Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
أما الظواهر الاجتماعية المتعلقة به فهي مثل الإنذار بالغيب والتنبؤ به، وقدرته على إحداث عاهات بالآخرين المعادين له، أو الكاذبين عليه والمتذرعين لرفض مطالبه، وما يتعلق بنبوته وطريقة الاتصال بمصدر الوحي، أو ببعض شعائره مثل رمي الجمار. ولكن تتجلى هذه الظواهر خاصة في حروبه مع الأعداء وحمايته وهو في مرحلة الضعف، أو انتصاره وهو في مرحلة القوة، سواء كان ذلك ساعة مولده أو بعد مولده وبعثته؛ فإنباؤه بالغيب وإنذاراته كثيرة، منها دعاء اليهود إلى تمني الموت، وإخبارهم بعجزهم عن ذلك، وأنهم لن يتمنوه أبدا. وقد يتأتى ذلك بمعرفة الطباع واستقراء لسلوكهم في التاريخ، دون أن يكون في ذلك بالضرورة تنبؤ بالغيب، ومن ذلك إنذاره بمصارع أهل بدر بحضرة الجيش موضعا موضعا، وقد يكون ذلك نتيجة للمعرفة بقوانين الحرب وإدراكا لموازين القوى. أما إخطاره بالنور الواقع في سوط الطفيل فربما لانعكاس الضوء على السيف في وهج الشمس من كثرة النزال، واستعمال ذلك نفسيا من أجل شحذ الهمم وتقوية الروح المعنوية.
أما دعاؤه على الذي قلد مشيته بأن يكون كذلك، فقد يكون ذلك أثرا نفسيا على المقلد من هول ما فعل، وهو تقليد مشية الرسول، وتحويل الأمر الجاد إلى أمر هزل وارتباكه، فتحول الشيء المصطنع إلى مشي طبيعي. أما دعاؤه على بنت الحارث الذي ادعى أن بها بياضا فبرصت في الحال، فقد يكون هذا البياض الأول بدايات البرص الذي لم يتعرف عليه الحارث. أما عدم تكاثر الجمار بالرغم من رميه أجيالا وأجيالا، فقد يكون ذلك من فعل الريح، أو أنه يؤخذ منه نفسه ليرمي من جديد، أو لأنها من صغرها لا يمكن أن تكون جبالا حتى جيل الرواة؛ فتكوين الجبال يحتاج إلى ملايين السنين ومعاصر لعمر الأرض. أما ظهور جبريل مرتين، مرة في صورة دحية بحضرة الناس، ومرة أخرى في صورة رجل لم يره أحد من قبل؛ فطبيعي ألا يرى الإنسان وظيفة المخاطب؛ أي الطرف الآخر، إلا إذا كان هو الطرف الأول المحاور. أما الباقون فلن يروا فيه إلا مجرد إنسان، سواء كان معروفا من قبل أو لم يكن كذلك. أما وقائع قصة هروبه من مكة واختفائه بغار حراء، فهي تدل كلها على الحماية والرعاية والنصر المرتقب؛ فالرمي بالتراب من أجل إعماء العيون يحدث من جراء إثارة الغبار، كما هو الحال في العواصف والضباب التي يصعب معها الرؤية. وعدم رؤية الأعداء له في الغار ممكن إذا كان الموضوع خارج زاوية الرؤية إذا رأى الإنسان أمامه وكان موضوع الرؤية تحت قدميه أو العكس. أما قصة فتح الباب في حجر صلد في جنب الغار، فهي طويلة الصياغة، القصد منها الإيحاء بالتعجيز؛ فالحجر صلد وليس رخوا، والباب المفتوح في جنب الغار وليس في واجهته؛ مما يدل على الصعوبة في نوع الحجر وفي مكان الفتح. أما كون الباب موجودا من قبل فهذا ما يحتاج إلى علماء الآثار، وليس إلى مجرد رواية الراوي. والدليل العقلي المروي بأنه لو كان موجودا يومئذ لما أمكن الاختفاء فيه، يكشف عن الرغبة في الإقناع العقلي متجاوزا البحث الأثري. وإن تعليل العلة بعلة الإقناع والتحديد الكمي