تحس منه ذلك، وتحس أيضا أنه يحاول كتمان هذا الخوف، وقد أقبلت الفتاة فرحة، مبتهجة، متأثرة، فهي تقبل أمها وتضم عاشقها وتشكره، ولكن لن يتاح لهؤلاء الناس أن يحتفلوا بهذا الفوز فيما بينهم، فقد أقبل مدير الملهى وأعوانه ورجل غني من زعماء الصناعة، يهنئون الفتاة بهذا الفوز، ويدعونها إلى أن تنفق معهم شطرا من الليل في حانة من هذه الحانات التي يفد إليها الباريسيون إذا خرجوا من الملاعب، فيأكلون ويشربون ويعبثون، ونحن نحس أنهم عرضوا ذلك على الفتاة فقبلته قبل أن تعود إلى أهلها. ولكنها تظهر التردد الآن؛ لأنها لا تريد أن تترك صاحبها. ما أسرع ما يدعو القوم صاحبها إلى الذهاب معهم، فيعتذر ويلحون، وتظهر هي الرغبة فيقبل كارها، وينصرفون على أن يرسلوا إليهما السيارة بعد حين. فإذا خلا العاشقان رأينا هذه الأشياء التي تطير القلوب سرورا وتقطبها حزنا. رأينا هذا الموسيقي يريد أن يلبس زي السمر، فإذا ثيابه وأدواته من الرداءة والبلى بحيث يخجله ذلك ويؤذيه، ولكنه مبتسم يجتهد في أن يكون حسن الزينة، وإذا هو يفتقد أزراره، فإذا وجد منها واحدا أخطأه الآخر، وصاحبته تتزين، وقد أعارها الملعب ثوب الرقص فهي فيه خلابة بارعة. ولكن كثيرا من أدوات الزينة ينقصها، وهي تشكو ذلك مغتاظة، فإذا أحست من صاحبها الألم ابتسمت وتكلفت تهوين الأمر عليه، وصاحبها يعدها بمضاعفة العمل ليكسب لها ما تحتاج إليه. وقد أقبلت السيارة فانظر إلى الأم مبتهجة، مفتونة بجمال ابنتها، وانظر إليها تتبع ابنتها وقد أخذت بفضل ثوبها حتى لا يصيبه غبار السلم، وانظر إلى الخادم الطفلة تسبقهم جميعا وفي يدها الشمعة تضيء السلم، وانظر إلى العاشق محزونا يتكلف الابتهاج، وبائسا يتكلف النعيم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد تغير هذا كله، وسترى قوما تنكرهم لأن النعمة ألمت بهم فأزالت كل ما رأيت في الفصل الماضي من مظاهر البؤس؛ ذلك لأن «ألين» قد اشتهر أمرها وظهر نبوغها، فابتسمت لها الثروة وأصبحت لا تشكو عسرا ولا ضيقا، وظهرت آثار ذلك حولها، فأما أمها فليست شيخة ولا كالشيخة، وإنما هي امرأة وسط فيها قوة وشباب، تلبس على آخر طراز، وتزدان على آخر طراز، وقد تغيرت لهجتها فهي باريسية، وتغير صوتها فهو رخيم، وتغيرت حركاتها فهي رشيقة ممتازة. وأما الموسيقي فقد أصبح شابا قويا بادي الظرف، حسن الزينة، رائع المنظر، وقد اقترن بصاحبته. وكذلك الخادم تغيرت وامتازت . والغريب أنها ليست وحدها في البيت، بل يشاركها غلام عليه العناية بغرف الاستقبال وما إليها. ولسنا في باريس ولا في ذلك البيت الذي يضاء بالشمع ويخشى غباره على فضل الثياب، وإنما نحن في بيت أنيق فخم في مصطاف على ساحل البحر، يجمع أرقى الطبقات وأغناها إذا أقبل الصيف من كل عام. ونحن نرى مدير الملعب وصاحبته وأعوانه وذلك الرجل الغني يترددون على «ألين» فيلعبون ويصفقون، ونحن نرى زوج «ألين» سعيدا مغتبطا ينبئ صديقه بأن الله قد أذن له أن يكون غنيا، وأنه يضع قصة موسيقية ستنال الجائزة من غيرك شك، وأنه سيكون ناقدا موسيقيا لصحيفة كبرى، وأن كل شيء في الحياة يبسم له. ولكن انظر إلى القوم قد أقبلوا، وانظر إلى الموسيقي قد خرج مع صديقه في بعض شأنه، وانظر إلى «ألين» قد خلت إلى الرجل الغني بينما يجلس الآخرون أمام غرفة الاستقبال يرقبون عودة الزوج وكأنهم يلعبون. واسمع إلى هذا الحديث يقع بين «ألين» وبين صاحبها الغني، فإذا هما عاشقان وإذا هي تخون زوجها، وإذا هذه الخيانة مصدر ما ترى من نعيم، ولكن هذا الرجل ضيق الصدر بهذا الزوج الغبي.
