Min Caqida Ila Thawra Muqaddimat
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
10
ولا ينفي إفادة القياس الظن توليد النظر للعلم؛ لأنه على قدر المقدمات تكون النتائج؛ التوليد عملية استخراج المعاني بصرف النظر عن درجة يقينها، وقد يتحول الظن إلى يقين بعد النظر في الأدلة من أجل الحصول على البرهان.
11
ولا يعني تفاوت العلم بين الخفاء والجلاء أو الضعف والقوة أو القلة والكثرة أن النظر لا يولد العلم، فالنظر بطبيعته نتيجة لأفعال الشعور أو فعل له. والشعور حالات متغيرة، وتيار حي دائم، يتفاوت النظر فيه بين الخفاء والجلاء. وتكون مهمة الإيضاح هي الانتقال من الخفاء إلى الجلاء، ومهمة أنماط الاعتقاد الانتقال من الظن إلى اليقين حتى يتأسس العلم في الشعور. والوضوح والجلاء في النظر والعلم يكتسبان أثناء عملية التأسيس ولا يحدثان في البداية. فإذا كان اليقين في العلوم الرياضية صوريا بتطابق العقل مع نفسه، وفي العلوم الطبيعية ماديا بتطابق العقل مع الواقع، فإنه في العلوم الإنسانية، في علوم الشعور، تتفاوت المراتب طبقا لحالاته. بالإضافة إلى أن نظرية العلم هي في الحقيقة تحليل لعلم العلم أو تأسيس للعلم السابق على كل علم خاص، تحليل لأفعال الشعور في العلم من حيث هو علم ووصف لحركة الشعور الداخلية.
12
والنظر لا يفسد الشعور؛ لأن الشعور محل النظر، ويعطيه أساسه ومادته وتولده الذي هو خلق العلم وإبداعه. كما أن الشعور لا يفسد النظر، بل يحميه من التشعب والصورية، ويحرص عليه من الوقوع في التجريد والشكلية. ولا ينفي الإجهاد الناشئ من النظر صحته وتوليده للعلم؛ فالإجهاد يتم في الحس والعقل والوجدان والسمع (الخبر). ولكن يتم النظر في حدود الطاقة الإنسانية وعلى قدر الجهد الإنساني. ويمكن التخفيف من حدة الإجهاد بالنظر في أوقات متفاوتة بعد راحة البدن ومع حدوث الاطمئنان في النفس، وبوجود البواعث، وبالإحساس بالغاية، والالتزام بالموقف، والعمل من خلال الجمعيات المتخصصة، والعمل السياسي المنظم، والعمل الجماهيري بدعوة الناس إلى استرداد الحقوق، والعمل اليومي بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، والتجرد والنقاء والعطاء الكلي للهدف القومي؛ كل ذلك يجعل النظر حاضرا دائما نشطا خلاقا مولدا للعلم دون إجهاد أو ملل، بحسن نية، وبلحظات صدق، وبتذوق للجمال، وبمشاعر حب للناس، وبضم للعالم كله.
13
ولا يعني حدوث العلم لفرد دون آخر بالرغم من ممارسة كليهما للنظر نفي التوليد؛ لأن شعور كل فرد متميز عن غيره بدرجة في اليقظة والانتباه والتوتر وسرعة إدراك الدلالة. فاختلاف العقلاء في العلم لا يقضي على توليد النظر للعلم. والاختلاف بين الناظرين لا يقضي على موضوعية العلم؛ إذ يرجع الاختلاف إلى تباين القراءات أو الفهم أو التحصيل أو التعبير أو حتى المصالح والأهواء التي يصعب التجرد منها، أو ظروف العصر أو القدرة على اكتشاف وجه الأدلة أو طرق الاستدلال من المقدمات إلى النتائج، أو إدراك العلوم الضرورية أو درجات الاكتساب للعلوم النظرية. ينشأ الاختلاف بين العلماء نظرا لاختلاف أنظارهم في الأدلة، وتفاوتها لديهم بين الغموض والوضوح، والضعف والقوة، والظن واليقين، والشك وسكون النفس، والقدرة على دفع الشبهات، والتفريق بينها وبين الحجج. ولا يختلف العقلاء على شهادة الحس وأوليات العقل ومعطيات الوجدان. ومقاييس الصدق واحدة عند الجميع.
14
وأخيرا فإن القول بأن إعمال النظر بالرغم عن توافر كل الشروط لا يولد العلم؛ إنكار للنظر وللعلم على السواء، وهدم للعقل وللحقائق معا، ووقوع في اللاأدرية والشك أو في السر كموضوع للإلهام أو في التقليد والتسليم. إذا ما توافرت الدواعي على النظر يتم النظر، وإذا ما حدث القصد إلى النظر وتوافرت الأدلة تولد العلم. وإن لم يتولد العلم يكون العيب في غياب الأدلة. النظر نظر في الدليل. وإدراك لوجه الدلالة والاستدلال بها على المطلوب. لذلك كان في النظر ما يولد وما لا يولد طبقا للنظر في الدليل والعثور على وجه الدلالة.
Unknown page