Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
8
ومع ذلك فالشروح والحواشي على المتون أكثر بكثير من التلخيصات، فالشرح أو الحاشية مجرد جمع مادة، وإضافة تاريخ في حين أن التلخيص تركيز على الجوهر، وإخراج للب من الشروح والحواشي؛ فهو يمثل جهدا أكبر، ويدل على فكر ما زال قادرا على استخلاص اللباب؛ لذلك كان التلخيص أقل بكثير من الشروح والحواشي من حيث الكم، هذا بالإضافة إلى أن الحضارات في لحظات الشكوك أو الخطر تجمع وتستوعب أكثر مما تلفظ وتستبعد، فمهمة المفكر الحفاظ على كل شيء ولو لفظا أو عبارة في حين أن الملخص يحتفظ بالجوهر، ويحمل معه «ما خف حمله وغلا ثمنه»، وكلاهما طريقان لدرء الأخطار والمحافظة على التراث في لحظة التدوين.
والمصنفات الكلامية ليست فقط مراجع للدراسة، بل هي ذاتها موضوع للدراسة؛ لأنها تكون التراث، وهو موضوع الدراسة الأول. ليس الأمر فقط مجرد أخذ مادة منها لموضوع معين، بل تحليل هذه المادة ذاتها إلى موضوعات، كل عبارة فيها لها دلالة حتى العنوان والمقدمات والتسليمات والصلوات والتحميدات والبسملات والنهايات والدعوات والإشارات إلى «مصر المحروسة» أو إلى «مصر المحمية»، فهي تعبر عن عقلية القدماء ومستواهم الثقافي. المؤلفات الكلامية ما هي إلا مادة تكشف عن البناء الشعوري الذي صدرت هذه المادة عنه، وهو المطلوب الكشف عنه، وإعادة بنائه. المادة ليست هي الظاهرة، بل الظاهرة تكمن فيما وراء المادة أو فيما تحت المادة أو فيما هو أدخل في المادة، وهو البناء الشعوري الذي خرجت هذه المادة منه، ويحتاج إدراكه إلى الذهاب إلى ما وراء الألفاظ، والإحساس بالمضمون الحق وراء الفصول والأبواب؛ وذلك باشتراك الباحث في نفس التجارب، ولو أنها من نوع مخالف، تعبر عن موقف حضاري متقدم؛ ومن ثم لزم على الباحث أن يكون مجددا، خالقا، واضعا للعلم، وليس مجرد ناقل أو عارض أو شارح له. إذا اتحدت التجارب بين القديم والجديد، تم إدراك البناء القديم بالحدس والتجربة المباشرة، وكأن الباحث يتحدث عن نفسه، ويحلل شعوره الخاص، وهو لم يكتمل بعد، في إحدى لحظاته التاريخية الماضية.
ولا يهمنا في طريقة الإشارة إلى المصنفات إرجاع كل فكرة إلى مصدرها، بل أخذ الفكرة ذاتها من المرجع ثم إكمالها من مرجع آخر، وأخذ الزيادة من مصنف وإكمال ما بها من نقص من مصنف آخر، ثم وضع المصنفات كلها معا، كل منها يشير إلى جانب من الفكرة، الأفكار موضوعات مستقلة عن قائليها، وعن مصنفاتها، ولكننا راعينا الترتيب الزمني قدر الإمكان لرؤية تكوين الفكرة نشأة وتطورا، وإلا فالترتيب الموضوعي المستقل عن الترتيب الزماني والذي يتحول التاريخ فيه إلى مضمون لملء صورة.
9
موضوع التحليل هو الموضوع كفكرة وليست أفكار المؤلفين، والفكرة مستقلة عن مؤلفها، بل ولا يهمنا من هو صاحبها أو أول القائلين بها بقدر ما تهمنا الفكرة. لا يهمنا إن كان قائلها هو هذا أو ذاك، بل تهمنا الفكرة ذاتها، المهم هو القضاء على «تشخيص الأفكار» الذي نشأ من تخلفنا مثل تشخيص النبوة في الأنبياء، والذي نشأ أيضا بفعل الاستشراق الغربي، عندما ارتبط المذهب في الغرب بشخص المعلن عنه بعد القضاء على استقلال الفكر والموضوعات في العصور الحديثة.
