Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
يعبر التشبيه عن انفعالات نفسية نحو الشيء، ولا يعطي قوانين عقلية لضبط الواقع والتحكم في مساره. يعطي وسيلة لضبط النفس وإعادة تصحيح موقفها، ولكن ليس للسيطرة على قوانين الطبيعة. التشبيه ليس فكرا، بل مجرد التعبير عن عواطف الإجلال والتعظيم بصورة فنية. لا يصدر أحكام واقع بل أحكام قيمة تعبر عن مزاج قائلها ودرجة حدة الانفعالات. يمكن إرجاعها إلى أسسها النفسية التي ترجع بدورها إلى الظروف الاجتماعية التي نشأ فيها الموقف كله. (4)
التشبيه، بالرغم من تميزه عن التجسيم، إلا أنه عود إلى الوثنية القديمة التي طالما حاربها الوحي، وخلق وثنية جديدة أخطر وأعظم؛ لأنها وثنية يدعمها الوحي ذاته بالتفسير الحرفي لنصوصه، وبالتالي بوجودها الشرعي منه. التشبيه تجريد للوحي وتفريغ له من مضمونه الاجتماعي ثم تجسيد له وغلقه على ذاته وخلق جسم من داخله، ونقله من مستوى الفكر والنظام إلى مستوى الشيء والمادة. التشبيه خطأ في اتجاه الوحي ومقصده، تجسيم له من ذاته وتفريغ العالم منه. وقد أدى ذلك إلى السماح بدخول كثير من الأبنية الأسطورية القديمة من البيئات الثقافية المجاورة نظرا لتشابه المواقف النفسية والاجتماعية مما أفقد الفكر الديني أصالته وهويته واستقلاله عن الفكر الديني القديم في الحضارات والبيئات الثقافية المعاصرة له، وأصبح جزءا من تاريخ الأديان. (5)
وللتشبيه كما للتأليه وللتجسيم وللتنزيه استخدام سياسي، عن طريق تصوير الله الحاضر الذي يرى بالعين ويسمع بالأذن ويتكلم باللسان ويبطش باليد ويحرك بالأصبع ويدوس بالأقدام. يتحول الشخص باعتباره قمة عواطف التأليه المشخصة إلى سلطة مركزية تجمع في يديها كل مظاهر السلطة من قوة وسيطرة، تجب لها الطاعة المطلقة وتستحيل معارضة أوامرها. فالتشبيه أساس السلطة، وركيزة التسلط، وقوام القهر والطغيان، تستعمله الدولة لإبراز حضورها في كل مكان. لذلك قام التأليه بدور المعارضة السرية النشطة، تأليه الإمام الغائب الذي سيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. كما قام التجسيم بدور المعارضة السرية الكامنة غير المنظمة في حزب. وكما سيقوم التنزيه بدور المعارضة العلنية من الداخل (المعتزلة) أو من الخارج (الخوارج) باسم المبدأ غير المشخص، وتمثل الذات له، والتوحيد بين المبدأ والذات. فالتأليه والحلول والاتحاد والتجسيم والتشبيه ليست فقط تصورات للألوهية، بل هي أنظمة دفاعية للذات عن نفسها، إما في موقع السلطة كالتشبيه، أو في موقع المعارضة كالتأليه والتجسيم والتنزيه. وأن تصورات الألوهية لتكشف عن أوضاع اجتماعية من خلال أبنية نفسية دون أن تكون وصفا لأي موضوع إلهي. وهي في واقع الأمر أيديولوجيات سياسية في مجتمعات دينية. (6) التنزيه
لم يبق إذن بعد تأليه الأئمة وحلول الصوفية واتحاد النصارى وتجسيم الكرامية وتشبيه أهل السنة إلا التنزيه عند المعتزلة، أي محاولة الحديث عن الذات بأقصى درجة ممكنة من التجريد دون الوقوع في التجسيم أو في التشبيه. (6-1) أدلة التنزيه
ولما كان التشبيه في حقيقة الأمر بناء على نفي الكيفية هو أحد درجات التنزيه، فقد حاول الأشعري صياغة أدلة عقلية لنفي التشبيه وفي مقدمتها دليل نفي الشبه. وهو دليل يلحق بدليل الحدوث، مهمته نفي الشبه بين الحادث والقديم، أي أنه دليل على التنزيه أكثر منه دليلا على وجوه المؤله. ويقوم دليل نفي الشبه على قسمة بديهية، قسمة الأشياء إلى كل وجزء واستحالة التشابه بينهما. وهي في واقع الأمر قسمة لا تثبت شيئا ولا تزيد عن كونها عملا عقليا زائدا يقوم العقل به للتنفيس عن عواطف التأليه والتقليل من حدتها. ويقوم الدليل أيضا على رفض أي تشابه بين هذا العالم وبين الذات المشخصة من عواطف التأليه، لا كلا ولا جزءا، حتى ولو كان التشابه جزئيا. يظل جزء آخر لا تشابه فيه إبقاء على بعض عواطف التأليه خالصة من كل شائبة من هذا العالم. وهو موقف تطهري خالص يقوم على البحث عن الخالص واعتبار المادي الحسي المرئي الملموس عيبا ونقصا ورذيلة. كما أنه لا يقضي على كل أنواع التشابه بين العالم والذات، يكفي نسبتهما وإضافتهما وإدراكهما المزدوج بالهوية أو بالاختلاف أو الحديث عنهما.
202
ويقوم دليل الشبه على القياس المعكوس، أي على نفي القياس كتشابه بين شيئين. والقياس يكمن في الطبيعة نظرا للاطراد. وبما أن الأشياء توجد على نفس المستوى الطبيعي، فإذا تغير المستوى بطل القياس ولا يوجد قياس بين الأقل شرفا والأعظم شرفا، بل القياس هنا من أجل إبطال القياس، أي أنه يستعمل ضد استعماله.
203
هذا بالإضافة إلى أن قياس الشبه أضعف أنواع القياس عند الأصوليين. ويأتي في ثالث مرتبة بعد قياس العلة وقياس الدلالة. كما أن التمثيل في المنطق الصوري أضعف من الاستنباط والاستقراء، وعلى التمثيل يقوم دليل الشبه. وفي نهاية الأمر يتغلب قياس الغائب على الشاهد، وهو أساس الفكر الديني كله على دليل نفي الشبه، ويثبت الشبه بالرغم من دليل نفيه. وأن كل ما قيل عن التأليه هو في الحقيقة عمليات شعورية قائمة على موقف الشعور في العالم، يستعمله التشبيه لرفض التجسيم ويستعمله التنزيه لرفض التشبيه.
204
Unknown page