أما منظرنا فمن أين لنا ذلك الريش الصقيل وتلك الألوان اللماعة البهية؟ من أين لنا مد الجناح ورفع الذيول؟ وكيف نطال هذا الجو الفسيح ونحن نكاد لا نجرؤ على القفز من فوق حائط؟ وأنى يكون لنا مجاورة النجوم ونحن لصقاء الأرض لا نقدر أن ننفصل عنها ولو بمقدار علو الشجرة؟ نعم، إن الأسد لا يطير، والنمر لا يجاور النجوم، وابن آوى لا يحط على الماء، ولكن للأسد صولته، وللنمر هيبته ورهبته، ولابن آوى حريته.
فليت لي يا سيدي جناحي النسر قوة، وصوت الكنار حسنا، وألوان ذنب الطاووس، فأتغنى وأتمايل وأدل وأذهب حيث يطيب لي المقام، أشرب من رءوس الينابيع ما أستعذب من مياه، وألتقط، إذا شئت، الندى المتساقط على أوراق السنديان، وأطلب ما أستسيغ من طعام وساعة ما أستسيغ، ثم أجرر ذيلي على قنن صنين وضهر القضيب والباروك، وأمر عاليا بعيدا فوق الحرمون، ويظل خيالي الناس عندنا أرتفع إلى جوار الشمس.
فرق قلبي ورحت أهون عليه: دع عنك هذه الأماني، وخل الوهم، فأنت لو صرت إلى ما ترغب في أن تكون لحننت إلى ما أنت فيه. - هذه يا أميري أحاديث إنسان. - وهب ذلك، أفتراك أعلم منه وأقدر على فهم الحكمة؟ - لا، ولكني لاحظت أيام كنت في خدمته أنه متى عجز عن تحقيق الأماني، أو متى أرهقته نازلة، عاد إلى هذه الحكم الهينة، يسلي نفسه ويروح بتردادها كربته، فهو لا يسلم بالقدر إلا إذا لم يوفق في رغائبه، أما إذا وفق فليس للقدر ولا للرب الذي يعبد في توفيقه شأن ولا إرادة ولا تدخل.
أفتريدني كالناس يا مولاي؟ إني لست في حاجة إلى من يهون علي، أنا أعرف أن الطبيعة أساءت إلينا نحن، معشر الكلاب، وأعرف أن لا حيلة لي في التبرم بالطبيعة، فما هي حاجتي بعد للقول إنني متى صرت إلى ما أشتهيه أسفت على ما كنت فيه، ووددت العودة إليه؟ ليبق إذن شوقي إلى حالة أمثل يحز في نفسي إلى ما شاء، فلن يظفر مني بإذعان للقدر ولا بتسليم، وسأظل حانقا على هذه القوة التي خلقتني كلبا، ولم تخلقني طائرا أو سبعا أو نمرا. - ولكنك تجدف وأنت حري بأن ترجم، أفلا تخاف سوء المصير؟ - وكيف أرهب؟ إن هذه العوالم إذا صح زعم الإنسان ليس لنا فيها محل، فنحن وسائر الضبعان والطيور لا ينتظرنا بعد هذه الحياة نعيم، ولا يهددنا جحيم، يقول الإنسان: إن أرواحنا تنحل مع أجسادنا، فنحن تراب كلنا وإلى التراب كلنا، وسيان أدفعت الكلاب ضيما عن مخلوق، أو ألحقت به الشر ومزقته بأنيابها وهشمته، فهي إذا استطاعت النجاة من عقاب الناس، فلن يلحقها بعد ذلك عقاب. أفعلمت لماذا أريد أن أكون طائرا قوي الجناحين حلو الطلعة، أحقق نعيمي هنا وأهرب من جحيمي هنا؟ - إنك تتحدث كأنك إنسان، وبعض الناس يؤمن إيمانك هذا، أفتعرف؟ - أعرف، نعم، وأعرف أن الإنسان آمن بكل شيء وأنكر كل شيء، وإذا كان ما يزعمه بعض الناس حقا من وجود إله وشياطين، فما أعجب إلا لهذا الإنسان الذي يفتش عن الآلهة ويبحث عن الشياطين. وكل ظني أنه مركب من إله وشيطان، فلا الإله الذي يجد في أثره ببعيد عنه، ولا هو يستطيع تفلتا من شيطانه. ولكن ما لي يا سيدي وللناس، والحديث عنهم كالحديث عن الأفاعي، فلندعهم في شقائهم، إن العقل الذي يدلون به على سائر الحيوان والنبات هو سبب شقوتهم، وإني لتراني شاكرا حامدا أن ليس لي عقلهم ولا حكمهم ولا مشاكلهم، كل رغبتي أن يكون لي ميزات الطيور، ولقد رأيتك يا مولاي قويا قادرا على ما لا يقدر البشر، فأنت تستطيع أن تظهر شخصا وأن تغيب عن متناول الأنظار، بيد أنك تكون حاضرا، ورأيتك أحيانا تنقلب طائرا نادرا أو أسدا مهيبا. فرق لحالي وهبني جناحي نسر وحنجرة بلبل، فأغني لك أطيب الأغاني وأسعى في حاجاتك، وأرفع لك الابتهال حتى آخر العمر. - ويك أني إذا وهبتك ما تريد، لن أستطيع أن أغير من طبائعك، بل ستظل على الرغم من الشكل أنت إياك كأنك ما اعتصمت بجناح، ولا ارتفعت في فضاء، ولا تقربت من مطارح النجوم. - رحماك يا مولاي، دعنا من آراء الناس، وهبني ما أطلب.
