224

Min Caqida Ila Thawra Cadl

من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل

Genres

بالرغم من غياب الإنسان كمبحث مستقل في علم أصول الدين وحضوره كإنسان مغترب فيه، كإنسان كامل في أصل التوحيد وكإنسان متعين في أصل الوحي، كذات وصفات في التوحيد، وكحرية وعقل في العدل، إلا أنه يظهر أحيانا كموضوع جزئي في كتب المقالات وفي الموضوعات الطبيعية، وكأن الإنسان ظاهرة طبيعية، وكأنه شيء وليس إنسانا.

1

لم يظهر الإنسان صراحة كأحد موضوعات علم أصول الدين بالرغم من أن العلم كله حديث عن الإنسان. لم يظهر حاضرا إلا في كتب المقالات وإن لم يكن هناك قسم فيه عن الإنسان. لم يظهر إلا كموضوع منفصل لا صلة له بالموضوعات الأخرى، ولكن غالبا ما يظهر كأحد موضوعات الطبيعيات وكأنه شيء وكأنه هذا الإنسان المرئي الموجود في العالم مثل باقي الأشياء. فالإنسان حاضر حضورا مباشرا كموجود طبيعي ضائع وسط الأشياء والمقالات الطبيعية وحاضر حضورا غير مباشر كإنسان مغترب في الإلهيات، بل وفي السمعيات، كإنسان كامل في التوحيد، وكإنسان متعين في العدل، كإنسان كامل في الذات والصفات والأفعال، وكإنسان متعين مثالي في العدل كحرية وعقل، كإنسان مقلوب، غير الإنسان، اللاإنسان، الإنسان الآخر، الإنسان المغاير لذاته الذي اقتص جزءا منه، جوهره وماهيته، وشخصها خارجه فظلت نائية عنه لا يستردها إلا بالمناجاة والدعاء والابتهال والصلاة، أو يتوحد بها من جديد بالرياضة والمجاهدة والأحوال والمقامات كما هو الحال في علوم التصوف. فما يقذفه المتكلم خارجا عنه يسترده الصوفي داخلا فيه. (1) الإنسان حاضرا في الطبيعة

ويظهر الإنسان حاضرا في عدة تصورات. الأول التصور الثنائي للإنسان الذي يجعله مركبا من نفس وبدن، وهو التصور الشائع ليس فقط في العلوم النقلية العقلية، بل أيضا في الدين الشعبي. ولكن الإشكال في كيفية التركيب والممازجة بينهما، أي تحديد الصلة بين النفس والبدن. ولما كان إيجاد وحدة غير مركبة أمرا صعبا كانت الصلة بينهما إما ترتكن مرة إلى روح فتكون الأولوية للروح على البدن، أو ترتكن مرة ثانية إلى البدن فتكون الأولوية للبدن على الروح. في الحالة الأولى يكون الإنسان هو الروح، ويكون الروح هو منبع الحياة ومصدر الحواس. وتداخل الروح البدن وتتشابك فيه ويكون البدن طارئا عليها وآفة لها. الروح جسم لطيف بداخل الجسم الكثيف وهو البدن، محبوس فيه والبدن ضاغط عليه. والروح مستطيع بنفسه والعجز طارئ عليه من البدن. العجز من الجسم وليس من الروح. والموت من الجسم في حين أن الروح كله علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام وإرادة، وهي صفات الكائن الحي سواء الله أم الإنسان كروح. الروح هي صاحبة القدرة والقوة والاستطاعة قبل الفعل، وهو جنس واحد، كما أن أفعاله جنس واحد. وهو المأمور والمنهي، أي إنه هو المكلف والمحاسب، المعاقب والمثاب.

2

وينتج عن ذلك أن الإنسان لا يرى وإنما الذي يرى هو الجسد الذي فيه الإنسان، وأن الصحابة لم يروا الرسول وإنما رأوا قالبا كان الرسول فيه، وإن أحدا منا لا يرى أباه أو أمه، أخاه أم أخته، بل يرى قوالب وهياكل. وقد يكون الجماد مثل الإنسان قالبا للروح؛ وبالتالي يصعب التفرقة بين الإنسان والحيوان والجماد ما دامت كلها قوالب وهياكل. ما دامت الرؤية تتم للقالب أو الهيكل وليس للروح فإنه تستحيل رؤية أي شيء حي، إنسانا أم حيوانا، ملكا أم شيطانا. وإذا كانت الروح هي الفاعلة المحاسبة، المثابة والمعاقبة فكيف تقطع يد السارق ويجلد الزاني، وإلا كان المقطوع غير السارق والمجلود غير الزاني، وهو ضد الشرع الذي يوقع الثواب والعقاب على الأشخاص؟ وإذا كانت الروح طاهرة نظيفة، فكيف يخرج عنها أوساخ البدن إخراجا وقيئا وعرقا؟ أم أن أوساخ البدن وإفرازاته طاهرة نظيفة مثل طهارة الروح ونظافتها؟ وإن كان عجز الإنسان لبدنه ما دامت الروح قادرة بنفسها كان العاجز الميت هو الإنسان ، مع أن الإنسان حي قادر، أو كان العاجز الميت هو جسده؛ وبالتالي تبطل قدرة الله على إحياء الموتى لأن الحي لا يموت.

3

والحقيقة أن هذا التصور الثنائي الذي يعطي الأولوية للروح على البدن ينتهي بأن يجعل البدن أقوى من الروح فهو الضاغط عليه الحابس له. صحيح أن الروح منبع لكل مظاهر الحياة، وبالتالي يتم التركيز في هذا التصور على الحياة ومظاهره إلا أنه يصعب تفسير صلة الروح بالبدن. وبالتالي يتحول التصور الثنائي للروح والبدن إلى تصور مثالي للروح، ونظرة تطهرية للبدن باعتباره آفة. كما يصعب فهم صلة التداخل والمداخلة. هل هي مداخلة مادة في مادة لما كانت الروح جسما، أم تداخل لا مادة في مادة لما كانت الروح روحا؟ ولا يهم مصدر هذا التصور، خارجي أم داخلي بعد أن أصبح الخارجي داخليا بفعل الترجمة والتمثل والاحتواء، ولكن المهم هو بنية التصور ذاته ومدى تعبيره عن التصور الحضاري العام. والمهم أيضا هو النقد الذاتي لهذا التصور واكتشاف إمكانية الخروج من هذه الثنائية إلى طرف ثالث هو الإنسان الذي لا هو روح ولا بدن، بل حياة في الجسد، وسط بين الروح المجرد والجسم المرئي. ومع أن هذا التصور طبيعي إلا أنه لم يخل من استعماله كدليل لتصور إلهي، وكأن حياة الإنسان وحياة الله نموذج واحد للحياة.

وقد يرتكن التصور الثنائي للإنسان على البدن لا على الروح، فتكون الأولوية للبدن المرئي لا للروح اللامرئي. وهنا ينقسم هذا التصور الطبيعي المادي إلى تصورين فرعيين؛ إما أن يكون البدن كثيرا جواهر وأعراضا وأخلاطا أو يكون البدن واحدا مرئيا كالجسم أو القوة أو الشخص. الأول يركز على الكثرة والتعدد، بينما يركز الثاني على الوحدة. فالإنسان كثير، وقد تكون هذه الكثرة في الأبعاض؛ أبعاض الإنسان، ويكون البدن هو الجامع لهذه الأبعاض دون أن يفعل كل بعض على حدة.

4

Unknown page