النغم التائه
طليق وسجين
الشاعر والشيطان
ملكرت
الكلب المجنح
العرعار
الرصد
بعل مرقد
النغم التائه
طليق وسجين
الشاعر والشيطان
ملكرت
الكلب المجنح
العرعار
الرصد
بعل مرقد
من أعماق الجبل
من أعماق الجبل
تأليف
صلاح لبكي
إلى عائدة، رفيقة العمر
هذه الأساطير من أعماق بلادي، اعتراف الخصب بفضل الينبوع.
صلاح
مقدمة
بقلم بطرس البستاني
ما أحوج الإنسان إلى معرفة أساطيره؛ ليدرك دخيلة ذاته، ويتبين أصول ما يعيش فيها من عقائد وأوهام لها سلطان خفي عليه، تقوده - برغمه - إلى عمل شيء أو ترك آخر. وإلى التفاؤل بشيء والإقبال عليه، أو إلى التشاؤم بغيره والفرار منه، وهو في هذا وذاك لا يدري حقيقة ما يقوده إلى أن يجد الخير هنا فيرغب فيه، والشر هناك فينفر منه.
وإنما يعلم أنه تلقى هذه العقائد من ذويه ومجتمعه فتماسكت جذورها في نفسه حتى اتصلت بعقائده الدينية فأصبحت معها كلا شاملا لحقائق إيمانه، يستعين بأوهامه التي يرتاح إليها كما يستعين بالدين، ويستعين الدين على ما يخشى منها، كما يستعين عليها أوهاما من جنسها فيفزع إلى الطلاسم والتعويذات، وربما لا يجهل أنه في استسلامه إلى تلك الأوهام يأتي أعمالا ينكرها الدين ويحرمها على أبنائه.
ومع ذلك يجد نفسه ضعيفا أمامها، قصير اليد لا قبل له برد هذه الأرباب التي تحدر عليه سلطانها من تراث الأجيال المتعاقبة، فأخضعته لأحكامها بما فيها من حيوية نابضة بالتقليد والحديث المأثور، بعد أن حضنتها أزمنة بعيدة، وبلورتها مخيلات متفاوتة، قد تعود إلى عهد الشرك والوثنية، أو إلى عصور الأديان المنزلة وما نشأ على جنباتها من أساطير أضيفت إلى القديسين والأخيار والملائك، وإلى الشياطين والجن والعفاريت، وهي على اختلاف ينابيعها جديرة بالحفظ والعناية، فالشعب الذي أضاع أساطيره، جهل دخيلة ذاته، وأضاع جانبا عظيما من تاريخه.
هذا التاريخ الذي نستمع إليه على أبواب الأسطورة، كما يقول فكتور هوغو، يحتل اليوم مقاما رفيعا في معرفة أحوال الأمم، واستكشاف بذور الفكر البشري؛ فإن الأساطير منها ما ينشأ في حضن المجتمع فيحمل في تضاعيفه شتى عقائده وآرائه، ومنها ما يهاجر إليه مع الشعوب الغريبة أو مع التجار والسياح والجنود الراجعة من الحرب، فلا يلبث، بمرور الزمن، أن يكتسب حقوق المستوطن فيظهر في حلل جديدة تلونها طبيعة الأرض وعقلية أبنائها.
وقديما قيل: إن فلسفة اليونان استنبطت أصولها من أساطيرهم، وإن تكن منابتها الأولى زراعة الشرق في حقول فينيقية وعبرانية ومصرية وآرية وهندية، فلذلك يصح أن تتخذ الأسطورة فكرة فلسفية تقود إلى ما بعد الطبيعة بأبحاثها الإلهية، وإلى محاولة تفسير النظام العالمي لاشتمالها على الأرباب المؤلهة من القوى الطبيعية، وإلى معرفة الخير والجمال بما فيها من تأليه الفضائل الأخلاقية كالحكمة والعدل والجمال.
وكان الرواقيون يقولون بأنهم وجدوا المبادئ العالمية في الأساطير، وذهب الإسكندريون هذا المذهب فأرجعوا أصل الفلسفة إلى تعليم الأسرار الأولى في مصر، وقال أفلاطون في «غورجياس»: إن الأساطير القديمة تتضمن عوامل الحقائق الكبرى، وهو في «الجمهورية» يؤثر أن يبدأ بها قبل غيرها في تعليم الأحداث، على أن مغزاها حقيقي.
والأحداث من غريزتهم يميلون إلى هذا النوع من القصص الوهمي؛ لأنه يغذي مخيلتهم، ويستثير شواعرهم الدقيقة، بيد أن أفلاطون لم يسمح بأن يلقنوا جميع أنواع الأساطير كخرافات هوميروس وهزيود، فإن هذين الشاعرين شوها جمال الأرباب والأبطال بما أضافا إليهم من صفات مذمومة كالمكر والخيانة، والاستهتار بالشهوات، فمثل هذه الأساطير يسيء إلى عقيدة الأحداث في الآلهة وأعاظم الرجال، بخلاف تصور الألوهية خيرا وسعادة للبشر، وتظهر البطولة بأسمى معانيها.
وكأن صاحب «من أعماق الجبل» وقعت في قلبه تعاليم أفلاطون، فجاءت أساطيره، على الجملة، مشبعة بفكرة الخير والجمال، تزهر منها أنوار لبنان حاملة إلى العالم القديم رسالة الحضارة والروح والحب والسلام، ف «النغم التائه» يرمز إلى الحب الشامل يفيض به قلب لبنان فيزرع الخصب، وينبت العمران، وتنبعث الإنسانية من تلك النفس المنفتحة، على حد ما يسميها «برغسن» ويعبر عنها إبدع تعبير.
فإذا تاه النغم، وتكاثفت المادة على الروح، ذهب الخير من الناس، وساد الشر والتحاسد والخراب، ولكن النغم يتيه ولا يبيد فلا بد له من عودة يتجدد فيها الصراع بين المادة والروح ؛ لأن المادة لا تنتقل من القوة إلى الفعل، من النقص إلى الكمال؛ إلا بمحرك من الروح، فهي لا غنية لها عنه وإن تمردت عليه.
وفي أسطورة «الشاعر والشيطان» نلمس حاجة المادة إلى الروح، حاجة الظلام إلى النور، فقد عاد النغم التائه من غربته وحط قراره في قلب شاعر من لبنان، يغني أغنية النور، ويعرض عن زخارف الشيطان: «فيهن الشكل والتراب وليس فيهن الروح»، ويجد الرمزية والتأثرية والتصوير المكعب من عمل الشيطان، فاجتنبوه! فالمدنية التي تقوم على المادة وحدها هي مدنية جوفاء: «لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي.»
أليس المسيح روحا محييا، وحبا شاملا، ونورا أزليا؟ فبالروح يحيا الإنسان لا بالجسم، وبالحب لا بالمادة تخف آلام البشر، وبالنور يهتدي الحائر لا بالظلام، فرسالة لبنان روح وحب ونور.
وإذا كانت المادة ضرورية لتخطيط الجسم وتشكيله، فإن الروح التي تتحد بالجسد وتحييه لا تدعه يربي عليها بجسمانيته، فيقودها إلى الشر ويستخدمها في شهواته، بل تغالب نزعات المادة مستبسلة حتى تنتصر عليها فتسير بها إلى الخير والفضيلة، كما انتصرت لبنانة في «بعل مرقد» فقمعت ثورة ماديتها بعد جهاد أليم يذكرنا جهاد القديسين حين تساورهم التجارب، وقامت ترقص وبعل مرقد يعزف ويغني لها «أغنية الحب الخالد»، فارتفع بها الرقص عن ظلمة المادة الكثيفة، فإذا هي «خصلة من نور تتعالى إلى ما وراء النجوم»، وكثير من الشعوب القديمة كانوا يؤمنون بقداسة الرقص، وأنه يدب الحياة في الأرض فينمو الزرع ويطيب الحصاد، وكان الهنود خصوصا يرون فيه فألا حسنا لإخصاب العروسين.
