ولنبدأ من هذه الشخصيات بهذه الفتاة الجميلة آن ماري، وهي ابنة أخت صاحب السفينة، قد خطبها فتى من أبناء الطبقة الوسطى، أسرته غنية رفيعة المقام، وهو مفتش في وزارة المالية، ونحن نراه يتحدث إلى خطبه ويظهر لها الحب والهيام، والفتاة تستمع له في أناة واعتدال، وقد نفهم من حديثهم أن الفتى يتكلف الحب، وأن الفتاة لا تتكلف شيئا، وإنما تريد الزواج. وليس هذا الزواج سهلا ولا هينا، فهذه الفتاة نشأت في حجر رجل تزوج من أمها حين كان غنيا، بارز المكانة في باريس، ضخم الثروة، متسلطا على كثير من الشئون العامة، ثم اضطرب أمره المالي، ثم كانت الكارثة، ثم قبض عليه وحوكم وقضت عليه المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما.
فهذه الفتاة موصومة بجريمة هذا الرجل، وإن لم يكن أباها، وليس من اليسير أن تجد زوجا يقبلها. فمن المعقول أن تحرص على هذا الزوج الذي أتيح لها وإن لم تجد في نفسها حبا له أو ميلا إليه. وهي شديدة السخط على هذه الجماعة التي تأخذ البريء بذنب المسيء، وتعاقب الأبناء على إثم الآباء، وهي مع ذلك شديدة العطف على هذا السجين لا تنكره، ولا تزدريه، ولعلها تحبه وتكبره أيضا.
والفتيان يتحدثان بمقدم هذا السجين الذي أفرج عنه، والذي ينتظر وصوله إلى السفينة، بين حين وحين. وهذه شخصية أخرى قد أجاد الكاتب تصويرها، وهي شخصية أدلين أم الفتاة وزوج السجين. امرأة قاربت الخمسين من عمرها، ولكنها ما زالت عظيمة النشاط سريعة الحركة خفيفة العقل، مضطربة بين أهوائها وعواطفها، متهالكة على زينتها ولذتها، يحسبها من رآها وسمعها فتاة لم تتجاوز العشرين.
وهذا صاحب السفينة ورئيس الأسرة، رجل غني قوي ماكر ماهر، مزدر لكل شيء إلا ثروته، حريص كل الحرص على أن يزوج هذه الفتاة من هذا الفتى؛ لتكون المصاهرة بين أسرته وهذه الأسرة القوية البارزة، ولتصلح هذه المصاهرة من أمره المالي ما قد يحتاج إلى الإصلاح. ثم هذا الشيخ أبو السجين رجل قد قارب السبعين أو جاوزها، وأثرت فيه السن؛ فهو إلى السخف والبله أقرب منه إلى أي شيء آخر، ولكنه مع ذلك شديد الحرص على المال، قاسي القلب، لا يكاد يعطف على ابنه ولا يكاد ينسى نفسه. وكل هؤلاء ينتظرون مقدم السجين، وينظرون إلى الساحل لعلهم أن يتبينوا السيارة التي تحمله إليهم. وأنا أعفيك مما يكون بينهم أثناء ذلك من حديث فيه فكاهة حلوة، ولكنه طويل مسرف في الطول، مفصل مسرف في التفصيل. وهذا السجين لودفيك قد أقبل ومعه شخص غليظ ضخم، ظاهر البله، سيئ الحال، لا يلتفت أحد إليه الآن، فلندعه نحن لحظة حتى يلتفت إليه أعضاء هذه الأسرة، ولنقف عند هذا السجين وقد أقبل متعبا مكدودا واجما يكاد يفقد الصواب، ويكاد لا يميز أحدا من هؤلاء الناس، الذين يراهم بعد أن غاب عنهم خمسة عشر عاما. فهم يلقونه مظهرين الابتهاج، وهو يلقاهم متكلفا للسرور، ولكنهم لا يكادون يتحدثون إليه حتى ينكر كل شيء؛ ينكر أصواتهم لأنها مرتفعة تؤذي سمعه الذي قضى دهرا طويلا لا يكاد يسمع صوت إنسان. وينكر ألفاظهم لأنها لا تدل على المعاني التي كان ينتظر أن تدل عليها، بعد أن طال عهده بالعزلة. وينكر معايبهم إذا فهمها، فهي تؤذي شعوره الخلقي، بل هو ينكر أشخاصهم أيضا. لقد كان يظن أنه سيلقاهم كما كانوا، يوم تركهم، ولم يكن يحسب حسابا لهذه الأعوام الطوال التي مرت فدفعت بعضهم إلى الشباب وقد كان صبيا، ودفعت بعضهم إلى الكهولة وقد كان شابا، ثم دفعت بعضهم إلى الشيخوخة وقد كان كهلا. وهو لا يعرف امرأته، فقد فارقها شابة لم تكد تجاوز الثلاثين، فإذا هي الآن امرأة قد تقدمت بها السن وقاربت الخمسين. تزوج كما يقول زهرة فوجد امرأة، بل هو لا يعرف ابنه الذي ولد بعد أن ألقي في السجن. وابنه هذا غلام قد أتم الرابعة عشرة، يقرأ الصحف ويجادل في العلم ويتعرف شئون الطيران ويجهل من أمر أبيه كل شيء، إلا أنه قد ذهب إلى أستراليا يلتمس الثروة، ثم عاد منها اليوم. ولا بد من أن يتعلم السجين أشياء كثيرة ليستطيع أن يلقى ابنه ويتحدث إليه ويفهم عنه، بل هو ينكر الجو الواسع والهواء الطلق والضوء القوي؛ فقد أقام هذه الأعوام الطوال في حجرة ضيقة ضئيلة لا يلقى أحدا ولا يلقاه أحد، وقد تعود أن يخلق لنفسه أشخاصا يتحدث إليهم في وحدته هذه، ولكنه يتحدث إليهم في ضميره أو يتحدث إليهم همسا، وقد تعود ضوء هذه الغرفة الضيقة ولون جدرانها الحائل، وجوها الحانق، فشق على رئتيه وعينيه وأذنيه كل ما يحس وكل ما يرى. وهو بنوع خاص دهش لهذه السفينة التي حمل إليها، فهو كان ينتظر الحرية ليسعى في الأرض ويهيم في الريف ويشعر بالانطلاق ويستمتع بالشجر والحيوان والنبات، لا ليخرج من سجنه المستقر على الأرض إلى سجن آخر تتقاذفه الأمواج.
