Min Caqida Ila Thawra Nubuwwa
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
النبوة واجبة على أسس ثلاث؛ فهي واجبة أولا نظرا للواجبات العقلية، مثل الصلاح واللطف والعوض والاستحقاق وطبقا للحسن والقبح العقليين، ووجوبها ضروري بناء على الضرورات العقلية، وهي واجبة ثانيا لأنها أصلح للعباد وبناء على نظرية الصلاح والأصلح؛ فالإنسان في حاجة إلى الدخول في معاملات، وإلى علم ما يحصل به الانقياد والعون، والحاجة إلى قوانين وسنن وشرائع، وهي واجبة ثالثا نظرا لأنها لطف من الله طبقا لنظرية اللطف والألطاف؛ فلما كان العقل لا يستقل بالتعريفات التشريعية كان لطفا من الله وكرما منه أن يتم نعمته على الإنسان وهو أشرف المخلوقات؛ ومن ثم النبوة تعبير عن كرم المبدأ الأول؛ الله، ولطف الله بالعباد، النبوة إذن واجبة بناء على الواجبات العقلية ونظريتي الصلاح واللطف.
2
وتكون الصعوبة حينئذ في كيفية الجمع بين الحسن والقبح العقليين، وقدرة العقل على إدراكهما كصفات موضوعية في الأفعال، وفي نفس الوقت احتياجه إلى النبوة كعون له على التكاليف؛ فما دامت التكاليف واجبة عقلا فإنها لا تحتاج إلى وجوب ثان بالنبوة، بل إن الصلاح والأصلح واللطف والألطاف والعوض عن الآلام والاستحقاق كل ذلك من الواجبات العقلية؛ وبالتالي ليست أساسا لوجوب النبوة.
وإذا كان التكليف عقليا، واستحقاق الثواب والعقاب عقليا، والتنبيه والتحذير تأكيدا لما في العقول، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأصول العقلية الخمسة، فكيف تجب النبوة بناء على هذا الوجوب العقلي المكتفي بذاته وإلا كان الوجوب وجوبين؛ وجوب عقلي ضروري ووجوب شرعي إضافي زائد لا حكم له؟ وإذا كانت الحياة امتحانا واختبارا وجهدا ومعاناة، فإن ذلك إنما هو نتاج لممارسة الحرية، وهي من العقليات وليست من السمعيات كالنبوة. ليست النبوة إذن من الواجبات العقلية إلا بناء على الصلاح واللطف باعتبارهما واجبين عقليين، فإذا ما حكم العقل أن النبوة بها صلاح العباد ولطف من الله بهم، تكون واجبة على هذا الأساس كحكم عقلي بالصلاح واللطف، وليس كحاجة وعون ومدد نتيجة لقصور العقل وحاجته إلى وصاية أو هداية. وما العمل لو حكم العقل باستغنائه عما سواه، وبقدرته على معرفة الصلاح والأصلح دونما حاجة إلى نبوة؟
3
والعجيب أن تعتمد إحدى الحركات الإصلاحية الكبرى، الأشعرية في التوحيد الاعتزالية في العدل، على تبرير واجب النبوة بهدم العقل والعلم والاجتماع والسياسة؛ أي هدم أسس الدين ذاته، وكأن إثبات وجوب النبوة لا يتم إلا على حساب الأسس الحسية والعقلية والاجتماعية التي تقوم عليها العقيدة ذاتها؛ وبالتالي لم يبق حتى نصف الاعتزال في العدل، وأصبح نصف الأشعرية في التوحيد هو السائد في موضوع النبوة؛
4
مما يدل على أن أنصاف الحلول في الحركة الإصلاحية انتهت إلى الأشعرية السائدة منذ ألف عام، وقد تم ذلك من قبل في حركة إصلاحية سابقة فيما وراء النهر، عندما تحولت الماتريدية بعد عدة أجيال إلى الأشعرية التقليدية، فهل تجب النبوة لأنها تعطي مجموعة من المعارف النظرية التي لا يستطيع العقل الوصول إليها؟ هل تعطي معرفة الصانع وصفاته والعقل قادر على الوصول إليها بإجماع نظار الأمة متكلمين وحكماء؟ هل حاجة البشر إلى الرسالة هي حاجتهم إلى معرفة الغيبيات وفي مقدمتها حياة النفس بعد مفارقتها البدن وقد أجمع الحكماء على إثباتها بالعقل؟ ولم تمنع النبوة في كل دين ولدى كل ملة من منع فريق من إنكار خلود النفس ووجود حياة أخرى بعد الموت. إن التوحيد كله يمكن إدراكه بالعقل بما في ذلك الصفات السمعية، وإلا لما كون العدل باب العقليات في علم أصول الدين في مقابل السمعيات ومنها النبوة، وكيف تكون النبوة طريق العلم بالتوحيد والسمعيات لا تؤدي إلى العقليات؛ فالسمعيات ظن والعقليات يقين على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؟ والصفات كلها مثل الإنسان، الإنسان الكامل وليس الإنسان المتعين، الإنسان كما ينبغي أن يكون وليس الإنسان كما هو كائن. وفيم الحسن والقبح العقليان؟ أليست هناك معارف عقلية؛ حسن عقلي وقبح عقلي؟ فالتوحيد حسن عقلي، والشرك قبح عقلي، وإذا خاف الإنسان الخطأ النظري وقع في التردد والشك وفي الظن والجهل؛ أي في كل مضادات العلم، فإن العقل قادر على بث الطمأنينة فيه وتحويل التردد والشك إلى قطع، والظن إلى يقين، والعلم إلى جهل، وإذا كانت الحاجة إلى النبوة هي أنها تشير على العقل بطرق الاستدلال، أليس العقل قادرا على ذلك وهو واضع منطق البرهان؟ وهل النبوة منطق صوري أم منهاج عملي للناس؟ وهل تعطي النبوة هذا المنطق الاستدلالي عن طريق النص أم أنها في حاجة إلى العقل لاستخراج هذا المنطق؛ وبالتالي يكون من عمل العقل في النبوة وليس من عمل النبوة وحدها؟
5
فإذا ما اكتفت النبوة في منطق الاستدلال بالنص وحده، فإنه يظل ظنيا لاعتماده على النص ولا يتحول إلى يقين إلا بالعقل، على ما هو معروف في باب الأدلة في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى.
Unknown page