فعلى هذا النمط الخير تجري أساطير «من أعماق الجبل» متغنية بحضارة لبنان وجمال أرضه وسمائه، متصلة بقصص الماضين وعقائدهم دون أن تفقد خاصة الاختراع، فقد أعطى صلاح لبكي لنفسه الحرية في إخراجها وتوجيهها، فجاءت صنعا جديدا تطفو عليه روعة القديم وجلاله.
وربما حوت الأسطورة أصول أخبار وخرافات مختلفة المجاري، لبنانية ومهاجرة، فيجمع بعضها إلى بعض، ثم يشق لها طريقا غير طريقها القديم. فأسطورة «بعل مرقد» تذكرنا أوائلها بأسطورة بغماليون، فقد نحت بعل لبنانة بأزميله، ونفخ فيها الروح، وأحبها وتزوجها، كما نحت بغماليون بأزميله تمثال فتاة جميلة، فتعشقها ثم تزوجها بعد أن بعثت فينيس فيها الحياة.
على أن أسطورة صلاح لبكي لا تلبث أن تفارق الأسطورة اليونانية لتنتحي وجهة لبنانية، مسيحية لا وثنية، وكذلك أسطورة «النغم التائه»، فإنها تشتمل على خرافة أدونيس وعشتروت، وعلى خبر قاين وهابيل، كلاهما مرتبط بالآخر، وكلاهما يسير في طريق جديد، فنحن نعلم من التوراة أن الرب قبل تقدمة هابيل، وإلى تقدمة قاين لم ينظر، فشق على هذا إعراض الرب عن قربانه، فوثب على أخيه فاغتاله في الصحراء.
ويفصل الطبري هذا الحادث فيخبرنا أن حواء كانت لا تحمل إلا توءمين ذكرا وأنثى، وكان الذكر يتزوج من شاء من أخواته إلا توءمته، فإنها كانت لا تحل له، فرغب هابيل في توءمة قاين؛ لما هي عليه من الجمال، فضن قاين بتوءمته على أخيه، وأرادها لنفسه، فنهاه آدم فأبى أن يطيعه، فأشار عليه أبوه بأن يقدم قربانا للرب، وأن يقدم هابيل قربانه، فأيهما قبل الرب تقدمته كان أحق بأخته، فقدم كلاهما تقدمة للرب، فنزلت نار بيضاء من السماء فأكلت قربان هابيل دلالة على قبوله، وتركت قربان قاين فلم تأكله، فغضب قاين وأمضه أن يتخلى عن توءمته فقتل أخاه.
أما صاحب «من أعماق الجبل» فيجعل من عداء قاين لأخيه صراعا بين الشر والخير، فقد كان لهابيل صوت رخيم عذب، فإذا قدم قربانا للرب سبح له مرتلا: «فأصغت الأرض والسماء، وهرعت الطيور والأسود من كل صوب»، وكان صوت قاين كريها منكرا، فإذا قرب للرب وسبح: «غامت السماء وتجهمت الأرض، وأقلعت الطيور وانصرفت الأسود»، فحسد قاين هابيل حتى كاد يموت حسدا، وزين إليه أن يعض عنق أخيه؛ ليمتص النغم من عنقه، فمات هابيل مختنقا، ولكن النغم أفلت وتاه حتى استقر في حنجرة آدونيس، يفيض على لبنان عاطفة الحب الشامل، ويبدع مدنية بيبلوس وصيدون وصور.
ثم مات قاين: «فنبذت السماء روحه، ولفظتها جهنم، فحلت في جسد خنزير غريب لم يكن للبنان عهد بمثله، وبينما آدونيس يؤدي رسالة الحضارة ويوحد بأنغامه القلوب على الحب وعلى الخير، فاجأه الخنزير وانقض عليه وصرعه»، فتجددت مأساة هابيل بتغلب الشر على الخير، وأفلت النغم ثانية وتاه ليجد له مستقرا، وإذا تغلب الشر على الخير يتيه النغم، إلا أنه لا يموت.
وهذا النغم جدير بأن يستوقفنا في قصة قاين وهابيل، فأي فكرة تحركت في أعماق ضمير الكاتب، فأوحت إليه أن يبني أسطورته على الغناء مخالفا فيها ما حدثت به التوراة والأخبار؟ ولعل هذه الفكرة تعيش في باطن كل منا، بل لعلنا نتكلم بها دون أن نأبه لحقيقة معناها، أو نحاول التنقيب عن أصلها ونشوئها، فكثيرا ما نسمع غناء خشنا مزعجا فنتأذى من وقعه في آذاننا فننطق عفوا: هذا صوت قاييني! نشبه صوتا بصوت ولا نعلم سبب هذا التشبيه.
وقاين وقايين وقين أسماء لمسمى واحد - كما يقول الطبري - فكيف نشأت هذه الصورة المعنوية في أذهاننا، وليس في التوراة والأخبار ما يهدينا إليها؟ أتراها متصلة الأسباب بأسطورة قديمة انقطعت عنا، وخلصت إلينا هذه البقية منها؟ ولا يبعد أن تكون التوراة أساسا لتلك الأسطورة بما فيها من علاقة قاين بالصوت والغناء، فإن الكتاب المقدس يخبرنا أن قاين هو جد الحدادين وجد أصحاب اللهو والعزف والغناء.
فمن سلالته يوبل بن لامك أبو كل عازف بالكنارة والمزمار، وأخوه توبل قاين أول صيقل لجميع المصنوعات النحاسية والحديدية، فنحن أمام صناعات صوتية ترجع بأصلها إلى قاين وهي الحدادة والعزف والغناء، يضاف إلى ذلك أن اسم قاين نفسه مرتبط المعنى بهذه الصناعات، فلو عدنا إلى مادته في المعاجم العربية لوجدنا أن القين هو العبد والحداد، وأن القينة هي الأمة المغنية، ويسمى مقينا من يزين القيان ويدربهن.
ومعلوم أن العربية والعبرانية شقيقتان لأم سامية بائدة، فلا بدع أن يقع بينهما تشابه في الأوضاع اللفظية ومختلف مدلولاتها، أوليس غريبا أن يكون هابيل المقتول يعني الموت والثكل في مادته العربية؟ يقال: هبلته أمه - أي: ثكلته.
وعلى هذا فقد يجوز أن تكون الأسطورة القديمة متألفة عناصرها من لعنة الله لقاين، ومن أصوات مطارق الحدادين متحدة بأصوات المغنين، فأخرجت لقاين صوتا منكرا، ثم ما لبثت أن انقطعت مع العصور، وبقي الصوت المزعج تائها متنقلا حتى بلغ إلينا، فأخذناه إرثا عن الماضين لا ندري له سببا، فجاء صلاح لبكي ينبهنا إليه في أسطورته، ولطالما كانت الأساطير مفسرة لكثير من العادات والعقائد والأحكام عند الشعوب.
ونرى أن إضافة الصوت الجميل إلى هابيل لا تقتصر على المقابلة المجردة بينه وبين أخيه، بل تتعداها إلى أبعد من ذلك، فقد كان هابيل راعي غنم، كما تقول التوراة، وكائن تغني الشعراء بصوت الراعي وشبابته وهو يسوق القطعان في الأودية والجبال، وللأدب اللبناني خصوصا آصرة عريقة على الراعي المغني، فمن الطبيعي أن تحيا بذورها في نفس صاحب «من أعماق الجبل» وهو شاعر من لبنان، فيلقي السحر في حنجرة هابيل، وتغتبط سريرته؛ إذ سقط زرعه في واد غير جديب.
ونحن وإن خصصنا بالذكر ثلاث أساطير: النغم التائه، والشاعر والشيطان، وبعل مرقد؛ فلا لأنها استبدت بالروعة دون سواها، بل لأنها سارت متضافرة في اتجاه بحثنا، مع أن أخواتها الباقيات لا تقل عنها جمالا وإغراء، وفيها أيضا لبنان بحضارته وطبيعته، وفيها فكرة الخير والسعادة كما أرادها أفلاطون.
مع ستة رسوم بريشة قيصر الجميل.
النغم التائه
عندما قتل قايين هابيل، لم يفعل كما ظن المؤرخون؛ لأن الرب قبل قربان هابيل ولم يقبل قربانه؛ فقد كان بوسع قايين أن يقدم للرب قربانا من خير ما تنبت الأرض، وهي بعد في أول عهدها بالخصب، فيقبله الرب. إن دوافع الإثم الأول لأعلق بالنفس البشرية مما توهم المؤرخون.
