرف من العرض، والكيف أشرف من الكم، والصورة أشرف من المادة، والنفس أشرف من البدن، فإن القديم أشرف من الحادث. وبإضافة التشخيص للتأليه يكون الله هو القديم وما سواه هو الحادث. إن كل صور التوحيد القديمة ظواهر إنسانية خالصة، نجد نظائرها في العلوم الإنسانية كعلوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد. فقد ظهر التأليه على أنه تعويض مطلق عن العجز والضياع والهزيمة، ونتيجة للرغبة في الحصول على انتصار كامل ودائم تعويضا عن الهزيمة الشاملة. ونشأ التجسيم أيضا لنفس السبب، وهي الرغبة في الحصول على انتصار واسترداد للحق الضائع. فبدل رفع المظلوم إلى العدل المطلق كما هو الحال في التأليه، يأتي العدل المطلق في الظلم ويتجسم الحق ويصبح البعيد قريب المنال. (2)
بالرغم من استطاعة التنزيه القضاء على كل وثنية حسية، إلا أنه انتهى إلى نوع من وثنية مضادة هي الوثنية العقلية. يتحول التأليه إلى موضوع عقلي خالص، وتتوقف حركة الشعور لديه، ويصبح مشجبا سهلا تعلق عليه الأماني الإنسانية مدفوعة إلى حد الإطلاق، ومن هذه الناحية قد لا يكون هناك فرق بين التنزيه والتشبيه، وأن الفرق هو في الدرجة لا في النوع. كلاهما إثبات لمؤله مشخص، ولكن التشخيص في التنزيه عقلي خالص، مجرد صوري، وفي التشبيه حسي مادي، عياني شيئي، كلاهما وثنية. الأول عقلي غير مرئي والثاني حسي مرئي. كلاهما تجسيم، الأول تجسيم ناعم مرهف، والثاني تجسيم فظ غليظ. فاتهام أهل السنة المعتزلة بأنهم مشبهة الصفات عندما جعلوها حادثة لا يدل على التشبيه لأن إثبات حدوث الصفات تنزيه للذات عن كل تشبيه. وقد يكون الاتهام موجها لأهل السنة أصدق لرفضهم التأويل والمجاز. ومع ذلك فقد وقع كلا الفريقين في التشبيه إما الحسي أو المعنوي، والخلاف بينهما فقط في درجة التجريد. التنزيه والتشبيه كلاهما من خلق الذات، وإسقاط من الشعور إلى أعلى، وتأليه صور إنسانية خالصة مهما تفاوتت مستويات التجريد. وفي كلتا الحالتين يؤله الإنسان ذاته دون أن يدري، يؤله الأنا ثم يعزو إليها الآخرية كما حدث من قبل في التأليه والتجسيم عندما أله الآخر ثم نسبت إليه الأنية. (3)
يوحي التنزيه بالخارجية، وبأن قمة عواطف التأليه خارج العالم وليست بداخله، وأنه كلما بعدنا عن العالم وصلنا إلى تنزيه أعظم، وكلما أغرقنا في الصورية والنظر استل منا الواقع والعمل. ومن ثم يوحي التنزيه بأن المؤله المنزه في جانب وأن العالم الإنساني في جانب آخر، وبأنه لا صلة له بهذا العالم على الإطلاق، وهو ما ظهر فيما بعد في إعلان الحرية الإنسانية والإرادة الإنسانية المستقلة وفي حتمية قوانين الطبيعة واطرادها. وكلما تم الإيغال في الصورية ظهر العالم بعيدا عن الذات، ماديا طبيعيا، لا تشخيص فيه ولا ألوهية، ونشأ العلم العقلي التحليلي الطبيعي الصرف. وكأن التنزيه قد دعا إلى حركتين متناقضتين، أقصى درجة في التعالي بالنسبة للذات وأقصى درجة في المادية بالنسبة للعالم. فإذا كان التنزيه قد استطاع إلى حد كبير إنقاذ عواطف التأليه من كل أثر للتشبيه، فإنه ترك العالم المادي ذاته دون أي أساس تصوري أو تبرير أنطولوجي، ولم يبق إلا تحليل العقل للطبيعة، وبالتالي نشأ العلم. (4)