قال أمير الجن: فنفخت في أنف هذا الكلب، فإذا هو طائر ما وقعت على مثله عين، في ريشه كل ألوان قوس السماء، وكل ما بينها من ألوان جدد لم تخلق إلا له، وأعطيته خصائص لم يتمتع بمثلها طائر، فكان إذا شاء يصير أسود كله أو أبيض كله، وكان بوسعه أن يكسو أحد جناحيه وما يليه من الجسم ظلمة الليل ويكسو الآخر وما يليه بياض الثلوج. بل كان في طاقته أن يظهر بلون واحد من الألوان التي يشتهي، أو أن يظهر بها جميعا، فكأنما هو عروس من بنات الملوك، خزائنها ملأى، وملابسها دائمة الجدة، أما غناؤه فقد عرفت أن غير واحد من الكناري مات حسدا عندما سمعه، وأن البلابل أقسمت لا تغني أمامه، وقد كان لجناحيه قوة ما تيسرت من قبل لجناحين. يطير الأيام، ويطير الليالي فلا تعب ولا عياء. وراح طائري هذا يقطع الآفاق، يدل على السهول، ويرتفع فوق الجبال حتى يقارب الشمس، فما بقي في العالم غاب لم يزره، ولا بحر لم يرف فوقه، ولا نهر لم يواكبه، ولا كناري إلا علمه الغناء، ثم عاد إلي بعد زمن يحدث عن عجائب الأرض والمخلوقات، وينظم كل يوم لحنا جديدا فريدا.
وذات ليلة من أواخر ليالي أيلول كان طائري العجيب يسمر على غصن عال من أغصان الصنوبر القائم هنا كالشموع، فإذا بالبدر يرتفع على مهل من وراء الباروك ويغمر الدنيا بفضته، فانقطع صوت طائري وراح يتأمل القمر، وما هي إلا نبحة أرسلها في وجهه طويلا، فإذا بالريش الجميل يتناثر في الفضاء الفضي ويختفي، وإذا طائري على الأرض ذلك الكلب.
ولما عكر الإنسان علي صفو هذه الديار، ورحلت وعشيرتي إلى مغاور النبع، استصحبت هذا الكلب، لعلمي أن النفس الذي نفخت في أنفه قهر الموت، وأنه إذا بقي هنا سيعيش معذبا بين الميتين، وها أني أخرج به مرة في السنة ينبح في وجه القمر ونعود .
قال الساحر: وسقط أمير الجن وكلبه في الغبيط، وتواريا عن نظري في مغاور النبع بعيدا تحت الأرض.
العرعار
كان ما كان في قديم الزمان، وفي ما كان صبية من الجن تعيش بين التلال القائمة هنالك فوق قريتي في مخبأ جعله القدر جوف جدة السنديانة الجبارة التي تظل اليوم بقاع الحقلة، وتروى عن قدمها الأحاديث، وتذكر أبواب السرايات التي اصطنعها الأمراء من خشب جذوعها، وتعقد حلقات الصبايا والشباب تحتها كلما خرجوا لنزهة أيام القطاف، ويرتجحون على أغصانها، ولأهل القرية شغف بهذه السنديانة وانعطاف إليها، فإذا ذكرت لهم ترنحوا وساورتهم خيلاء لا تقل عن خيلائهم عندما يذكرون البرج القديم الذي صنعت من حجارته كنيستهم، أو عندما تحكى حكايات أمواتهم وما كانوا عليه - يرحمهم الله - من فطنة وشجاعة وإيناس.
Unknown page