كان الأخوان يجتمعان كل أصيل بعد أن يفرغا من أعمالهما، فيقربان القرابين للرب وينشدان في تسبيحه الأناشيد، فكان هابيل إذا غنى أصغت الأرض والسماء وهرعت الطيور والأسود من كل حدب ومن كل أفق تسمع إلى أطرب نغم عرفته الأرض والسماء، فإذا ارتفع صوت قايين غامت السماء وتجهمت الأرض وأقلعت الطيور وانصرفت الأسود مبتعدة مزمجرة.
وكان قايين يموت كل يوم حسدا، ويقرب القرابين طالبا من الرب أن يهبه صوتا رخيما عذبا كصوت أخيه. ولما طال الأمر ولم يظفر أقبلت عليه بنت تلك الحية التي وسوست لأمه ما وسوست وأغرتها بما أغرت، فقالت له: ما بالك تستنفد كل ما تجنيه يداك قرابين لله؟ إن النغم الذي يرتفع من حنجرة هابيل واحد أحد في الأرض والسماء، والرب الإله لا يستطيع أن يهبك إياه إلا أن يمنعه عن أخيك فتدبر أنت أمرك.
وفي أصيل اليوم التالي بينا هابيل يرقص الأفلاك على نغمه، جاش الحسد في صدر قايين فانقض عليه وعضه في عنقه يريد أن يمتص منها أصول النغم، فصرع المغني، وأما النغم فقد أفلت.
وظل هذا النغم تائها هائما على وجهه، فإذا مر ظله على فم «أورفه» روض «أورفه» السباع على وقع أنغامه، وأرقص النبات وحرك الجوامد، وإذا لامس صداه أوتار العود بيد «أمفيون» هبت الحجارة مطاويع من مقالعها، وارتفعت مدنا رائعة الحسن، واليشعا نفسه كان يفيض بالنبوءات إلا إذا أحسه مرفرفا من حوله.
غير أن هذا النغم ما كان ليجد له في الأرض وما فوقها مقرا، فتاه طويلا حتى مر يوما ب «أفقا» فإذا عند النبع فتى من لبنان يفيض قلبه حبا بالسماء وحبا بروعة المكان، فحوم وحل فيه، وأحس آدونيس أنه صار شخصا آخر، أحس أنه صار نغما منسجما، فإذا سار سارت الطير والسباع وأشجار الأرز في موكبه عالقة بوقع أقدامه.
والتقى ذات صباح بعشتروت، تلك الصبية التي طالما حن إليها قلبه، وما إن وضع يده على كتفها حتى جلببها الشعاع بجلبابه وجرت الرقة في أعطافها، فراعه ما رأى وفر هاربا في الجبال ودنيوات لبنان تتبعه وتكتنفه، وشاع الخبر فهب الشباب وهبت الصبايا من أنحاء الجبل بالهدايا، هازجين راقصين ميممين «أفقا» علهم يحظون بما حظيت به عشتروت، أو علهم يرون ويسمعون، فترتفع نفوسهم إلى أبعد من هذه الشمس وتلك النجوم.
وكانوا يسمعون وكانوا يرون وكانت نفوسهم ترتفع وقلوبهم تهتز بعاطفة من الحب الشامل، وإذا هم ينعمون بمدنية ما عرفت الدنيا مثلها من قبل، وإذا بيبلوس وإذا صيدون وإذا صور تحمل إلى أقاصي المعمور، إلى الذين لم يروا وإلى الذين لم يسمعوا فيضا من خيراتها، وفيضا من حبها، وفيضا من إنسانيتها.
غير أن روح قايين التي نبذتها السماء ولفظتها جهنم حلت في جسد خنزير غريب لم يكن للبنان عهد بمثله، وبينا آدونيس يؤدي يوما رسالة الحضارة ويوحد بأنغامه القلوب على الحب وعلى الخير، فاجأه الخنزير وانقض عليه وصرعه.
ولم يفد لبنان بعد ذلك أن نبع «أفقا» كان يتحول كل سنة دما صبيا حزنا على آدونيس، وأن عشتروت ماتت جزعا عليه، وأن الصبايا صرن يصعدن باكيات نائحات إلى «أفقا» يمرغن الجباه في تراب الأرض المقدسة، فقد تهدمت الهياكل وسقطت المدن وتسلط الفاتحون على البلاد وعم الدمار، ولم يسلم من ذلك العهد الميمون غير ذكره وغير اللوعة عليه يتوارثها الخلف عن السلف ويتحدث بمعجزاته العلماء.
أما النغم فقد حل بعد ذلك في طائر يعشش في صدر الشمس حينا وفي فم الميزاب أحيانا، فإذا رفرف فيما هو يهيم في فضائه فوق وادي النيل، تدفق النهر وأخصبت الأرض وارتفعت الأهرام وأمرعت الحضارة.
غير أنه لسبب لا يزال مجهولا تخلى النغم عن الطائر وتلبث بالجبل، فغدا الناس يحسون نحوه بعواطف تختلف بين الحب والإجلال، فيجعلون مرة من وجه الحجر إلها، ومن حرمون إلها، ثم يغمرهم هذا الانسجام الشائع في أنحاء لبنان، فإذا هو «من مرمى الثلج إلى فقش الموج» إله في نظر القوم، يحفظهم ويغدق لهم ويروي ما في نفوسهم من شوق إلى الجمال.
وتشهد «أفقا» كل يوم أن النغم لا يزال متحفزا ليحل من جديد في قلب فتى من لبنان يتوفر له ما توفر لآدونيس من فطرة طيبة وشغف بالجمال، وحينئذ يغمر الحب بفيضه الدنيا ويغلب الحديد ويغلب النار، ويعود إلى الجبل سالف عهده من العز.
طليق وسجين
هذا عتيق التقط صغيرا في عشه، ونشأ في هذا القفص الخشبي وتلقن الغناء من أشهر عتيق في الجوار، وكانت الأيام والليالي تنقضي وهو ناعم البال ينظر من خلال قضبان قفصه فيقع بصره على بستان صاحبه، ثم إذا سرح البصر بعيدا لا يرى من الدنيا غير هذا الجبل القائم هناك في الناحية الثانية على ضفة الوادي.
ولشد ما كان يعجب عندما يسمع من بعيد تجاوب غناء الحساسين في الحقل، أو عندما يرى حسونا بريا يقع من السماء على الشبوق المنتصب في طرف البستان.
أين تعيش هذه الحساسين، ومن أين تأتي بالقنب، ومن ترى يقدم لها قدح الماء؟
وذات صباح بكر صاحب العتيق فعلق القفص ومضى لشأنه.
وما هي إلا أن وقع حسون على رأس الشبوق. - مرحبا، عم صباحا! - أهلا وسهلا! من أين أنت آت؟ لقد سرني كثيرا أن رأيتك تسقط من أيام على هذا الشبوق فترسل أغنية ثم تذهب عندما ترى صديقي صاحب الدار، قل لي لماذا ذهبت؟ - بل كيف صرت أنت إلى هذه النهاية، ومن وضعك في هذا السجن؟ - في هذا السجن! أين ترى السجن؟ - أين أراه؟ وما هو هذا المكان الذي تعيش فيه، أليس هو سجنا؟ - من قال لك ذلك؟ هذا هو بيتي لا أذكر إلا أني وجدت فيه منذ ما وجدت، إنه جميل وأنا فيه أنعم بجميع ما أحتاج إليه من طعام وماء، وأغني على هواي ساعة ما أشاء، كيف! أفليس لك أنت منزل جميل مثله؟ - كلا. - مسكين أنت! ومن يقدم لك القنب والماء؟ - أنا لست بحاجة أن يقدمهما لي أحد. - أفليس عندك قدح مثل هذا تشرب منه؟ - كلا. - مسكين أنت! إن قلبي لينفطر ألما على مصيرك! أوما لك صديق يملك مثل بستان صديقي؟ - كلا. - ما أتعسك! كيف تشرق عليك إذن هذه الشمس؟ - إنها تشرق ... - عجبا لها ولك! - عجبا! - إنني حزين من أجلك، أفتحب أن تكون معي، وأن يكون لك منزل مثل منزلي وبستان صديق مثل بستان صديقي؟ دعك عندي.