معروف من تاريخ الروايات أنه لا يدل على شيء واقعي، بقدر ما يدل على أكبر قدر من الإيحاء بالصدق في الاختلاق. والتأكيد على الزمان بأنه ما زال ظاهرا حتى اليوم يدل على القدرة على الصمود في وجه عوامل التعرية وهزات الأرض. وشهادة الناس من كافة أرجاء الأرض ضرورية؛ حتى تتحول الرؤية الذاتية للفرد إلى رؤية موضوعية للجماعة. وإن عدم قدرة أهل الأرض فتح الباب الثاني لهو إبراز للتحدي، وهو أحد شروط المعجزة. ويعاد الاستشهاد بجموع الحاضرين من قريش الذين كان بإمكانهم رؤية الباب لو كان هناك. ويزداد الأمر إعجابا عندما توجد آثار رأسه وكتفيه ويديه باقية حتى اليوم في الحجر، مع أن الحجر لا ينطبع بآثار اليد أو الرأس أو الكتفين، ولا يتأثر إلا بعوامل التعرية على مدى مئات السنين. وإن الاهتزازات الأرضية لقادرة على إحداث تغيرات في الصخور ما يتخيله الإنسان على أنه أبواب ومغارات تنفتح وتنغلق، وما يراه الهارب أنه تم لإخفائه عن أعين الأعداء؛ ولكي تكتمل الصورة ترسخ قوائم فرس سراقة في الرمال. وقد يحدث ذلك من شدة الركض حتى الوصول إلى منطقة كثبان رملية، فتغوص فيها القدمان كما تغوص المركبات وتدور العجلات حول نفسها في المكان. هذا في مرحلة الترقب والخوف وقبل انتصار البعثة. أما بعد الإعلان عنها وقوة الشوكة والتمكن من أسباب الغلبة، فتظهر وقائع المقاومة والنزال والوقوف في وجه الأعداء. وقد ترتبط في البداية ببعض الظواهر الأخرى مثل الطعام؛ فكما أمكن تكثير الطعام فكذلك أمكن قضاء غرماء جابر من تمر يسير حشي بجانبه، وتزويد عمر أربعمائة راكب بتمر يسير، وبقي التمر بالجنب، في مكان معين خاف عن الأعين وليس في الأمام. وعلى نمط رمي التراب في وجه الأعداء في حالة الدعوة السرية، يمكن أيضا بعد الدعوة العلنية رميه في وجوه الكفار يوم الحرب، فيصيب عين كل واحد فينهزموا. وليزداد ذلك تأكيدا تأتي الحجة النقلية:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . وقد يغالي بعض المعاصرين في اعتبار ذلك نوعا من الغازات أو الإشعاعات أو الغبار النووي الذي لا يفرق بين الأعداء والأصدقاء، إحساسا بعجزهم عن مجارات العلم، وتحويلهم العلم إلى نوع من المعجزات الجديدة. قد تحدث معجزات أخرى في الحروب، بعضها معلوم وبعضها مجهول، مثل دفاع أربد عنه. وقد تحمى المدن قبل البعثة وأثناء ولادته إكراما له، مثل رمي الله جيش أبرهة صاحب الفيل بالحجار عام غزوه مكة، وتلاوة ذلك في القرآن حتى الآن بركة ودعوة؛ فللبيت رب يحميه. فكما أن شخص الرسول محاط بالرعاية فكذلك مكان مولده، ومركز شعائره، وقدسية مدينته. ولا يمنع ذلك من وجود طير جارح في الصحراء بجموع غفيرة، كما هو الحال في موسم الهجرات، تبحث عن طعامهم في صحراء قاحلة. فلما وجدت الجيش وبقايا طعامه وروائحه، حطت عليه كما يحط الجراد على الزرع فلا يبقى منه شيء.
18
لذلك كانت المعجزات بهذا المعنى القديم طريقا مسدودا، ولم تعد دليلا على وقوع النبوة أو صدقها، وأصبح الدليل نوعا جديدا من التحدي، هو التحدي البشري، عقلا وإرادة، متفقا مع اكتمال الوحي وتحقيق قصده.
