أشعر بأن كثيرا من المصريين سيسخرون من التاريخ والمؤرخين ومن المؤتمر والمؤتمرين؛ لأن التاريخ ليس من هذه العلوم التي تظهر فائدتها في الحياة العملية اليومية، وليس من العلوم التي تعين صاحبها على أن يفلسف كما يقتضي العصر الذي نعيش فيه، وإنما هو علم متواضع يزيد في تواضعه أنه قد نزل في هذا العصر الحديث عن ميزة قديمة كانت ترفع شأنه وتعلي مكانته، ذلك أن الناس كانوا يتخذون الماضي وسيلة إلى فهم المستقبل، أو بعبارة أوضح: وسيلة إلى الاستعداد للمستقبل، وكانوا يتخذونه وسيلة إلى فهم الإنسانية وتفسير ما في حياتها من غموض، فكان التاريخ يختلط بالفلسفة أو كان التاريخ فنا من فنون الفلسفة، وكان الناس يعتقدون أن له فائدة عملية؛ لأنه يعين على حسن الاستعداد للحياة، فكانوا يكلفون بالتاريخ ويتهالكون عليه، وكانت للتاريخ مكانة عليا بين العلوم، وكانت للمؤرخين مكانة عليا بين العلماء.
ولكن التاريخ تواضع ونزل عن هاتين الميزتين، وأصبح لا يزعم لنفسه الفضل فيحسن الاستعداد للمستقبل، ولا يزعم لنفسه القدرة على حل ألغاز الحياة، بل أصبح التاريخ يحذر الناس من تلك الأساليب القديمة التي كانت تقيس غدا إلى أمس وتفسر اليوم بما وقع منذ قرون. أصبح التاريخ يحذر الناس من هذه الأساليب القديمة، ويسخر من أولئك الذين يبحثون عن الثورة الفرنسية وما أحدثت من نظم في السياسة والاجتماع في تاريخ اليونان والرومان، ثم يرثي لأولئك الفرنسيين الذين خدعتهم هذه الأساليب في أواخر القرن الثامن عشر فظنوا أنهم يحيون بثورتهم الديمقراطية اليونانية أو نظم السياسة الرومانية، واتخذوا لهذه النظم أسماء اقتبسوها من تاريخ أتينا وتاريخ روما. أصبح التاريخ ينكر هذه الأساليب، ويحذر الناس منها، ويسخر من المستمسكين بها، بل أصبح التاريخ ينكر فلسفة التاريخ ويقنع بشيء واحد متواضع، ولكنه جليل الخطر، وهو الوصول إلى استكشاف الحقائق التي وقعت في الماضي استكشافا علميا صحيحا معتمدا على البحث لا على الفلسفة.
فهو كالكيمياء لا يزعم لنفسه القدرة على تحويل المعادن وإيجاد الذهب ، وإنما يزعم لنفسه البحث عن الحقائق من حيث هي حقائق لا أكثر ولا أقل.
إلى هذه المنزلة وصل التاريخ، فما أسرع ما زهد فيه الناس ورغبوا عنه، ولا سيما في مصر! ولقد أذكر حديثا طويلا جرى بيني وبين أحد المصريين الأذكياء، كان ينكر فيه قيمة التاريخ؛ وكانت حجته في هذا الإنكار أن التاريخ لا يفيد فائدة عملية، ولا يمكن الناس من أن يكسبوا حياتهم أو يرفهوا هذه الحياة.
أذكر هذا الحديث وأحاديث أخرى فأشعر بأن ناسا كثيرين في مصر سيسخرون من التاريخ، ومن مؤتمر التاريخ، ولكني أؤكد لك أيها القارئ أني لا أسخر من هذا ولا ذاك، وإنما أكلف بالتاريخ، وأعجب بمؤتمر التاريخ، وأرجو أن يكلف كثيرون بالتاريخ، ولكننا قد نصل إلى هذه المنزلة يوم نشعر بأن العلم يجب أن يطلب لأنه علم، لا لأنه يمكنك من أن تعيش أو من أن تعيش عيشة مترفة.
لا أسخر من التاريخ، وفي الأرض ناس كثيرون لا يسخرون من التاريخ. فقد حدثتك في أول هذا المقال بأننا كنا ألفا أو نزيد على الألف، وكنا من جميع أقطار الأرض، ولم يكن منا من يسخر من التاريخ، ولقد كان الذين نظموا المؤتمر ودعوا إليه في دهش وحيرة لا حد لهما، كانوا لا يطمعون في أن يبلغ عدد المؤتمرين خمسمائة، فإذا عدد المؤتمرين قد تجاوز الألف. كانوا يطمعون في أن يستجيب لهم الناس من أطراف الأرض، وإنما كانوا ينتظرون أن يستجيب لهم أهل أوروبا الغربية، وأهل أمريكا الشمالية، فإذا القارات الخمس يستجبن لهذه الدعوة، وإذا البرازيل والهند وأستراليا ومصر وأفريقيا الجنوبية وأوروبا الشمالية والصين واليابان والروسيا ترسل من يمثلها في هذا المؤتمر. وأحب أن تلاحظ أن ألمانيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر لأنها لم تدع إليه، وأن الروسيا لم تستطع أن تشترك في المؤتمر كما ينبغي لأنها لم تدع، وإنما اشتركت في المؤتمر الجماعات الروسية المتفرقة في أنحاء أوروبا، وأن النمسا اعتذرت عن الاشتراك في المؤتمر؛ لأنها لم تجد من المال ما يمكنها من إيفاد من يمثلها ، ومع هذا كله فقد بلغ هذا المؤتمر الخامس من الفوز ما لم يبلغه مؤتمر تاريخي من قبل.
