هذه الآثار القوية المختلفة التي تركها روسو في نفس منصور جعلت منه كاتبا، ليس كغيره من الكتاب المعاصرين، نزعته الفلسفية في جوهرها غريبة بعض الشيء لأنها لا تلائم العصر الذي نحن فيه، ولكنها في شكلها وظاهرها مألوفة يحبها الناس؛ لأنها سهلة تدعو في يسر ولين وقوة إلى الخير، وإلى الفضائل التي أحبها الناس وألفوا حبها، تدعو إلى الرحمة والإشفاق والبر والحنان والوفاء، وما إلى ذلك من الفضائل الاجتماعية والفردية. ولا بد هنا من الإشارة إلى ناحية أخرى لا تتم بدونها شخصية منصور، وهي شرقيته، فمنصور مؤمن بالرابطة الشرقية إيمانا قويا قديما، لعله يعتمد على الوراثة والمزاج الفطري أكثر مما يعتمد على الروية والتفكير العقلي. والذين يعرفون صديقنا منصورا يشكون في أن أشد الأوتار التي تتألف منها نفسه حسا واضطرابا وترديدا لأصداء الحياة إنما هو حبه للشرق وفناؤه فيه.
كان شرقيا حين كان طالبا للعلم في باريس، كان يألف الشرقيين أكثر مما يألف الغربيين، كان يألف الشرقيين على اختلافهم، كان يألف أبناء الشرق القريب من العرب والترك، وكان يألف أبناء الشرق الأوسط من الفرس، وكان يحس من نفسه ميلا لا يخلو من حنان إلى أبناء الشرق الأوروبي من الروسيين والبولونيين. ثم عاد إلى مصر، فلما ضاقت به واضطر إلى الرحيل عنها نفى نفسه إلى الشرق، فهاجر إلى قسطنطينية وأقام فيها حتى ردته الحرب إلى وطنه، فعاد شرقيا كما تركه شرقيا. ولم يكد يشترك في الحياة الاجتماعية الظاهرة حتى كان نشاطه قويا عنيفا يكاد يبلغ التعصب في إنشاء الرابطة الشرقية وتأييدها، وهو الآن من أقطابها الظاهرين. وهو في هذا كله يصدر عن العاطفة والوراثة أكثر مما يصدر عن الروية والتفكير. وقد أثرت شرقيته هذه في خطرات نفسه كما أثرت في حياته العملية وصلاته الاجتماعية، فهو في الخطرات شرقي، لولا الحياء وخشية أن يوصف بالرجعية لآثر القديم الشرقي على الجديد الغربي في غير تحفظ ولا احتياط، وأحسب أنه سينتهي على مر الزمن إلى هذا الموقف فيصبح محافظا مسرفا في المحافظة.
وهو في صلاته الاجتماعية قريب من بيئة المحافظين المعتدلين الذين لا يكرهون التجديد، ولكنهم لا يقدمون عليه إلا في استحياء. وهو يعد بين الأزهريين أصدقاء يحبهم ويحبونه، ويميل إليهم ويكلفون به. وقد لاحظ الأستاذ حبيب هذه الخصلة في صديقنا منصور ومصطفى عبد الرازق، فأشار في بحثه الأخير عن المعاصرين من أدباء مصر إلى أنهما يستمتعان برضى البيئات المحافظة.
أما أثر علماء الاجتماع المعاصرين في منصور فلا يكاد يظهر في الخطرات إلا حين يتحدث منصور عن الجماعة، فنراه يفهمها ويصفها على نحو ما كان يفهمها ويصفها دوركيم. ولكني قلت آنفا إن صديقنا لم يتحدث في الخطرات إلى العلماء، وإنما تحدث إلى الكثرة من الناس، فلم يكن من اليسير أن تصور الخطرات حياته العلمية، وهو بخيل إلى الآن بإظهار هذه الحياة العلمية في كتاب ينشره على الناس، وهو يزعم في تواضع فلسفي أنه لا يحب أن يظهر هذا الكتاب حتى يتم نضجه العقلي، كأنه يريد أن يخيل إلى الناس أن عقله لم ينضج بعد، ولكن أصدقاءه وطلابه في الجامعة لا يطمئنون إلى هذا التواضع، ولا يسحرهم هذا الخيال، فهم يتمنون على الأستاذ أن يفرغ لهم قليلا، وأن يبيح لهم شيئا من آثار عقله الذي تم نضجه منذ دهر طويل.
أثارت الخطرات في نفسي هذه المعاني، ولما أقرأ منها إلا نصفها أو ما دون النصف، ولست أدري متى أقف لو انتظرت بكتابة هذا الفصل أن أقرأ الكتاب كله. وإنك ترى معي أني قد أطلت وأسرفت في الإطالة، فلأتم وحدي قراءة هذا الكتاب القيم.
