Min Caqida Ila Thawra Iman
من العقيدة إلى الثورة (٥): الإيمان والعمل - الإمامة
Genres
لذلك قد تباح المحرمات من جماعات الصوفية قدر إباحتها من جماعات الاضطهاد؛ فبقدر ما تعيش جماعة الاضطهاد تحت القهر الاجتماعي تعيش جماعة الصوفية تحت القهر النفسي، كلاهما جماعتا معارضة، عاجزتان عن المقاومة، وكلاهما يتحدان بالحق عن طريق تمثله وتجسده. تبدأ جماعة الصوفية بالزهد، بالرياضة والمجاهدة، حتى تصل إلى حالة الفناء حيث تسقط التكاليف وتباح المحرمات؛ فإذا ما شافه الروحانيون الله ورأوه، وعاشوا في الجنان قبل الأوان، وجامعوا الحور العين، على الأرائك متكئين، يسعى إليهم الولدان المخلدون بأصناف الطعام والشراب، فما وجه التحريم وكل شيء قد تمت إباحته، ولم يعد هناك ستار ولا حجاب بين الحبيب والحبيب؟ وعلاقة الخلة، علاقة الخليل بالخليلة، ليست علاقة قانون وتحريم، بل علاقة اتحاد وإباحة.
19
من هذا التصور للعالم ينبثق نظام، وتخرج من هذه العقيدة شريعة تقوم على إلغاء الفروق ما دام التصور يقوم على الوحدة؟ وحدة الإنسان والله، وحدة الروح والطبيعة، وحدة الحياة والموت، وتمحي الفروق أيضا بين الحلال والحرام، وتنتهي درجات الوجود. وقد تنشأ الإباحة من حب الدنيا والالتذاذ بنعيمها إحساسا بالطبيعة وإشباعا لرغباتها. هكذا نشأ آدم في البداية؛ فميراثه بين أولاده بالسوية، مساواة طبيعية، فلماذا تحريم كل ذلك باسم الشريعة ثم الاتهام بالإباحة بالزندقة؟
20
وعلى عكس إباحة كل شيء يأتي تحريم كل شيء، وكلاهما واحد، تحليل المحرمات أو تحريم المحللات نكاية في القانون، في واضعيه أو القائمين عليه. وقد ينتقل الأمر من الإباحة إلى التحريم أو من التحريم إلى الإباحة في جدل دائري يعبر عن الرغبة في كسر القانون والتحرر منه؛ فالحلال المطلق والحرام المطلق كلاهما بديلان يتناوبان ولا وسط بينهما. البعد عن الدنيا من أجل الإقبال عليها، والإقبال على الدنيا من أجل البعد عنهما، والطرفان يلتقيان. هل التمتع بالدنيا تعويض عن فقدها، ولا حيلة للمقهور إلا الانغماس في اللذات، الخمور والنساء؟ هل الزهد في الدنيا تعويض عن الهزيمة فيها، وترك إرادي لما حرم منه بغية الحصول على أعظم منها في النهاية؟ وإذا ما تكالبت السلطة على الدنيا فإن المعارضة تتركها لهم، وإذا ما قمعت بمثل القهر فيها فإن مجتمع الاضطهاد يقلبها عليهم تعبيرا عن القدرة على الصمود، والتحكم في الإرادة، وترفعا على الخصوم.
21
ويظهر جدل التحليل والتحريم في قوانين الطعام؛ فكل ما تحلله السلطة تحرمه المعارضة، وكل ما تحرمه السلطة تحلله المعارضة. والتمايز في قوانين الطعام إثبات للخصوصية وتمايز عن الجماعة كما هو الحال عند اليهود. ويتداخل المقدس مع الدنيوي، ويتحول الطعام إلى محرم أو مقدس إذا ما ارتبط بشخص الإمام الشهيد إمعانا في الإغلاق وتعذيب الذات والتشدد في محاسبة النفس إذا ما استحال تغيير الواقع، أو استعدادا لمرحلة قادمة. وبينما يحرم البعض الماء بفلاة من الأرض لو وقعت فيه قطرة خمر، يحلل البعض الآخر الخمر نبيذ التمر لأن علة السكر غائبة فيه، الضد يولد الضد، إما تحريم الخمر كله في الجرار، أو تحريم قطرة منه من مياه البحار! يؤدي التطرف إلى عدم السوية في العالم، والانتقال من طرف إلى طرف، والضدان يجتمعان، اليأس من العالم أو احتضانه، الابتعاد عنه رغبة في التطهر منه أو الاغتراف منه والاتحاد به.
22
الحلال والحرام إذن في النهاية موقف اجتماعي صرف، قانون لتثبيت النظام الاجتماعي أو زعزعته، مجرد وظيفة اجتماعية طبقا لغاية الجماعة. (2-4) إيقاف الحدود
بعد إباحة المحرمات تسقط الحدود بالتبعية؛ فالحد عقاب على معصية، والمعاصي نفسها لم يعد لها وجود، وإسقاط الحدود تعني التحرر من قيد السلطة وشرع مجتمع القهر كمقدمة للتحرر السياسي. يسقط حد شارب الخمر حتى ينسى أزمته ويتجاوز هزيمته، ويقاوم عقاب القهر بإسقاط قانونه وعدم تطبيقه بالرغم من الإتيان بالأفعال التي تقع تحت طائلة القانون، خاصة ولو كان القانون نفسه نقطة ضعف في فقه السلطة الذي لم تجتمع عليه المدارس الفقهية وما زال موضوع خلاف. والعجيب أن التشدد السياسي مع السلطة يؤدي إلى لين أخلاقي مع النفس، وكأن الكفر بالعالم يولد طبيعيا إيمانا بالذات.
Unknown page