ضيق الصدر لأنه يريد أن يستأثر بصاحبته، وهذا الزوج الغبي يحول بينه وبين ذلك. وفي الحق أغبي هذا الزوج حقا أم هو متغاب؟ أليس يتكلف الغفلة ليستمتع بنعيم الحياة؟
ذلك شيء يفترضه الغني وتأباه «ألين»، وهما في الحديث والعبث إذ يسمعان صياح أصحابهما الذين يلعبون: «لقد أقبل فلان! لقد أقبل فلان!»
تنبها، فانفصلا، ودخل الموسيقي وانصرف القوم، وأخذ الزوجان يتحدثان، فإذا الرجل محزون بائس، وإذا امرأته اللعوب تسأله عن مصدر هذا الحزن، فيتردد ثم يجيبها بأنه سمع الناس يذكرونه فيقولون «زوج ألين» ولا يسمونه باسمه، وبأنه رآهم يشيرون إليه ويبتسمون، فهو إذن يشك، وهي تدافعه عن هذا الشك بما أوتيت من حيلة ودل ودعابة. وانظر إليه قد أخذ حقيبة امرأته ونظر فيها فإذا مقدار ضخم من المال فلا يزداد إلا شكا. وانظر إليه يذكر أن امرأته لعبت الميسر أمس وخسرت كثيرا ولم تنبئه بشيء، وإنما سمع بذلك عفوا، فهو لا يزداد إلا شكا. وانظر إليه قد استكشف عند امرأته عقدا من الجوهر لا علم له به، فلا يزداد إلا شكا. ولكنها ماهرة وهو عاشق، فتستطيع أن تخدعه عن أمرها وأن تستميله إليها، وأن تخلبه بما تبذل من لذة، وهو أغبى من غلامه الذي يفهم كل شيء، ويتحدث إلى زميلته الخادم بكل شيء.
فإذا كان الفصل الثالث تحدث الموسيقي إلى صديقه وقد استيقن كل شيء، وأصبح لا يشك في خيانة امرأته.
ذلك أن القوم اعتزموا الخروج للنزهة وتخلف عنهم متكلفا العمل، ثم تبعهم وهم لا يعلمون فلم ير فيهم زوجه، ولم ير فيهم ذلك الرجل الغني، وإذن فقد كذبت عليه امرأته حين زعمت أنها خارجة للنزهة وأنفقت يومها مع صاحبها. ونحن نعلم ذلك لأننا سمعناه في الفصل الثاني. وانظر إلى هذا الموسيقي متألما محزونا ولكنه متجلد صبور، يعلن إلى صديقه أنه سيترك هذه الحياة كلها وسيعود إلى حياته الأولى: حياة البؤس والشرف والكرامة، ولكنه يريد أن يلهو قبل هذه العودة، وإنه للهو أليم.