فارتفع حسون الحقل في الهواء، ورسم في القضاء دائرة كبيرة، ثم عاد فنزل من جديد على أعلى غصن في الشبوق وأرسل أغنية فيها أنين من خرير السواقي، وألوان من شعاع الأصيل، ورائحة من زهور الحقل، وعمق من أغوار السماء.
فبهت حسون القفص وقال: من علمك هذا الغناء؟ - علمنيه الفضاء الرحب والربيع الطلق، علمتنيه الينابيع والسفوح والغابات، وترنمت به على مسمعي أعالي الجبال والسهول والأوداء، علمنيه بيتي أنا. - وهل يحسن غيرك هذا الغناء؟ - جميع الحساسين. - وهل لهم كما لك أنت، بيت فيه جبال وسهول وسفوح وينابيع؟ وهل هذه الأشياء التي ذكرت تعلمهم هم أيضا الغناء؟ - إن بيتي هو بيتنا جميعا، هو بيتك أيضا. - إنك لتهزأ مني وتذكر لي أشياء لا وجود لها. - ماذا! أفلا تعرف الفضاء؟ - كلا، فما هو الفضاء؟ - انظر إلى فوق من خلال قضبان سجنك، إن بصرك ليظل دائم الانطلاق، هذا هو الفضاء، مسرحنا نحن أهل الجناح، ومسرح الطيب والنسيم، مسرح النور، مجال الشمس والقمر والنجوم، نطير حتى نتعب ولا نصل إلى آخر الفضاء، ويسري الطيب حتى يتجاوز الغمام ولا ينتهي إلى حد ويسيل الشعاع ولا يعرف أحد أين ينفذ الشعاع، الفضاء قرار أغانينا وما أبعد وأعمق هذا القرار! أنا لا أعرف أبعد غورا منه غير فؤادي عندما تقف الحسونة على شمخ البلوطة في أوائل الصيف. - لا أفهم ما تقول! - وهل تعرف الينابيع؟ إنك لا تعرف الينابيع، عندما ينظر الجبل إلى السنابل والأزاهير أيام القيظ تنطلق المياه من صدره فتخضوضر السهول، وينبت العشب في السفوح، وتجري المياه مرنمة بيضاء نقية فوق الحصى. ونشرب نحن، نشرب أغنية الماء وهيام الجبل، ونرف نحن فوق الزهور فتعطر أطيابها حناجرنا. ثم نأوي إلى الغابات، إنك لا تعرف ما هي الغابات، ولا ما هي الظلال، ولا ما هو تمايل الغصون وحفيفها، الغابات بما فيها من ظلال وحفيف وتمايل هي ألف نغم في نغم، وألف صلاة في صلاة، وراحة جامعة، حركة دائمة وغناء دائم، هي عالمنا في الليالي تنسكب روحها في صدورنا وتنتشر مع أغانينا.
فتعال ... تعال معي! - أف لك، ما إخالك إلا محدثي عن عالم لا وجود له إلا في خيالك، إن هو إلا شوق في أعماقك تتصوره حقيقة، ورغبة تحسبها واقعة، ولو أن لك مثل ما لي وكان عندك مثل ما عندي: بيت وقنب وفير، وقدح ماء، وصديق يعتني بك، لما كان لهذه الأشياء التي سميتها فضاء وينابيع وغابات وسهولا وجود، فأقم أنت عندي، إني لأبعد بالواقع منك مراسا.
فأطرق حسون البر ثم نظر إلى صاحب القفص، وقال: أفليس لك عينان وأذنان؟ - بلى، ولكنك أنت ترى بعينيك ما لا وجود له، وتسمع بأذنيك أصداء ما يختلج بصدرك، إن جوعك وعطشك هو الذي يمثل لك هذه الصور.
فضحك حسون البر طويلا وانطلق في الفضاء يملأ عينيه بالنور والألوان، وأذنيه بالأغاني المتصاعدة من كل حدب، ويشم مواكب الطيب الهائمة عند الأفق.
ومرت الأيام والليالي، وأتيح لعصفور القفص أن ينطلق يوما، فأمعن طيرانا في فضاء هاله منه أنه لم يصل فيه إلى حد، وسقط على غاب ارتاع لعظمته، فلم ينعم منه بظلال ولم يأنس إلى حفيف، ومر بينبوع فما استساغ مذاق مائه، وقفل في المساء راجعا إلى قفصه.
الشاعر والشيطان
كان الشاعر يترك المدينة في فترات متقطعة من الزمن ويعود إلى قريته القائمة في السفح المطل على «الجعماني»، ويقضي أيامه في الجبل متنقلا وحده في الحقول المجاورة للقرية يأنس بالطبيعة إيناس غيره بالناس، ويحس أن نفسه تكتنز جمال الصخور الجرداء وعطور الأزاهير وهواء الصنوبر والنسمات النقية المتدحرجة من أعالي الجبال المعممة بالثلج.
وكان يستهويه، أكثر ما يستهويه، مكان هنالك في الوادي يقال له البربيصة ذكرت له حكايات جدته وهو بعد صغير أنه كان آهلا بالجن، يتنقلون بين أجباب البربيص، يهزأون من المارة ويروعونهم، وإن قبائل الجن هذه ترحلت بعد أن شيدت الكنيسة وراح صوت الجرس يدوي صباحا ومساء في الوادي.
غير أن نساء القرية ما زلن حتى اليوم يشددن على أولادهن ألا يتوغلوا في البربيصة إذا ما ذهبوا لنزهة أو للعب، ويضرعن إلى شبابهن ورجالهن أن يجتنبوا المرور ليلا في تلك البقعة الملعونة. ومن يدري، لعل بعض الجن ما يزالون يحنون إلى هذا الوطن فيعودوا أو يعود منهم واحد إليه ساعة التخلي، أليس أن الأب يعقوب شاهد من زمن غير بعيد في محل من هنالك جنية ملتهبة الرأس تقيم في جب من السنديان فهزأت منه، وكادت تخرجه عن رصانته لولا أنه استعان عليها بالصليب؟
والجبل في مقابل البربيصة ينبثق من الضفة الثانية على شكل حائط جبار، كأن أيدي الجن قد رفعته من حجر واحد، وحفرت في وسطه مغارة توصل إليها طريق ضيقة منحوتة في الصخر يكاد لا يحسن سلوكها إلا من يقلد الجن مشيا وخفة.
في تلك المغارة المتسربة بعيدا تحت الأرض من ناحية الشرق كان يجلس الشاعر، يرتل قصائده ويسبح بعد أن تستحم نفسه بالجمال المتدفق من روعة الأساطير ومن رهبة المكان.
وفيما هو يردد يوما قصيدة له تتغنى بنور لا يغيب، أجمل وأروع وأبقى من جميع أنوار لبنان في إصباحه وعشاياه، إذا في مدخل النفق من المغارة شخص تقوم جثته على ساقين قصيرتين من فوقهما بطن ضخم يكاد أن يكون مستقلا بذاته منفصلا عن الجسم، وتتصل بمنكبيه ذراعان قصيرتان في طرف كل واحدة منهما يد سميكة مجزوءة الأنامل تستريحان على سطح البطن، وتحمل هذه الجثة الشوهاء رأسا كبيرا أقفرت ناصيته من الشعر، فظهرت الصلعة حمراء كأن نارا قد لوحتها، له عينان يقدح منهما لمعان أسود، وتسترسل من تحت الخدين الناتئين لحية اختلط أسودها بأبيض وسخ، قال القادم: أنا الشيطان.
فتذكر الشاعر الأب يعقوب، ثم فكر أن يصمد لهذا اللعين: وأنا إنسان من هذه المحلة أحب الجمال وأحب ... - لا تتعب نفسك! أنا أعرفك جيدا وأعرف أباك وجدك وجد جدك، قوم طيبون، ولكنكم فقراء، لم يخلف لك أهلك غير اسم عريض، ولكنك تفضل آباءك في أشياء كثيرة.