وانظر إليه وقد رأى لأول مرة منذ خمسة عشر عاما طائرا من طير البحر، فهو دهش مبتهج شاعر حين يصف هذا الطائر ويتحدث عنه.
وقد أقبل الخادم يدعو القوم إلى طعامهم، فتنبهوا لهذا الشخص الضخم الغليظ الذي أشرت إليه آنفا، فسألوا عنه فإذا هو صديق لهذا السجين، كان يسكن في السجن حجرة تجاور حجرته، ولم يكونا يلتقيان ولا يتحادثان، وإنما كانا يتبادلان الطرق على الحائط الذي كان يفصل بينهما. وقد أنشآ لنفسيهما لغة خاصة تنطق بها الأيدي ولا تجري بها الألسنة. وهذا الرجل أخرس، وقد خرج من السجن قبل صاحبه بوقت قصير، ثم التقيا وتعارفا وظهر أن هذا الرجل بائس، فاصطحبه لودفيك رفقا به وعطفا عليه، والأسرة ضيقة بهذا الرجل الوضيع المجرم، تريد أن تنفيه ولكنها لا تستطيع؛ لأن صاحبها قد أنذر بأن يمضي معه إذا نفي، فالأسرة تستبقيه كارهة وترسلة إلى المطبخ ليصيب شيئا من طعام. وهذا السجين قد خلا لحظة إلى امرأته، وهي ترفق به وتتلطف له وتدنو منه، وهو يعرض عنها إعراضا؛ لأنه لا يحبها ولا يستطيع قربها، وقد نسي أو كاد ينسى ما كان بينهما من ذكريات. وهي تتركه لأخيها (جيوم) الذي أقبل يتحدث إليه في شئون خطيرة، ولكنه لا يكاد يسمع منه حتى ينكر ما يسمع أشد الإنكار، ف «جيوم» يعرض عليه عملا في بعض مكاتبه على أن يبقى أكثر وقته في المكتب، وهو يعرض عليه أن يخفي اسمه أمدا طويلا، وهو يبين له أن هذا كله شيء لا بد منه لتحتفظ الأسرة بشرفها، ولتستطيع الفتاة أن تتزوج من هذا الفتى. فإذا أظهر السجين أنه يكره هذا العمل الشاق ويريد أن يستمتع بحريته منطلقا في الأرض، أبى عليه صاحبه وأنذره بالبؤس، بل بما هو شر من البؤس. وقد اشتد الخلاف بينهما حتى هم السجين أن يمضي لوجهه، ولكن ماذا؟ لقد بعدت السفينة عن الساحل وعرف السجين أنه لم يحمل إلى هذه السفينة إلا لتفرض عليه الأسرة ما تريد، فهو يسب أخا امرأته ويهجم عليه، ولكن ما أسرع ما يقهره هذا الرجل القوي، وهو يريد أن يلقي بنفسه إلى الماء، ولكنه يمنع من ذلك أيضا. ويسدل الستار وهو يقاوم صاحبه ويخاصمه.
فإذا رفع الستار عن الفصل الثاني، رأينا الفتيين اللذين رأيناهما في أول القصة يختصمان أو يتحاوران حوارا فيه شيء من الخصومة؛ فقد تفاقم أمر السجين، وأخذ الفتى يخاف أو يخيف من أن ترفض أسرته الزواج إذا مضى هذا الرجل على حاله هذه. والفتاة كريمة النفس، لا ترى في السجين رأي الأسرة، وقد أخذت تعد نفسها لرفض الزواج كارهة ذلك، ولكنها تحتمله في كبرياء.
ونفهم من حديثهما أن السجين قد لزم مع رفيقه غرفة التدخين وأغلقاها من دونهما، وأزمعا ألا يخرجا منها، واتخذا خطة عداء لكل من يدنو من الغرفة، فهما يقذفانه بما تناله أيديهما من الزجاج والأطباق وما إلى ذلك، حتى استيقنت الأسرة جنون السجين وأبرقت إلى طبيب كان صديقا له قبل السجن. ودنت بالسفينة من الساحل، وهي تنتظر مقدم هذا الطبيب لعله يرد السجين إلى شيء من الأناة واللين والموافقة.
ويقدم الطبيب بعد حين، فتصور الأسرة له أمر السجين على أنه مجنون أو كالمجنون، وترغب إليه في أن يجتهد في إخراجه من هذه العزلة، وحمله على أن يقبل ما يعرض عليه. وهذا الطبيب يدنو من الغرفة حذرا، ويدعو صاحبه وينبئه بمكانه فيخرج إليه، ولا سيما وقد كان أظهر الرغبة في لقائه.
فإذا تحدث الصديقان عرفنا أن السجين لا يريد إلا شيئا واحدا، وهو أن يستوثق من أن رفيقه في السجن لن يموت جوعا. فهو يوصي به صديقه الطبيب، فإذا عرف أن صديقه قد قبل حماية هذا البائس أعلن إليه أنه سيقتل نفسه، فلم يبق له أرب في الحياة.
Unknown page