Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
ويستمر البناء على ستة مقاصد على نفس المنوال الذي استقر فيه العلم في النهاية في القرنين السابع والثامن، فتدخل المقدمتان النظريتان كجزء من بناء العلم في المقصدين الأول والثاني، وكلاهما يشملان حوالي ثلثي العلم، والعلم ذاته الثلث الأخير، مما يدل على أن نظريتي العلم والوجود هما كل العلم تقريبا، وهما اللذان سقطا من وجداننا المعاصر، في حين بقي الثلث الأخير بإلهياته وسمعياته، ولا تشمل نظرية العلم إلا واحدا من أربعة وعشرين جزءا من العلم أو واحدا من خمسة عشر جزءا من المقدمات، في حين أن الوجود يشمل نصف العلم وأربعة عشر جزءا من خمسة عشر من المقدمات، مما يدل على أهمية الوجود، وكيف أنه أصبح هو البديل الوحيد لعلم الكلام، وهو ما أضعناه في القرون الستة الأخيرة من القرن الثامن حتى الآن قبل الانهيار التام للبناء في علم الكلام العقائدي، وتتفصل أيضا مباحث الوجود إلى الأمور العامة ، والعرض، والجوهر، كل منها بحث مستقل بذاته، أما الإلهيات فإنها لأول مرة تسمى العقليات، مما يدل على أن تطور العلم بالقرن الثامن كان قد شارف على ابتلاع الإلهيات بجعلها عقليات خالصة، ومن ثم يمكن ضمها إلى المباحث النظرية الأولى، وكان بالإمكان فيما بعد ضم السمعيات أيضا إلى العقليات أو العمليات أو المستقبليات أو السياسيات أو التاريخيات؛ وذلك لأن النبوة هي تاريخ الوحي، والمعاد هو مستقبل الإنسان، والإيمان والعمل هو حاضر الإنسان وفعله في الزمان، والإمامة هي السياسة والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، ولكن لسوء الحظ توقف هذا التطور الأخير، وانهار البناء في علم الكلام العقائدي إلا من ومضة إصلاحية في الحركات الإصلاحية الدينية الأخيرة التي لم تؤت كل ثمارها بعد، وهذا المصنف «من العقيدة إلى الثورة» محاولة لاستئناف هذه الومضة الإصلاحية وتحويلها من أشعرية في التوحيد واعتزالية في العدل إلى اعتزالية في التوحيد والعدل.
11
ولكن يبقى البناء النظري هي المقدمات النظرية، والإلهيات والسمعيات، وهي تعادل ما توصلت إليه علوم الحكمة أيضا من قسمة الحكمة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات؛ فالمنطق هي نظرية العلم، والطبيعيات هي نظرية الوجود التي شملت الأمور العامة ومبحث الأعراض ومبحث الجواهر، والإلهيات هي الإلهيات والسمعيات معا.
12 (3) الإلهيات، والنبوات، والسمعيات
وبعد اكتمال بناء العلم بدأ يهتز البناء؛ إما لضياع التحليل العقلي الذي يقوم عليه البناء أو طبقا لمقتضيات ظروف حتمت عليه التفكك والضعف، وأول مظاهر هذا التهدم هو اختفاء المقدمات النظرية التي بلغت أحيانا ثلاثة أرباع العلم، والتي بلغ فيها الوجود وحده نصف العلم، وإقصار العلم على محاور ثلاثة: الإلهيات، والنبوات، والسمعيات؛ فقد تعدد المحور الثاني وازدوج وأصبح بديلا عن المقدمات النظرية، وفي غياب العلم والوجود تحل الأخرويات، وفي غياب العقل يحضر الخيال، وبضياع الواقع يحل الوهم، فبدل أن كانت السمعيات والنبوات في البداية مترادفتين في القرن الخامس أصبحتا الآن منذ القرن الثاني عشر متمايزتين، وأصبحت النبوات وسطا بين الإلهيات والسمعيات؛ لأن السمعيات تؤخذ من النبوات، كان بالإمكان أيضا أخذ النبوات وتحويلها إلى عقليات، ولا تبقى إلا السمعيات بمعنى الأخرويات.