وانفرجت شفتا الشيطان عن ابتسامة ساخرة: - أنا مسرور منك، لقد رأيتك من زمن تحت، في منعطف الوادي عند الجسر مع صبية حسناء، ما أجملها! ما أجملها! أي وحقي، أنا مسرور منك، ورأيتك مرة في ليلة قمراء على سطح يشرف على البحر، لقد كنت قبالتكم في الماء، وكنت أنت ترقص في لباس أسود أكيس ما صنع الإنكليز، إنك تحب النساء وتحب الترف، فأنا مسرور منك، ولقد فكرت أن أعينك على أمرك شرط ... - شرط ماذا؟ - شرط شيء بسيط، شرط أن تساعدني أنت، سمعتك منذ هنيهة تتغنى بنور لا يغيب، أروع وأبقى من أي نور، وإنك لتحس خصله تشع في أعماق كيانك، فأنت من أجل ذلك إنسان، والذين يشعرون بتألق هذا النور يرتفعون ويرتفعون إلى أبعد من هذه النجوم ... فاسمح أن أمد يدي إلى قلبك، وأن أتلمس خصلة واحدة منه، وأنا أعطيك بعدئذ ما تشاء، إن بوسعي أن أعطيك ما تشاء ... لقد كنت أعرف هذا النور، بل كنت أنا نورا ثم أضعته، وأنا منذ ذلك الحين أفتش وأفتش فلا أراه، يمر أمامي فلا أراه، وأحس أنه في قلبك، في قلب الإنسان الحق، ولا أراه. - مع أن كثيرا من الناس، بل أمما منهم تجندوا لك ووهبوك أنفسهم. - نعم، ولكنهم ما كانوا يتجندون لي ولا يدخلون في عداد جيوشي إلا لأن ليس عندهم شيء من هذا النور، فهم أعرق في الشيطنة مني، لا لذة لهم إلا في أن يعذب بعضهم بعضا، أفلا تسمع بما يحدث اليوم في أوروبا والشرق البعيد؟ أنا مرتاح، مرتاح جدا، فهؤلاء الأقوام قد فقدوا النور، وها هم يتخيلون في سبيل التنكيل بعضهم بالبعض الآخر ما لم يخطر لي ببال بعد أن مرغوا إنسانيتهم في الوحول؛ لذلك تراني مغتبطا، ولكن لذتي هذه إنما هي لذة سلبية لا تروي عطشي، فإذا رضيت أنت أن أمد يدي إلى قرارتك وأنتزع منها خصلة واحدة من ذلك النور، أغدقت إليك النعم. - إذن فأنت تقترح أن تعطيني ماذا؟ - ما تشاء من النساء، ملكات، وأميرات، وقرويات، انظر ...
ونظر الشاعر إلى الطريق المؤدية إلى المغارة فإذا هي مفروشة بالحرير الأبيض، فوق أكداس من سجاد بخاري وتبريز وأصفهان، وإذا رتل من الصبايا بينهن كل النساء اللواتي أحبهن، وقد ظهرن بروعة لم يعرفها لهن من قبل، يغنين بألحان ما خطرت على قلب «فغنر» ولا مرت ببال «ليست» ولا رفت على ظن «رافل». ولكنه تذكر وجه امرأة كانت تنسجم نفسها مع نفسه حين كان يرتل لها شعره، أو حين كانت تنظر وإياه في لوحة من لوحات الفن، أو حين كانت تقف بصحبته أمام عيون لبنان وجباله وغاباته، أو حين كانت تسمع معه أنغام روائع الموسيقى النابضة بالحياة، فإذا هما يحسان نعيما لا يماثله نعيم مما يشترك فيه التراب والشكل. ولم ير لهذه الحبيبة وجها في رتل صبايا الشيطان الصاعدات، فعرف أنهن لن يستطعن أن يعطينه شيئا من تلك الغبطة التي كان يشعر بها مع حبيبته، وأنهن لن يقوين على منحه غير ما يقوى على منحه الشكل والتراب، وأنهن لن يتصلن بروحه، فأشاح بوجهه وقال: وغير هذا يا شيطان؟
فانهارت الرؤيا واندفعت من السفح نحو الوادي حيث موطن الجن القديم حجارة تركت في الهواء رائحة كبريت وغمامات دخان.
ونظر الشيطان كئيبا إلى وجه الشاعر فإذا عليه مسحة من جمال وتباشير من فرح عميق، فقال: وما رأيك بأن أقطعك ما تشاء من الأرض وأشيد لك القصور في مغارب الأرض ومشارقها، فلا تغيب الشمس عن ممتلكاتك، وأعمر خزائنك بالمال فتعطي وتنفق وتقتني ما تشاء من سيارات وطائرات، وتأمر ما بدا لك من خدم وحشم، وتملأ مقاصيرك وجنائنك بآثار الفن؟
قال الشاعر: وما شأني وجميع ذلك وأنا يشبعني رغيف ويروي عطشي قدح ماء بارد؟ لقد عرفت الأغنياء فما رأيت أن الثروة تزيد في قيمهم الإنسانية شيئا، بل وجدت الذهب والماس يشغلانهم عن الغايات البشرية ويحولان بينهم وبين المعرفة والجمال، ويثيران أحقاد المحرومين، الذهب! لقد صرف الذهب الإنسان عن الإنسان وجنده ضد أخيه وسخر عقله، هذا العاقل الذي تشاركه - أيها الشيطان - فيه، والذي إذا نظر إليه على ضوء النور العميق ظن أنه من صنعك لا من صنع الله، هذا العقل ابتدع الجنسيات والقوميات واخترع الآلة، ووضعها سلاحا رهيبا في خدمة الشر. - دع عنك المزاح وعد إلى رشدك، واغتنم فرصة لن تسنح لك مرة أخرى، فأنا لن أقف نفسي على رعايتك طول العمر. - إنك تريد مني قبسا من هذا النور العميق، وأنت تعرف أن ما من أحد يستطيع أن يعطيكه، والذين أخذوا بحبائلك من إخواني البشر وقبلوا المقايضة فقدوا النور، لكنهم لم يقدروا أن يعطوك منه أي شعاع ضئيل، فأنت إذا كنت تستطيع أن تعطي فليس بوسعك أن تتلقى الخير والنعمة. - إلى أي شيء تراك تطمح؟ إن هذا العقل الذي تثور عليه والذي تفضلت بأن جعلتني فيه مشاركا للإنسان هو الذي شاد هذه المدينة الغربية الرائعة التي تتملق كبرياء البشر. - إن الإنسان ما زال كلما انساق بسبب ضعفه لغوايتك يفقد النور ولا يبقى له دليل غير هذا العقل الذي تشاركه أنت فيه، ويفقد إنسانيته، أي: نزوعه بحب دائم وإلحاح مستمر إلى الحرية. ومن هنا هذه المدنيات الشوهاء القائمة على الحديد وعلى الشكل، ومن هنا هذه الأنانية التي حلت محل الحب في قلبه، ومن هنا أن كبار الفلاسفة قد ماتوا فعلا، ومن هنا أن سلالة المصورين العظام والموسيقيين العظام والشعراء العظام قد انقطعت، وحل محلهم مدارس في الرمزية والتأثرية هي من ألاعيبك أنت، وفي التصوير المكعب وهي من أحاجيك. - وما حيلتك أنت - أيها الأبله - في جميع ذلك؟ ألا تشعر أن التيار يمر فوقك صاخبا مندفعا، وأن لا حيلة لك بوقفه؟ - ومن هنا أيضا - أيها الشيطان - أن هذه المدنيات القائمة على عقلك وعقول الناس إن هي إلا مدنيات جافة جوفاء لا زاوية فيها للروح وللحب المتصلين بينبوع النور الأزلي، ومن هنا أيضا أن وجود الآلة ولمعانها وكمالها وقدرتها على رفع الحجر شامخا عاليا في وجه السماء وارتفاعها هي إلى أعلى مراتب الجو وتحدرها إلى أبعد الأعماق، لم يخفف من الألم الذي ما يزال إخواني البشر يتخبطون في ديجوره. - فتعال إذن وسر في موكب الناس، واستعن بالأنانية لإبعاد الألم عنك. - كلا، إن ذلك لن يفيدني شيئا، فالنور الذي يتألق في أعماقي وتموت أنت حسرة عليه، لو أنك تموت، يجعلني أحس أن قلبي مسرح للإنسانية جمعاء. إن كل جرح في جنب كل جندي جرحي أنا، وكل يد تمتد مستعطية يدي، وكل بؤس بؤسي، وكل حرمان حرماني، وكل ثكل ثكلي، وكل يتم يتمي، وكل بكاء بكائي، وكل جوع جوعي، وكل جهل جهلي. فأنا شريك الإنسانية بآلامها، ولن يهدأ لي بال ولن يستقر لي قرار ولن أطمئن إلى نعمة حتى تهتدي إلى طريق الحق، إلى طريق الخير.