أقبل القوم جميعا من نزهتهم وفيهم «ألين» وفيهم الرجل الغني، وكلهم يقص ما رآه ويصف جمال النزهة، والموسيقي مبتهج يتحدث إليهم جميعا حديث من لا يشك في شيء، وأنت ترى من القوم جميعا أنهم يسخرون منه، ويرون فيه الغفلة، وقد هموا بالانصراف ليلتقوا بعد حين إلى مائدة العشاء في الحانة. وإذا الموسيقي يمسك الرجل الغني ليبقى معه حينا. فإذا انصرف القوم وخلا الزوجان إلى هذا الرجل الغني بدأت طائفة من المواقف المؤثرة التي تملؤك عطفا على الزوج، وسخطا على امرأته، وإعجابا بالكاتب والممثلين. انظر إلى هذا الزوج الموتور يريد أن ينتقم لنفسه ولكرامته، ولكنه لا يريد أن يكون سخيفا، ولا ضحكة، ولا مجرما، فهو لا يريد العنف ولا سفك الدم، وإنما يريد أن يكون مترفقا في انتقامه. انظر إليه يعذب الخائنين عذابا أليما لأن موضعه الضمير، يستثير غيرة الرجل الغني بما يبدي من التلطف لامرأته، وبما يتكلف من مداعبتها وقد ضمها إليه، ثم أجلسها على حجره، وأخذ يداعبها هذه المداعبة المشروعة بين الزوجين، والتي لا تكون إلا في الخلوة، والرجل ينظر ويتألم دون أن يستطيع اعتراضا أو احتجاجا، والمرأة خجلة ذليلة بين هذين الرجلين اللذين يتقاسمانها، وهي تتكلف الحياء لتخلص من هذا الموقف الأليم، ولكن الزوج لا يحفل بحيائها ولا بألمها. وهو الآن ينتقل من المداعبة إلى الحديث، فيقص على صاحبه أسرار الزوجية، وما تمنحه امرأته من لذة إذا خلت إليه. حتى إذا قضى وطره من تعذيب الخائنين وإذلالهما أطلق امرأته فذهبت لتصلح من شأنها قبل العشاء، وخلا هو إلى الخائن.
وهنا موقف ليس أقل من الموقف الذي سبقه جمالا وتأثيرا. هذا الزوج يتحدث إلى عاشق امرأته، فما هي إلا أن يعلن إليه أنه يعلم كل شيء، فإذا وجم الرجل وسأله عما يريد وانتظر الكارثة، أعلن الزوج إليه أنه لا يريد شيئا وأنه راض بهذه الحال، وإذا الرجل الخائن شديد الازدراء لهذا الزوج الذي لا يجري الدم في عروقه، والذي يرضى أن تكون امرأته شركا بينه وبين غيره. يريد أن ينصرف فيمسكه الزوج؛ إذ ليس بد من الاتفاق على أشياء وتدبير مصالح لا بد من تدبيرها، هما شريكان في المرأة وقد يمكن أن يكونا غدا شريكين في طفل تلده هذه المرأة. وما زال هذا الزوج يرقى في تمثيل الضعة والمهانة والخيانة والإثم حتى يكشف عن أخس ما في النفس الإنسانية من عاطفة. إنه يلهو، وهو يلهو بازدراء الإنسان، فإذا بلغ من ذلك ما يريد أطلق الرجل وقد اتفق معه على أن يأتي بعد حين ليحمل هذه المرأة في سيارته إلى حيث يريد. ثم تقبل المرأة فيلقاها زوجها مبتسما، وتأخذ في عتابه على ما أباح من أسرار الزوجية، فما يزال بها حتى يعلن إليها أنه عالم بكل شيء، وراض عن كل شيء، وقابل لهذه الشركة التي تضمن لهما الثروة والنعيم.
وإذا المرأة تزدري زوجها حقا وتحتقره احتقارا لا حد له، وإذا هي تتألم حقا لأنها كانت تريد أن يحبها زوجها ، وأن يكون شديد الغيرة عليها، فإذا هي ترى نفسها متاعا يتقسمه رجلان. ولكن الزوج قد أطال الصبر والتكلف وغلا في كظم عواطفه، فهو لا يستطيع الآن صبرا، وانظر إليه وقد انفجر كما ينفجر البركان، فهو ثائر فائر لا يكاد يملك نفسه، ولا يكاد يمسكها عن اغتيال هذه المرأة، وقد ظهر حبه قويا عنيفا، وظهرت غيرته، وكلها روع وهول وهو يصيح بامرأته: «أترين في ما يدلك على أنني قواد؟» والمرأة وجلة مضطربة ولكنها سعيدة مغتبطة لأنها تشهد الحب والغيرة، ولأن زوجها لا ينظر إليها نظره إلى المتاع، وهي تريد أن تستغفر وتريد أن تتوب، ولكن الزوج يحاول طردها، ثم يبدو له فيطرد نفسه، وقد أنبأها أن صاحبها سيأتي بعد حين ليحملها في سيارته، وقد انصرف وتركها تعسة، بائسة تنتحب وتصيح. ولكن السيارة قد أقبلت، وهي تدعو بالباب، فانظر إلى هذه المرأة قد نهضت متثاقلة إلى المرآة، فأصلحت من شعرها ووجهها، وخرجت في هدوء تجيب داعي اللهو والثروة والنعيم.
Unknown page