زاد عدد أعضائه على الألف، وزاد عدد الخطب التي ألقيت فيه والمذكرات التي قدمت إليه على ثلاثمائة، ولم يستطع المؤتمر أن يجتمع للاشتراك في البحث والمناقشة، إنما اضطر أن يوزع العمل ويقسم نفسه أقساما بلغت ثلاثة عشر قسما. اضطرت أقسام كثيرة إلى أن تقسم نفسها وتوزع العمل فيما بينها، فانقسم بعضها أربعة أقسام، ولم يكن من الممكن لعضو من أعضاء المؤتمر أن يتتبع العمل في المؤتمر، وإنما كان كل عضو مضطرا إلى أن يتتبع العمل في القسم الذي هو فيه، وربما أباح أحدنا لنفسه أن يترك قسمه ليسمع خطبة أو مذكرة تلذه أو تعنيه في قسم آخر، فيفعل ذلك كارها؛ لأنه يترك في قسمه خطبا ومذكرات كان يود لو يستمع لها. ولقد كان أعضاء المؤتمر يلتقون فيسأل أحدهم صاحبه: هل قدمت إلى المؤتمر شيئا؟ نعم في موضوع كذا. فيجيبه: هذا شيء لا يحتمل! لقد كنت أريد أن أسمع لك ولكني شغلت في قسمي بموضوع لم يكن بد من الاستماع له. أما أنا فضيق الصدر، فقد فاتتني خطبة فلان ومذكرة فلان. وماذا تريد أن نصنع وقد أبت الطبيعة أن تستطيع تعديد أشخاصنا والاستماع في وقت لكل ما نحب أن نستمع له؟
وكان المؤتمر يفكر في طبع ما سيلقى فيه من الخطب أو يقدم إليه من المذكرات، فألفى نفسه أمام مشكلة مالية لا قدرة له على حلها، وحسبك أنه كان يلقى في الساعة الواحدة وفي أكثر من عشرين غرفة أكثر من عشرين خطبة! وكنا في هذا المؤتمر كالتلاميذ في المدرسة، نجتمع في الساعة التاسعة صباحا فما نزال مجتمعين إلى الظهر، ثم ننصرف للغداء ونعود في الساعة الثانية فما نزال مجتمعين إلى الساعة الخامسة. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفنا إلى زيارات واستقبالات قد نظمت في القصر مرة، وفي البلدية مرة أخرى، وعند وزير المعارف مرة ثالثة، وفي المتاحف والمجامع العلمية مرة رابعة، بحيث كان من المستحيل أن يفكر العضو في شيء غير المؤتمر وأعمال المؤتمر إذا كان عضوا مخلصا في عمله معنيا بفنه حقا، وهنا يجب أن ألاحظ أن الأعضاء لم يكونوا جميعا على حظ واحد من الإخلاص للفن والعناية به، وذلك شيء حسن في نفسه؛ فحسبك ثلاثمائة خطبة أو مذكرة وما استتبعت من البحث والمناقشة، ولو أن الأعضاء جميعا خطبوا أو قدموا المذكرات أو اشتركوا في البحث والمناقشة لما انتهت أعمال المؤتمر في أسبوع أو أسابيع.
كثير من الأعضاء أقبل يسمع ويرى، ويتعرف إلى المؤرخين على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم، وكثير منهم أقبل للرياضة والسياحة، واتخذ المؤتمر تعلة لما كان يريد.
كثيرة جدا الفوائد المختلفة التي تنتجها مثل هذه المؤتمرات، فلست أذكر الفائدة الأساسية التي يستفيدها علم التاريخ، وإنما أذكر فوائد أخرى غير هذه ليس بينها وبين التاريخ صلة. فيكفي أن تكون فطنا دقيق الملاحظة لتجد لذات متنوعة في ملاحظة هؤلاء الناس المختلفين في الوطن والجنس والطبيعة والمزاج، وما لكل واحد منهم من عادة أو خلق أو مزية أو نقيصة. والحق أني قد استفدت كثيرا من الوجهة العلمية التاريخية، ولكني مع هذا ضحكت كثيرا وسخطت كثيرا، فقد كان حولي من الناس من يضحك كما كان حولي منهم من يبعث السخط، ولكني سأحدثك عن هذا كله في مقال آخر بعد أن أقص عليك طرفا من أعمال المؤتمر.
Unknown page