فأرسل الشيطان ضحكة خبيثة ساخرة، وسأل: وكيف تحقق هذه الأعجوبة أيها الصغير العمي؟ - بالحب، وبالحب وحده، بالحب الذي يجب أن يظل عماد العقل ورائده، فنحن هنا في لبنان، على الرغم من سخريتك، في بلاد الرسل والأنبياء والآلهة، نحن في بلاد الحب، وستكون رسالتنا أبدا أن نغذي البشرية من معينه، ونذكرها بكرامتها، ونسير أمامها في طريق الخير.
فإذا قرون طويلة تنبت في رأس الشيطان، وأظافر فولاذية تمتد من أطراف أصابعه، وإذا لهب يتدفق من فيه وأنفه، وإذا به يهجم على الشاعر فيغرز فيه قرونه وأظافره ويغمره باللهب، وإذا أغنية تشيع في الأجواء: ما بدا لك أيها الشيطان، فلن تقضي على سلالة حملة المشاعل في لبنان ولا على رسالة الحب.
ملكرت
بين الآثار التي اكتشفها العلماء أخيرا في رأس شمرا مذكرات شاعر نقتطف منها هذه الصفحة، قال:
أشهد أني ما حلمت قبل حلما كهذا، فقد كنت أسير على الشاطئ ميمما صور، وإذا أمامي فتى مديد القامة، أسمر الوجه، رقيق العينين، أسود الشعر مسترسله، عريض الجبين، مفتول العضلات، متناسق التركيب، دقيق المفاصل، صغير القدمين، طويل الأنامل، متمنطق برداء أرجواني، تشع القوة والأناقة والعزم منه، فبهت لمرآه وأخذت أحدق إليه بشيء من الإعجاب والتساؤل: من عساه يكون هذا البطل؟ ألعله ملك من ملوك الساحل أو قائد من قواد مصر العظام، أو لعلني أحلم ...؟ وتقدم الفتى نحوي مبتسما، وقال: أنا ملكرت. - ملكرت إله البحر؟ رب الموج؟ ... ملكرت أسطورة جميلة، خلقتها مخيلة أجدادي، ملكرت طيف حلو رائع، لا شيء إلا طيف، فكيف تكون أنت ملكرت؟ - أنا ملكرت معبود أجدادك، أفلا ترى أنهم كانوا على حق في ما يعبدون؟
أنا أسطورة، وأنا جميل ورائع وقوي؛ لأني أسطورة.
أنا حلو أزلي أبدي؛ لأني طيف.
تتراكم الحوادث على مخيلة البشر في هذا الشاطئ الجميل، فتعصف الأيام وتكر فتمحوها، وأبقى أنا طافيا معتصما بشراعي أملأ ذكرياتهم وأترنح في صدورهم وأتردد على أفواههم كلما نظروا إلى هذا البحر، وكلما خفق شراع أو تهادى مركب. - أنت ملكرت ... أنت إذن ملكرت.
وأحسست أن إيمانا قديما يستيقظ في داخلي بعد أن رقد آلاف السنين: وأين أنت اليوم؟ أين أنت؟ ... لا يراك أحد ولا يسمع صوتك أحد، لقد تناساك بنو قومي كأنك ما كنت، وكأنك مت مع من مات وفنيت مع من فني، وكأن لم يخفق لك شراع ولم يزحف لك مركب على ماء.
فضحك الفتى حتى هاج البحر وماج واقتحم الرمال وتكسرت أمواجه عند قدميه وقدمي.
أنا هنا كل يوم لا أبرح شواطئ بلادي، أحرسها ليل نهار.
أنا هنا في خواطر الناس، في صدرك وصدورهم.
أنا في النور المتدحرج مع الفجر على القنن والأوداء.
أنا في الماء المتدفق من الينابيع، المهرول نحو البحر.
أنا في أغصان الأرز والصنوبر والشربين المرتفعة المتمايلة في الهواء.
أنا في أرج الزهر وفي سنابل السهل.
أنا هنا، عبثا ينساني أو يتناساني الناس؛ فسأظل الهادي، وسأظل الطريق، وسأظل الخير. - تباركت من نعمة ومن محبة ومن خير!
ورأيتني أتفهم سبب الشوق الذي يغمرني ويدفع بي نحو النور والينابيع والأغصان والجبال والأوداء، وأسمع الصلاة الصامتة التي تتصاعد من أعماقي في خشوع وإيمان ورهبة كلما نظرت إلى هذا الجبل، أو كلما لمست ترابه وعببت من ينابيعه وأصغيت إلى أنغامه، أو كلما رميت بنفسي في أمواه بحره. - تباركت ملكرت إله البحر، تباركت طريق المعرفة، تباركت، تباركت.
فابتسم الفتى ورفع يمينه في حركة من يبارك وقال: لقد خلقت لكم البحر أهل بلادي، وأنتم منذ ذلك العهد وعيونكم أبدا إليه وقلوبكم ممتلئة منه، قد تعتصمون في الجبال وتنفخون الحياة في الصخور، ولكنكم تتطلعون إليه وتنزلونه وترفعون فوقه الأشرعة وتباركونه فكأنكم منه، من قطراته، وكأن نفوسكم مكونة من زرقته.
إن بينكم وبينه لنسبا؛ أي أثر ترك لكم بعل، وأي مأثرة خلف لكم؟ لقد تناسيتم أدونيس وعشتروت، فهلكا تحت غبار السنين، أما أنا فقد خلقت لكم البحر فدخلت إلى قرارات نفوسكم، وتغلغلت في أعماقها الخفية، وعبثا تنسون اسمي وتعبدون آلهة غيري، فأنا الحي الذي لا يموت في ضمائركم وضمائر بنيكم ما دام هذا البحر الذي تراه هنا ينسج أحلامكم، ويصقل عقولكم، ويفجر عواطفكم، وإنها لحكاية طريفة تلك التي حدتني أن أخلق هذا البحر، فأكون أمة وأميزها من سائر أمم الأرض على كر العصور.
كان رفاقي الآلهة قد اقتسموا ملك الطبيعة، فإذا هنالك إله الخير وإله الشر والحرب، إله السماء وإله الأرض، إله الجحيم وإله الحكمة، إله الرقص والفنون الجميلة، إله البرق والرعد، وإله النجم، وبقيت أنا لا مملكة لي ولا عمل.
أقضي أيامي متنقلا في ممالك رفاقي وقصورهم وجنائنهم.
أغازل الإلهات وأنعم بجمالهن.
وأحتسي الخمر لاهيا عابثا.
وأرى الناس يعبدون رفاقي ويقربون لهم القرابين استدرارا لخيراتهم أو دفعا لشرهم ...
وأمر فلا يحسني أحد ولا يعبأ بي، وذات يوم بينا كنت أتلقن أصول الحكمة من فم «مينرفا» متنقلين فوق جبال لبنان، هبت من ناحية الصحراء عاصفة واندفعت الرياح تزمجر وتولول ثم عصفت في ردائينا وأخذت تدفع بنا بعنف، وكادت أن ترمي بنا من شاهق لولا أننا تخلينا عن الردائين.
فحملتهما الرياح إلى بعيد ورمت بهما في الوادي السحيق الذي كان ينخفض عند أقدام الجبل الأشم.
ولما هدأت العاصفة كانت فكرة الشراع قد انبعثت في خاطري واكتملت.
