Min Caqida Ila Thawra Tawhid
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
148
والحقيقة أن لفظ الجوهر لفظ مشتبه؛ لأنه يشير إلى الجوهر الطبيعي أي الجسم المتحيز القابل للأعراض والجوهر الميتافيزيقي أي الجسم اللامتحيز غير القابل للأعراض. فقد لا يعني الجوهر بالضرورة الجوهر الإلهي كما هو الحال عند النصارى، بل قد يعني الجوهر الطبيعي أي الجسم، ويكون نفي الجوهر ليس نفيا للجسم الطبيعي بل نفي للجسم الإلهي أي للجوهر المفارق؛ لأن الله لا يتحيز وليس بجسم ولا تطرأ عليه الأعراض وليس حادثا.
149
ويحاول أهل السنة تفنيد التجسيم بحجج منطقية إجمالية أو تفصيلية مع أن التجسيم موقف نفسي اجتماعي خالص ينشأ منه تصور عقلي. ولا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى هذا الموقف الأول الذي منه نشأ. لذلك جاءت حججا باردة في معظمها تقنع العقل ولكن لا تشفي غليل جماعات الاضطهاد التي تبحث عن الحق الضائع وتريد أن تمسكه باليد وتراه بالعين. مثلا لو كان جسما للزم التحيز والتركيب والحدوث والأضداد والمقدار والأعراض والقسمة والتجزئة والجهة والمكان والزمان والأبعاد، والطول والعرض والعمق، والاجتماع والافتراق، والكيف والكم. ويسهل الرد عليها بأنه جسم لا كالأجسام بلا كيف، أي بمفهوم الأشاعرة نفسه. أو: لو كان جسما للزم الترجيح والاحتياج والاختصاص والافتقار. والرد عليها أنها مفاهيم إنسانية خالصة وليست حجة عقلية. مما يدل على أن «الله جسم» عبارة تعبر عن موقف نفسي اجتماعي وليس لها معنى ذهني. وعبارة قد لا تثبت شيئا مثل جسم لا كالأجسام، بل تنفي ما تثبت، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، تعبر عن توتر الشعور بين التشبيه والتنزيه. ولا مشاحة في الألفاظ لأن أسماء الله توقيفية ولا يليق قياسها بما لا يليق.
150
وتكشف حجج التجسيم عن التشبيه واستحالة تصور الله إلا في مقولات إنسانية خالصة فمثلا: كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا في الآخر كالجوهر والعرض أو مباينا في الجهة كالسماء والأرض أو أن الجسم يقتضي الحيز والجهة لكونه قائما بالنفس والله لا يشارك في ذلك، كلاهما قياس للغائب على الشاهد، وهو قياس إنساني خالص.
151
كما يصعب إثبات التجسيم بحجج عقلية منطقية صرفة إذ يسهل نقدها. فالقول مثلا بأنه لا يوجد في العقول إلا جسم أو عرض فلما بطل أن يكون الباري عرضا كان جسما هو قسمة ناقصة. والقول بأنه لا يصح الفعل إلا من جسم مغلوط لأن الجسم ما له أبعاد ثلاثة ويستحيل أن يطلق على الله.
152
وهناك أدلة تفصيلية أخرى تقوم على الجدل المنطقي أو على الحجج اللغوية والشواهد النقلية لا تنفي التجسيم بقدر ما تكشف عن التشبيه. يحاول أحدها إثبات أن المؤله ليس جسما بناء على تفنيد العكس في قضية شرطية منفصلة وإبطال الاحتمالين الضدين معا. فالجسم كثرة والمؤله واحد، والجسم لفظ متواضع عليه في دلالته على الموصوف. والحقيقة أن كلا الاحتمالين يقومان على عواطف التأليه بالنسبة للجسم وبالنسبة إلى اللغة. فالجسم لا يعني بالضرورة التكثر، وأبعاد الجسم لا تعني بالضرورة التركيب. فالجسم يكون واحدا أيضا بالرغم من أن له أبعادا ثلاثة. ولكن عواطف التأليه فرضت على العالم التكثر من أجل إبقاء الوحدة للمؤله. كما فرضت على اللغة تطابق الاسم مع المسمى والصفة مع الموصوف، لا من أجل نظرة اجتماعية للغة ولكن من أجل تخصيص التسمية بالاسم دون الصفة للمؤله وحده. فهو راء دون أن يكون له عين، وسامع دون أن يكون له أذن.
Unknown page