10
وقد اتبع تراثنا القديم هذا الأسلوب، فلم يهتم لمن تكون «أثولوجيا» أرسططاليس، لأرسطو أم لأفلوطين، هذه المشكلة التي من أجلها حكم على التراث القديم بالخلط والتشويش، ولا يهمنا لمن تكون الأفكار لأفلاطون أم لأرسطو؛ فالأشخاص إن هي إلا حوامل للفكر وليست خالقة للفكر، ولا يهمنا حتى إن كانت الأفكار منتحلة أم تاريخية، فالفكر له بناؤه المستقل عن التاريخ، وإن كان يظهر في التاريخ كحركة ومسار وقانون؛ ومن ثم، فإن أي نقد لهذا المصنف يستعمل المنهج التاريخي لن يهدف إلى قلبه، بل ولن يلمس حتى أطرافه، وإن أي نقد حتى ولو صدق تاريخيا، فإنه لن يزيد التحليل إلا عمقا أو إضافة لمادة جديدة تثبت صدق التحليل.
ولا يهمنا تضارب المقالات، ونسبة فكرتين متعارضتين إلى شخص واحد أو ذكر فكرة واحدة لشخصين مختلفين، سواء حدث في مؤلف واحد أو في مؤلفين أو أكثر. ليس الغرض هو التحقق التاريخي من صحة إحدى الروايتين، بل المهم هو تحليل المقالتين فكريا، وبيان نشأتهما في الشعور، وفي الظروف النفسية والاجتماعية التي حددت لحظة النشأة. ليست هناك قضية نسبة مقالة خاطئة لغير صاحبها، بل المهم هو تحليل المقالات ذاتها بصرف النظر عن أصحابها، وقد فعل الحكماء ذلك أيضا عندما حللوا نظرية الفيض، ولم يهتموا بصاحبها أفلوطين أم أرسطو؛ ففي كثير من الأحيان تكون الروايات غير صحيحة، وغير مطابقة للواقع، ولكن ذلك عمل مستقل يقوم به المؤرخ للتحقق من صدق الرواية، ولكن فيما يتعلق بالباحث، فإنه يحلل المادة في الشعور بصرف النظر عن قائلها، الأشخاص يعرضون موضوعات ولا يضعون فكرا، هم مجرد وسائل تظهر الحضارة من خلالها دون أن يكون لهم الفكر خلقا وإبداعا، فسواء كان المعبر عن الفكرة هذا أم ذاك، فإن الفكرة هي موضوع البحث، والحضارة ليست تاريخ أشخاص بل مجموعة أفكار يهمنا تحليلها ومعرفة دلالتها بالنسبة للفكر وأثرها في الواقع، وفي علم الكلام خاصة، يستحيل وضع فرقة معينة في نظرية معينة أو شخص محدد تحت رأي محدد؛ لأنه لا توجد فرقة واحدة متجانسة، كل فرقة تضم عشرات الفرق الصغيرة، ولكل منها رأي مستقل وأحيانا رأي مضاد، كما أن الشخص الواحد قد تكون له عدة آراء مختلفة حسب كل مسألة، قد يكون في التوحيد معتزليا، وفي العدل أشعريا، وفي الإمامة شيعيا، هناك مثلا أهل التوحيد والعدل، وأهل التوحيد والإمامة، ولا توجد فرقة إلا ولها نقيض، ولا توجد فرقة لها نقيض إلا ولهما فرقة ثالثة تحاول التوسط بينهما، وكذلك الحال في الآراء والمذاهب؛ وبالتالي فإن معرفة «من قال ماذا» من أصعب الأمور تاريخيا في علم الكلام، خاصة وأن العلماء لم يكتبوا بأنفسهم، بل روي عنهم من أصدقائهم وأعدائهم على السواء، ويضيع الجهد في تصحيح نسبة المقالات أكثر من ضياعه في تحليل الأفكار.
11
Unknown page