ومرت على ذلك عصور طوال وأنا أنظر إلى جهد الإنسان وعنائه، وإلى محاولاته الفاشلة في قطع الهوة العميقة التي تفصل لبنان عن البلدان الغربية النائية، فأشفقت عليه، على ضعفه إلى جانب ما ساورني من إعجاب بعناده وصبره وجلده. وقلت في نفسي: سأبسط هذه الهوة وأسلمه الشراع، وأخذت سوطي ورحت ألهب السحاب فتدفقت قربه، وضربت سفوح الجبال فتفجرت الينابيع وكرت الأنهر وزحفت المياه متساقطة في الوادي العميق.
وأنا أنظر مغتبطا وأزداد همة في حث السحاب واستدرار خزانات الأرض.
فما يسمع إلا قصف صوتي وإلا وقع قدمي وهما تحطمان الصخور وتغوصان في الأرض وتشقان السفوح.
ولقد ظن الآلهة أنني جننت فتجمعوا، وأخذوا ينادونني ويتلطفون إلي خشية على الأرض من فيض السيول.
وراح كل واحد يعرض علي أن يتخلى لي عن ملكه .
فما باليت بهم ولا بعروضهم، بل مضيت في عملي إلى أن ملأت الهوة. فأمرت السحاب أن يرتفع فارتفع، والسيل أن ينقطع فانقطع، والينابيع أن تتمهل فتمهلت، وصحا الجو وأشرقت الشمس على البحر الذي أنا ربه.
وظل الآلهة طويلا يظنون بي مسا من جنون، وهم لا يدركون قيمة الزوبعة أحدثتها تلك العاطفة التي جاشت بي، ولا مدى أثرها على مستقبل البشر.
ونظرت بعد أيام إلى البحر، فإذا مياهه تتموج بيضاء صافية، فمددت يدي إلى السماء وأخذت قطعة منها وعصرتها في اليم، فإذا سماء ثانية تكتنفها الأرض، وإذا في قدرة البشر أن يتلمسوها بأيديهم.
وخرجت بعدئذ إلى الناس كواحد منهم، ومضينا إلى غابات الأرز، وأنشأنا أول مركب رفع فوقه أول شراع وركز أول مجذاف، وجريت وإياهم فوق اليم.
منذ ذلك الحين والأشرعة تروح وتجيء فوق بحري بالخير والبركات. - تباركت ملكرت إله البحر، تباركت ملكرت.
وتوارت الرؤيا.
الكلب المجنح
كل سنة في الثلاثين من أيلول يسمع سكان نبع الصفا عواء ينحدر بين الصنوبر والأدغال قادما من ناحية النبع، تردده الأصداء وتتناقله الأوداء، وتظل كلاب الجيرة بعد ذلك أياما لا تنبح ولا تهر في وجه فقير، كئيبة حزينة تتلفت ناحية مصدر الصوت، فتسرح بنات آوى في تلك الفترة وتمرح يقينا منها أن كلاب الحي لن تتصدى لها بسوء، ولن تجري وراءها، ولن تعكر عليها صفو الصيد، أما الدواجن فتأوي قبل الغياب مزاربها لعلمها أن الكلاب لن تدفع عنها ضيرا، ولن تقيها الغزاة إذا ما قدموا بأظفارهم وأنيابهم.
قالت لي عجوز: بقي هذا السر مكتوما والناس يتأولون فيه، إلى أن كشف عنه ساحر من بلاد الشرق البعيد، كان يتنقل في تلك النواحي، فاتفق له أن حط ركابه في أواخر أيلول في الصفا، وكانت الليلة قمراء تغمر الفضة أعالي الصنوبر والشربين وتفرش الأرض، والنبع يغني أغنيته الأزلية في ذلك الوادي وينحدر متألقا حينا تحت ضوء القمر، مختبئا حينا في عتمة المنحدرات كأنما تسبح فيه ألف حورية بيضاء إلى جنب ألف مارد أسود.
قال الساحر: ولست أدري ما حداني أن أزور النبع تلك الليلة، فقمت إليه سالكا الضفة الشرقية من النهر حتى بلغته، فإذا هو يتدفق من تحت صخرة عريضة ويتجمع في غبيط قبل أن يكر كرته الكبرى، وإذا قبالته صخر كأنه مقعد من فوقه رفرف، فتمددت هناك أتأمل الماء والنور وتألق مجديهما. وبينا أنا على هذه الحال سمعت في الماء حركة غريبة، فالتفت فإذا مياه الغبيط تنفرج، ويقفز منها فتى بهي الطلعة حلو الملامح، موشح برداء قرمزي مؤتزر بزنار أبيض، وقفز معه كلب أنقى بياضا من ثلوج الباروك.
ويستوي الفتى فوق الصخرة العريضة الممتدة فوق النبع، ثم يلتفت الكلب ناحية القمر من السماء ويرسل عواءه الحزين الكئيب الطويل، فإذا بي أحس بكاء في الفضاء، وأسمع بكاء في أوراق الصنوبر، وبكاء ينحدر من أشجار الأرز الجاثمة هناك بعيدا فوق أعلى الجبال، وبكاء الصخور وارتعاشا في الأعشاب. ثم يحني رأسه فيربت الفتى على ظهره ويدور ناحيتي، فأقف مرتاعا وأحييه فيرد التحية ويقول: هي أول مرة منذ مئات السنين أرى فيها وجها لإنسان، ولطالما حننت إلى محادثتكم أنتم البشر من غير أن أدرك هذا الحنين، لقد كنت أميرا من الجن مؤمرا على هذه الناحية من البقاع، حتى وطئها إخوانك من الناس وأفسدوا علي الإقامة، فأويت إلى هذا النبع، أقطن مع عشيرتي جوف الأرض في مغاور النبع وجيوبه، لا أخرج إلا مرة في السنة مع كلبي هذا، فإذا متع عينيه بالقمر ونوره ونبح في وجهه نباحه، عدت وإياه من حيث أتينا.
قال الساحر، وهو المؤالف للجن وأحاديثها: لما رأيت هذا الأمير من الجن يحدثني بمثل هذه البساطة روح عني وعاد إلي روعي واجترأت على السؤال: وما قصة هذا الكلب الذي تخرج به كل سنة مرة من مملكتك تحت الأرض لينبح في وجه القمر؟
قال: أتاني هاربا من الناس القاطنين على ساحل البحر وانضم إلى فصيلة كلابي، غير أنه ظل فريد المسرى دائم الاكتئاب، تمر الطير فيرمقها بنظر حزين، وتشدو فيصغي إلي غنائها والدمعة في عينه، وتظهر الضبعان فلا يهم في أثرها، ولا يكشر عن أنيابه ولا ينبح، يربض إذا ما سجا الليل على صخرة من هذه الصخور، ويروح يتأمل النجوم البعيدة، ولولا أنه كان يهر في وجه القمر إذ يطل من وراء هذه الجبال لما خيل كلبا من الكلاب.
جاءني يوما متبرما: أف لهذا العيش! إننا نحن سلالة الكلاب لأقل حظا في الدنيا من سائر المخلوقات، فالإنسان الذي يحسب أنه سيد هذا الوجود، ما دب على الأرض وما ارتفع فوقها من نبات، وما اختلج في صدرها من كنوز وما تدفق من ينابيع، وأنه هو وحده صاحب العقل، وأن إنسانيته شيء من كنه الآلهة؛ لأقل وفاء من الذئاب.
لقد صادقناه نحن جماعة الكلاب ووفينا، وصرنا له عونا على سائر الضواري والجوارح، نحمي دياره وقطعانه، وندله على مكامن الطير إذا قام يسعى لصيد، ونصد عنه عدوان شقيقه الإنسان، وها هو يستعبدنا، ها هو يقيدنا بالسلاسل ويطعمنا من فتات مائدته، له اللحم ولنا العظام، يغضب فينتهرنا من غير أن نكون سببا في إغضابه، ويفرح فلا يصيبنا منه غير الرفس.