فينا، يونيو سنة 1930 (3) ديكارت
شيخان من أنصار القديم قرآ كتاب «الشعر الجاهلي» الذي أذعته منذ أسابيع، وكانا قد سمعا به قبل أن يظهر، وكانا قد أزمعا الرد عليه بعد ظهوره. فلما ظهر الكتاب قرآه كله أو بعضه، فاعترضهما فيه اسم ديكارت ومنهجه الفلسفي. والله يصرف الكون كما يريد، ويجري الأقدار فيه كما يحب، وقد أراد الله أن يظهر اسم ديكارت وفلسفته منذ ثلاثة قرون، وأن يطبع العصر الحديث كله بطابع ديكارت، وأن يتغلغل تأثير ديكارت كاسم أرستطاليس عنوانا لطور من أطوار الحياة الإنسانية العامة التي تلزم الأجيال مهما تختلف بها الأزمنة والأمكنة. أراد الله هذا كله، وأراد معه شيئا آخر هو أن يظل ديكارت مجهولا عند طائفة من شيوخ الأدب في مصر، لا يعرفون اسمه ولا مذهبه، ولا يدركون كيف يؤكل، وإن دروا كيف تؤكل الكتف، ولا يعرفون كيف يشرب، وإن عرفوا كيف تشرب القهوة والشاي، وكيف يشرب الخروب والعرقسوس. وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، وليس لنا أن نذعن للقضاء ونصبر لجهل شيوخ الأدب العربي اسم ديكارت وفلسفة ديكارت في العصر الذي يحرص الإنسان فيه على أن يعلم كلما استطاع أن يعلم.
ومن غريب الأمر أن شيوخ الأدب القديم يرون ويكتبون كما كان يرى الأدباء القدماء، ويكتبون: أن الأديب «هو من يأخذ من كل شيء بطرف.» كذلك قال شيخ الأدب في دار العلوم، وإنما أريد الأستاذ الشيخ علام، قال ذلك في «السياسة» منذ أسبوعين، ولم يكن في ذلك مجددا، وإنما كان يحكي القدماء ويرددهم. وقد كان المبرد حريصا كل الحرص على أن يأخذ الأديب من كل شيء بطرف، وظهر ذلك في كتاب الكامل ظهورا واضحا، حتى إنك لترى فيه بابا قال المبرد في عنوانه: «باب نذكر فيه من كل شيء شيئا.» وكتب الأدب العربي القديمة كلها قائمة على هذا النحو من تصور الأدب والأديب. والأستاذ الشيخ علام وأصحابه يرون رأي القدماء، ويكتبون أن الأديب يجب أن يلم من كل شيء بطرف، ولكنهم لا يلمون من كل شيء بطرف، بل يجهلون ديكارت وفلسفته، وأثره البعيد في حياة العقل والشعور كما قلنا.
وهم يجهلون ناسا آخرين غير ديكارت، وأشياء أخرى غير فلسفة ديكارت، ولكنهم مع ذلك يرون أنهم أدباء، وأنهم قد ألموا من كل شيء بطرف، ومعذرتهم في هذا قائمة: فديكارت ليس شيئا وفلسفته ليست شيئا، والحق عليهم أن يلموا من كل «شيء» بطرف. فأما ما ليس «شيئا» فلا ينبغي أن يلموا منه بقليل ولا كثير، فإذا أردت أن تعرف لم لا يكون ديكارت شيئا من الأشياء، ففي جواب ذلك قولان؛ أحدهما أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأدباء بطرف منه هو الشيء الرسمي الذي اشتمل عليه برنامج التعليم الرسمي في وزارة المعارف، فعلى الأديب أن يلم بعلوم العربية، وأن يلم بالرياضيات والطبيعيات. وليس في البرنامج الرسمي لوزارة المعارف ذكر ديكارت ولا فلسفة ديكارت، وإذن فهما ليسا في الورقة الصفراء ... وإذن فليس الأديب مكلفا أن يلم منهما بطرف لأنهما ليسا شيئا.
هذا أحد القولين، وهناك قول آخر ، وهو أن الشيء الذي ينبغي أن يلم الأديب منه بطرف هو الشرقي القديم ... أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل هو العربي القديم. مصر الفراعنة ليست شيئا، ومصر اليونان والرومان ليست شيئا، وليس الأديب مكلفا أن يلم منها بطرف، وأقسم ما يعرف الأستاذ الشيخ علام وأصحابه لها طعما ... أستغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل الشيء هو العربي القديم الذي لا يتجاوز بلاد العرب والشام والعراق في العصور العربية الأولى والأندلس في بعض عصورها الإسلامية، فأما مصر الفاطميين والمماليك، فأما أفريقيا الشمالية، فليست شيئا وللأدباء أن يجهلوها، وهم يجهلونها بإذن الله. وإذن فأوروبا ليست شيئا، وإذن فديكارت ليس شيئا وفلسفته ليست شيئا. وجهل أوروبا وديكارت وفلسفته ليس من الأمور التي تعاب على الأديب. ورحم الله شيخا من شيوخنا في الأزهر أراد أن يرفع في يوم من الأيام ظلامة إلى المحافظة، فلم يستطع أن يكتب ما كان يريد، فاستعان بأحد «أبناء المدارس» معتذرا أو مفاخرا بأنه لا يحسن مثل هذا السخف الجديد. فلشيوخ الأدب أن يعتذروا أو أن يفاخروا بأنهم يجهلون ديكارت وفلسفته لأنهما ليسا شيئا، ولأن من السخف أن يضيع الأديب وقته في درسهما، وخير من ذلك وأجدى أن ينكب الأديب على فقرة من فقرات الحريري، أو مقامة من مقامات البديع، أو بيت من شعر امرئ القيس.
Unknown page