Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
أما الرسول، وهو القطب الثاني مع الله، فإنه يحظى عند القدماء بسبع عقائد، تجب له ثلاث: الصدق والأمانة والتبليغ، وتستحيل عليه ثلاث: الكذب والخيانة والكتمان، وتجوز عليه واحدة وهي الأعراض البشرية، ومن ثم يبلغ مجموع العقائد كلها عند القدماء ثمان وأربعين عقيدة، واحدة وأربعون في الله وسبع في الرسول، وتكون الإلهيات هنا حوالي خمسة أسداس العقائد والسمعيات سدسها الأخير، ولم تظهر مشكلة صفات الذات وصفات الفعل في صفات الرسول من أجل قسمتها ثم قلبها إلى أضدادها من أجل نفي الصفات، فإن قضية إثبات الصفات ونفيها تتعلق فقط بالله وليس بالرسول، ولكن بقيت مشكلة أخرى في صفات الرسول، وهي أنها كلها صفات نظرية من أجل أداء مهمة التبليغ، فأين الصفات العملية التي استطاع الرسول من خلالها أن يحول رسالتها إلى واقع، وفكره إلى نظام، وشريعته إلى مؤسسات، ودينه إلى دولة؟ لذلك زادت العقائد المتأخرة صفة رابعة، هي «الفطانة»، وضدها «البلادة»، وهي أيضا صفة نظرية أكثر منها عملية؛ لأنها تعبر عن قدرة الرسول في التعبير والفهم أكثر منها عن قدراته في القيادة وإصدار القرار، وإذا أخذنا «علم السيرة» في الحساب كأحد مصادر علم أصول الدين من حيث صفات الرسول لوجدنا أنها أيضا غير متناهية نظريا أو عمليا، فأين صفات التضحية، والشجاعة، والأثرة، والكرم، والعفة والتقوى، والرحمة، والتعاطف إلى آخر هذه الصفات غير المتناهية، خاصة وأنه أكمل البشر صفات عند القدماء وبنص القرآن؟
3
وهل هي صفات خاصة للرسول أم صفات عامة يشارك فيها الناس جميعا بما في ذلك الصفات الثلاث أو الأربع الأولى: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة؟ ألا يشارك فيها أيضا الرواة والنقلة وكل من يحمل رسالة يبلغها للناس؟ لقد انتهت العقائد الإيمانية المتأخرة إلى تشخيص الله وإلى تشخيص الرسول مما كان له أبلغ الأثر في ترسيخ التشخيص في حياتنا القومية، فما زلنا نعدد خصال الناس، خصال الرئيس، وخصال الكبار، وخصال المديرين، ونستزيد منها كل يوم حتى نصل إلى درجة التأليه للأشخاص، والتأليه للرسل والأنبياء.
4 (2) استغناء الله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه
وبعد أن تستمر العقائد على هذا النحو شعرا أو نثرا، يسقط منها العد والإحصاء، ولا تبقى إلا مجموعة عقائد للتسليم بها دون أي تحليل عقلي للشيء وضده، وهو ما تبقى من عقل في علم العقائد، ولكن يبقى القطبان الأساسيان، الله والرسول، يلخصان الشهادتين: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»؛ ومن ثم يعود العلم كما بدأ، وينتهي العلم إلى تكرار مقدماته، وتصبح نتائجه من جديد هي المطلوب إثباته، وكأن الجدل لم ينته إلى شيء أو انتهى إلى كل شيء؛ إذ إن مقدمات الجدل هي نتائجه، ويكون الجدل قد أصبح موضوعا للعلم كما كان منهجه، ويقع العلم في دائرة مفرغة من المنهج للموضوع ومن الموضوع إلى المنهج، ويتجلى ذلك في نظرية «الاستغناء والافتقار»، استغناء الله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه، وهي التي تجعل العلم كله يدور حول قطب واحد؛ وهو الله، الذي يصبح محور الكون، وقمته، وركيزته الأولى، وكل ما سواه قاعدته ومحيطه يدور حوله، وهو ما استقر في وجداننا المعاصر وفي تصورنا الهرمي للعالم، فأثبتنا الله وأضعنا العالم، ودافعنا عن الذات الإلهية، وأسقطنا من حسابنا الذات الإنسانية، وحرصنا على القمة دون القاعدة، ووضعنا كل شيء في المركز دون المحيط، وركزنا على القلب دون الأطراف، وهو ما يفسر مأساتنا المعاصرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون، وما ترتكز عليه نظمنا الحالية، الإقطاع والرأسمالية، والتسلط والطغيان، والبيروقراطية والمركزية، والحرفية والصورية، وانصب كل ذلك في وجداننا المعاصر ملتحما بالتراث الفلسفي من علوم الحكمة، نظرية الفيض والإشراق، وبالتراث الصوفي في نظرية الفناء، حتى طرد كلية علم أصول الفقه الذي كان يمكنه إيجاد التعادل في وجداننا القومي بين الله والعالم، بين التأويل والتنزيل، بين المركز والمحيط، وبين القلب والأطراف.
5
والعجيب أن نظرية الاستغناء والافتقار كانت أحد روافد الحركة الإصلاحية الحديثة عن طريق إصلاح العقائد وشحذ الهمم، وإطلاق التوحيد الحبيس من عقاله، وتفجير طاقاته لولا أن ذلك كله كان على حساب العالم والإنسان.
6 (3) سقوط الإلهيات والاستسلام التام للسمعيات
وأخيرا انتهى علم العقائد بأن أصبحت العقائد ذاتها مجرد مسائل يجب التسليم بها والاستسلام النهائي لها حتى يضيع آخر ما بقي من العلم، وهو الجانب النزوعي الإرادي في العقيدة كما ضاع الجانب العقلي من قبل، تختفي المقدمات النظرية كلها حتى أحكام العقل الثلاثة، ويحل محلها الإيمان الكامل، وتدور معظم المسائل حول السمعيات التي فاقت الإلهيات، تلك التي كانت تمثل قدرا من العقليات، وكأن العدل ذاته قد أصبح من أمور المعاد، ليس من شئون الدنيا بل من اختصاص الآخرة، وانتهت اليقينيات الممثلة في الإلهيات ولم يبق إلا الظنيات الممثلة في السمعيات، فتحولت «العقيدة» إلى ظن؛ أي على نقيض مضمونها تهدم ذاتها بذاتها، وتحتوي في باطنها على جرثومة فنائها، ويتضخم موضوع النبوة، ويتشخص في النبي، ويسقط الإيمان والعمل والسياسة كلية، ويغرق العلم في متاهة الإيمان بالغيبيات، يضيع العقل، ويختفي الواقع، ونضيع نحن ونختفي معه.
7
Unknown page