يؤدي التنزيه بالرغم من كل محاولاته من أجل الحصول على الوحدة إلى التصور الثنائي للعالم. فهناك عالمان، عالم الصورة الخالصة الذي يعبر بصدق عن عواطف التأليه، وعالم مادي يمثل خطورة التشبيه والتجسيم. فالتنزيه تبرير أنطولوجي لوجود الصورة على حساب المادة. وتكون علاقة العالمين، عالم الصورة وعالم المادة، علاقة تعارض مستمر. كلما أعطينا الأول شيئا سلبناه عن الثاني. وهو ما ظهر بوضوح أكثر عند الحكماء عندما تحول التنزيه لديهم إلى تصور عام للوجود وقسمته إلى وجودين، الوجود الصوري والوجود المادي. وقد تتعدد هذه القسمة وتتداخل وبالتالي تتحول إلى طبقات متعددة وإلى مستويات عديدة متداخلة. عندئذ يوحي التنزيه بأن الكمال في البعد الرأسي وليس في البعد الأفقي، وبأن السماء أشرف من الأرض، مما قد يؤدي إلى نوع من الرضا الذاتي عن النفس ما دام الشعور قد وصل إلى قبة السماء «فكان قاب قوسين أو أدنى» في عملية التنزيه. ثم يؤدي الرضا إلى الاكتفاء الذاتي بالتنزيه ورغبة في التأمل، مما يؤدي بدوره إلى ضمور في الفعل وقصور في التوجه نحو العالم. (5)
وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية في التنزيه، وهو كيف يتم الخروج من هذا التصور العقلي الخالص إلى الواقع؟ كيف يتم الانتقال من الفكر إلى الوجود؟ ومن ثم يحتاج التنزيه إلى دليل أنطولوجي يجعل المؤله هو الوحيد الذي يجمع بين الفكر والوجود، يحتوي تصوره على وجوده. ولكن حتى هذا الدليل الأنطولوجي افتراض عقلي خالص يعبر عن أماني الذات في الحصول على الوجود من مجرد الحصول على فكرته بلا حركة أو جهد أو مقاومة. ولما كان التنزيه صوريا فارغا، فقد استطاعت السلطة أن تكون مضمونا له، وبالتالي لعبت دوره، ومارست وظائفه في العالم بكل شيء (أجهزة الأمن) والسيطرة على كل شيء (أجهزة القمع)، وأصبح التعالي رمزا للجبروت السياسي بالنسبة للحاكم الذي لا يجوز الاقتراب منه. ولكنه في نفس الوقت قد يتحول في وعي المعارضة إلى أمر بالمعروف ونهي عن المنكر في صيغة «الله أكبر» ضد الحاكم المتعالي ردا له إلى وضعه الإنساني حتى يظل الوعي الخالص متفردا بصفاته المجردة.
كان التنزيه هو اختيار القدماء ضد مخاطر التأليه والاتحاد والحلول والتجسيم والتشبيه، وهي العقائد السائدة في الديانات القديمة. وقد تغيرت الظروف الآن، ولم تعد المخاطر آتية من العقائد، بل محيطة بالأرض والثروات واستقلال الشعوب. فأي التصورات للذات الخالص أقدر على الدفاع عن مصالح الأمة؟ تأليه الأرض؟ تجسيم الشعب؟ تنزيه الحكام من الأغراض والأهواء وكراسي الحكم؟ تمثل المبدأ والتمسك به لدرجة التضحية والشهادة حتى ولو ظهر ذلك بلغة الاتحاد والحلول وأن يقول المواطن أنا الحرية والاستقلال؟ إن البدائل القديمة كلها على مستوى واحد من القيمة ، والاختيار بينها حر دون تكفير أحد منها. ولجيلنا أن يقول هل هو راغب في اختيار تصورات جماعات الاضطهاد أم تصورات جماعات السلطة.
225
سابعا: القيام بالنفس
Unknown page