13
ويستمر العلم في محاولة التكيف في بنائه مع الظروف الجديدة، ويغلب عليها طابع التجميع؛ ففي نفس الوقت الذي يدور فيه العلم حول محوري الإلهيات والسمعيات، تشمل المقدمات تعريف العلم وموضوعه وثمرته وفضله ووجوبه، وهو التساؤل القديم حول أساس العلم وشرعيته من جديد، وهو أيضا تساؤل العصر الحاضر في محاولته أخذ الموقف من العلوم التقليدية القديمة بالإضافة إلى مباحث الإيمان، وما يجب الإيمان به، والإسلام، وما ينافي الإيمان، وأحكام العقل الثلاثة، مما يدل على أن العلم قد أوشك على التحول إلى علم عقائد إيماني يقوم على التسليم، ولا تشمل هذه المقدمات على أكثر من جزء من عشرين جزءا تكون مادة العلم، مما يدل على أن تواري المقدمات والإقلال منها قد أدى إلى ما نحن فيه الآن من ضياع للمقدمات النظرية كلها لأي أمر من الأمور، أما الإلهيات فإنها تبلغ نصف السمعيات، والسمعيات ضعف الإلهيات، مما يدل على توجه وجداننا المعاصر نحو السمعيات أكثر فأكثر، وهو ما يحدث حتى الآن، وتبتلع الإلهيات مسائل العدل، فلا يظهر العدل إلا في موضوع واحد داخل الإلهيات، وهو موضوع ما يجوز على الله، أما السمعيات فإنها تشمل النبوة والمعاد دون الأسماء والأحكام؛ لأن العلم كله أصبح موضوعا للإيمان دون العمل، والحقيقة أن الإلهيات والسمعيات كتعبيرين لا يوجدان بل يوجد الإيمان بالله، والإيمان بالرسل، فموضوعات العلم كلها موضوعات للإيمان، أما الإمامة فتظهر في الخاتمة؛ أي أنها خرجت عن كونها أساسا للعلم أو ملحقا به، وأصبحت مجرد دعوة في وجوب نصب خليفة يقوم بأمر الإسلام والمسلمين، يحمي كيانهم، ويصون ثغورهم، إبان الخلافة العثمانية وهي على وشك الانهيار، تدعيما لها، ودفاعا عنها. وتفوق النبوة المعاد من حيث الكم إلى ثلاثة أضعاف مما يدل على تركيز فكرنا الحاضر على النبوة والمعجزة تشخيصا للوحي وليس «توقيعا» له؛ أي تحويله إلى نظام في الواقع، ولكن الجديد هو زيادة محور ثالث مع الإلهيات والسمعيات عن «التأويل» من أجل بيان اتفاق العقل والنقل في الموضوعات الطبيعية والأخرويات، والجغرافيا والتاريخ، وهي العلوم الجديدة المنقولة عن الغرب أو التي تفتح الذهن عليها في واقعه الخاص، فرضت مسألة العقل والنقل ، دون تسميتها، نفسها على العلم من جديد، حتى إنها بلغت ربع مادة العلم، مما يدل على أن مهمة عالم الكلام الآن هي في أن ينحو نحوا عقليا في تحليله للموضوعات، بل وإعطاء الأولوية لموضوع العقل والنقل على غيره من الموضوعات.
14
وتبدو بعض مظاهر التجديد الأخرى عن طريق زيادة موضوع على النبوة أو بتعبير أدق تطوير النبوة بإضافة الرسالة، حيث يبدو الإسلام نظاما عاما للحياة، ويتحد علم أصول الدين مع الفقه ويمحي الفرق بين النظر والعمل، هذا بالإضافة إلى بناء العلم التقليدي الذي يشمل المقدمات النظرية، العلم والوجود، ثم تقسيم العلم ذاته على محورين، الإلهيات من ناحية والنبوة والرسالة من ناحية أخرى، ويبدأ العلم بتجديد ذاته وموضوعه وغاياته والاحتياج إليه مما يشير إلى أن التساؤل الفقهي القديم قد أثير من جديد إحساسا بأن علم الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، تبدأ نظرية العلم ثم نظرية الوجود التقليديتان، وتشملان معا ربع العلم؛ أي أنهما توارتا قليلا عن علم الكلام المتأخر، وعادتا إلى حجمهما الطبيعي، أما الإلهيات فإنها تمثل ثلاثة أرباع السمعيات مما يدل على عظم حجم الإلهيات في فكرنا المعاصر، ويبتلع التوحيد العدل في نظرية الأفعال، ولكن يظهر موضوع الحسن والقبح من جديد، مثل باقي الحركات الإصلاحية من أجل إحياء بعض التيارات العقلية القديمة، ومن أجل إرساء قواعد العقلانية في حياتنا المعاصرة ضد مظاهر الخرافة والسحر والشعوذة، وتبدو مسائل العدل من حيث الكم نصف الإلهيات دون أن يبرز كموضوع مستقل، ويسقط لفظ السمعيات ويحل محله النبوة دون ذكر للمعاد أو الأسماء أو الأحكام أو الإمامة، مما يدل على إمكانية تطوير علم الكلام بإسقاط مادة وزيادة أخرى، ولكن إسقاط الإيمان والعمل وإسقاط المسألة السياسية لا يتفق مع ظروف العصر التي تتطلب البداية بالعمل الفردي والجماعي، خاصة وأن إضافة الرسالة على النبوة يتطلب تحقيقها بالفعل، ومن الذي سيحققها إن لم يكن العمل الفردي والجماعي؟ وقد ظهر لفظ «الرسالة» كعنوان أكثر من ظهوره كمادة إضافية على علم الكلام مما يستدعي تطويرا بإضافة مادة جديدة حتى يصدق العنوان عليها.
15
Unknown page