سابعا: إعجاز القرآن
إعجاز القرآن هو البديل الجديد في آخر مرحلة من مراحل الوحي عن المعجزات القديمة أثناء تطور الوحي وقبل اكتماله. كانت المعجزة بالمعنى القديم خرقا لقوانين الطبيعة، وجريانا على غير المألوف، وصدما لبداهات العقل، ونقضا لشهادات الحس، لا تسلم من خداع أو وهم، وإن كانت حقيقة فتدل على جهل بقوانين العلم. ومن الناحية العملية لم يؤمن بها إلا البسطاء، وكذب بها الأولون. أما الإعجاز الجديد فهو ظاهرة طبيعية، كلام حسي منظوم يعرفه كل متكلم، سواء كان أميا أم متعلما يتجه إلى العقل والحس والوجدان للتأثير فيها إقناعا ورؤية وتصديقا. وإذا كانت المعجزة من فعل الله في الطبيعة من خلال الرسول، وليس من فعل الرسول مباشرة متوجهة إلى عامة الناس؛ فالإعجاز كلام طبيعي حسي موجه إلى الإنسان مباشرة كفرد مستثيرا قدراته على التحدي؛ وبالتالي ينفصل الكلام عن مصدره الأول وعن واسطته الثانية. وإذا كان شرط التحدي هو تكافؤ الفرص، فكون المعجزة من الله لا يجعل فيها تحديا ولا تكافؤ فرص، في حين أن الإعجاز به تحد وبه تكافؤ فرص؛ فالكلام في متناول الجميع، يقدر عليه الكل. وكيف يجاري الإنسان الله في المعجزة؟ لو كانت من الرسول لكان التحدي قائما. وإذا كانت المعجزة القديمة منقطعة بانتهاء عصرها فإن الإعجاز باق إلى نهاية الزمان، طالما أن هناك إنسانا قابلا للتحدي وقادرا على الدخول فيه. وإذا كان من ضرورات المعجزة القديمة صحة تواترها في الماضي، فإن الإعجاز الجديد يقتضي تحديا مباشرا في الحاضر والمستقبل. الإعجاز إذن تطوير للمعجزة القديمة، التي كانت وسيلة الوحي لتغيير بناء الشعور البشري، وتحريره من سيطرة المادة الطبيعية المستغلقة، أو من سيطرة السلطان البشري القاهر. ولما لم تنجح هذه الوسيلة في كثير من الأحيان، فهي استبدال خرافة بخرافة، كان الشعور يرجع باستمرار إلى طبيعته الأولى بعد أن تغير وكأنه لم يتغير مطلقا؛ لذلك انتهى دور المعجزة بعد استقلال الوعي البشري واكتمال الوحي، وتحولت المعجزة الطبيعية القديمة إلى إعجاز الكلام الجديد وتحدي القدرة البشرية على الخلق الأدبي والتشريعي؛ ومن ثم يكون الإعجاز حافزا مستمرا للشعور على الخلق، ودافعا مستمرا للفكر على التحدي.
1 (1) التحدي والمعارضة
يقوم الإعجاز الجديد على عنصري التحدي والعجز عن المعارضة؛ فالتحدي هو مطالبة الإنسان أن يأتي بمثل هذا القرآن؛ أي استثارة القدرة البشرية على الخلق والإبداع، وعلى هذا النحو يحقق الإعجاز الجديد أحد شروط المعجزة القديمة وهو التحدي، دون الوقوع في مثالبها وهو خرق قوانين الطبيعة، وهدم قوانين العقل، ومحدوديتها في القدرة على الإقناع. ولما كان التحدي يقتضي تكافؤ الفرص فإن اعتبار القرآن من عند الله يجعل الفرص غير متكافئة؛ فكيف يتحدى الإنسان الله ويجاريه في صنعه؟ ولو كان القرآن من عند الرسول لكان التحدي أقرب إلى تكافؤ الفرص، بالرغم أيضا من تأييد الرسول بالاتصال، في حين أن الشاعر المتحدى ليس مؤيدا إلا بقدراته الإبداعية الخاصة. وليس تنزيها لله أن يقف الإنسان متحديا له في صنعه، وليس احتراما للرسول أن يقف الشاعر متحديا له فيما يبلغ به ويعلنه للناس من عند الله. وكيف يكون التحدي ممكنا لو كانت نتائجه معروفة من قبل وإعلان النتيجة مسبقا بفشل الإنسان والحكم عليه بذلك إلى نهاية الزمان بحرف النفي للتأبيد «لن»؟
2
Unknown page