والطبيعة أيضا لم تنصفنا، ولست أدري أيحس إخواني الكلاب ما أحس من الظلم، أم تراني وحدي أشعر بالإجحاف الذي منيت به وفصيلتي، نحن إذا شئنا المسير من مكان إلى مكان تحتم علينا أن نقيس مدى الأرض الفاصل بينهما مشيا على الأربع، فلا بد من صعود التلال، ولا بد من هبوط الأوداء، فإذا قام بين المكانين حائط مرتفع، تعذر علينا الوصول أو اضطررنا إلى سلوك طرق ملتوية تضاعف المسافات، في حين أن الطير تستطيع أن ترتفع في الهواء، وأن تسلك أخصر الطرق إلى مزارها، ونحن لا نستطيع أن نتسلق شجرة ولا أن نترجح على غضن بينا من الحيوانات من تقوى على ذلك وتستطيبه.
ونحن إذا نطقنا فنباح لا تتغير وتيرته ولا تعذب رنته ولا يرق قراره: مقاطع واحدة للطلب والإعراض وللتشكي والتشكر، ولولا هزة الذنب لما استطاع واحدنا أن يعلن عن غبطته، وأنت، يا أميري، لو لم يكن لك بعض خصائص سليمان - عليه السلام - لما تمكنت من فهم ما أشكو إليك.
أما منظرنا فمن أين لنا ذلك الريش الصقيل وتلك الألوان اللماعة البهية؟ من أين لنا مد الجناح ورفع الذيول؟ وكيف نطال هذا الجو الفسيح ونحن نكاد لا نجرؤ على القفز من فوق حائط؟ وأنى يكون لنا مجاورة النجوم ونحن لصقاء الأرض لا نقدر أن ننفصل عنها ولو بمقدار علو الشجرة؟ نعم، إن الأسد لا يطير، والنمر لا يجاور النجوم، وابن آوى لا يحط على الماء، ولكن للأسد صولته، وللنمر هيبته ورهبته، ولابن آوى حريته.
فليت لي يا سيدي جناحي النسر قوة، وصوت الكنار حسنا، وألوان ذنب الطاووس، فأتغنى وأتمايل وأدل وأذهب حيث يطيب لي المقام، أشرب من رءوس الينابيع ما أستعذب من مياه، وألتقط، إذا شئت، الندى المتساقط على أوراق السنديان، وأطلب ما أستسيغ من طعام وساعة ما أستسيغ، ثم أجرر ذيلي على قنن صنين وضهر القضيب والباروك، وأمر عاليا بعيدا فوق الحرمون، ويظل خيالي الناس عندنا أرتفع إلى جوار الشمس.
فرق قلبي ورحت أهون عليه: دع عنك هذه الأماني، وخل الوهم، فأنت لو صرت إلى ما ترغب في أن تكون لحننت إلى ما أنت فيه. - هذه يا أميري أحاديث إنسان. - وهب ذلك، أفتراك أعلم منه وأقدر على فهم الحكمة؟ - لا، ولكني لاحظت أيام كنت في خدمته أنه متى عجز عن تحقيق الأماني، أو متى أرهقته نازلة، عاد إلى هذه الحكم الهينة، يسلي نفسه ويروح بتردادها كربته، فهو لا يسلم بالقدر إلا إذا لم يوفق في رغائبه، أما إذا وفق فليس للقدر ولا للرب الذي يعبد في توفيقه شأن ولا إرادة ولا تدخل.
أفتريدني كالناس يا مولاي؟ إني لست في حاجة إلى من يهون علي، أنا أعرف أن الطبيعة أساءت إلينا نحن، معشر الكلاب، وأعرف أن لا حيلة لي في التبرم بالطبيعة، فما هي حاجتي بعد للقول إنني متى صرت إلى ما أشتهيه أسفت على ما كنت فيه، ووددت العودة إليه؟ ليبق إذن شوقي إلى حالة أمثل يحز في نفسي إلى ما شاء، فلن يظفر مني بإذعان للقدر ولا بتسليم، وسأظل حانقا على هذه القوة التي خلقتني كلبا، ولم تخلقني طائرا أو سبعا أو نمرا. - ولكنك تجدف وأنت حري بأن ترجم، أفلا تخاف سوء المصير؟ - وكيف أرهب؟ إن هذه العوالم إذا صح زعم الإنسان ليس لنا فيها محل، فنحن وسائر الضبعان والطيور لا ينتظرنا بعد هذه الحياة نعيم، ولا يهددنا جحيم، يقول الإنسان: إن أرواحنا تنحل مع أجسادنا، فنحن تراب كلنا وإلى التراب كلنا، وسيان أدفعت الكلاب ضيما عن مخلوق، أو ألحقت به الشر ومزقته بأنيابها وهشمته، فهي إذا استطاعت النجاة من عقاب الناس، فلن يلحقها بعد ذلك عقاب. أفعلمت لماذا أريد أن أكون طائرا قوي الجناحين حلو الطلعة، أحقق نعيمي هنا وأهرب من جحيمي هنا؟ - إنك تتحدث كأنك إنسان، وبعض الناس يؤمن إيمانك هذا، أفتعرف؟ - أعرف، نعم، وأعرف أن الإنسان آمن بكل شيء وأنكر كل شيء، وإذا كان ما يزعمه بعض الناس حقا من وجود إله وشياطين، فما أعجب إلا لهذا الإنسان الذي يفتش عن الآلهة ويبحث عن الشياطين. وكل ظني أنه مركب من إله وشيطان، فلا الإله الذي يجد في أثره ببعيد عنه، ولا هو يستطيع تفلتا من شيطانه. ولكن ما لي يا سيدي وللناس، والحديث عنهم كالحديث عن الأفاعي، فلندعهم في شقائهم، إن العقل الذي يدلون به على سائر الحيوان والنبات هو سبب شقوتهم، وإني لتراني شاكرا حامدا أن ليس لي عقلهم ولا حكمهم ولا مشاكلهم، كل رغبتي أن يكون لي ميزات الطيور، ولقد رأيتك يا مولاي قويا قادرا على ما لا يقدر البشر، فأنت تستطيع أن تظهر شخصا وأن تغيب عن متناول الأنظار، بيد أنك تكون حاضرا، ورأيتك أحيانا تنقلب طائرا نادرا أو أسدا مهيبا. فرق لحالي وهبني جناحي نسر وحنجرة بلبل، فأغني لك أطيب الأغاني وأسعى في حاجاتك، وأرفع لك الابتهال حتى آخر العمر. - ويك أني إذا وهبتك ما تريد، لن أستطيع أن أغير من طبائعك، بل ستظل على الرغم من الشكل أنت إياك كأنك ما اعتصمت بجناح، ولا ارتفعت في فضاء، ولا تقربت من مطارح النجوم. - رحماك يا مولاي، دعنا من آراء الناس، وهبني ما أطلب.
قال أمير الجن: فنفخت في أنف هذا الكلب، فإذا هو طائر ما وقعت على مثله عين، في ريشه كل ألوان قوس السماء، وكل ما بينها من ألوان جدد لم تخلق إلا له، وأعطيته خصائص لم يتمتع بمثلها طائر، فكان إذا شاء يصير أسود كله أو أبيض كله، وكان بوسعه أن يكسو أحد جناحيه وما يليه من الجسم ظلمة الليل ويكسو الآخر وما يليه بياض الثلوج. بل كان في طاقته أن يظهر بلون واحد من الألوان التي يشتهي، أو أن يظهر بها جميعا، فكأنما هو عروس من بنات الملوك، خزائنها ملأى، وملابسها دائمة الجدة، أما غناؤه فقد عرفت أن غير واحد من الكناري مات حسدا عندما سمعه، وأن البلابل أقسمت لا تغني أمامه، وقد كان لجناحيه قوة ما تيسرت من قبل لجناحين. يطير الأيام، ويطير الليالي فلا تعب ولا عياء. وراح طائري هذا يقطع الآفاق، يدل على السهول، ويرتفع فوق الجبال حتى يقارب الشمس، فما بقي في العالم غاب لم يزره، ولا بحر لم يرف فوقه، ولا نهر لم يواكبه، ولا كناري إلا علمه الغناء، ثم عاد إلي بعد زمن يحدث عن عجائب الأرض والمخلوقات، وينظم كل يوم لحنا جديدا فريدا.
وذات ليلة من أواخر ليالي أيلول كان طائري العجيب يسمر على غصن عال من أغصان الصنوبر القائم هنا كالشموع، فإذا بالبدر يرتفع على مهل من وراء الباروك ويغمر الدنيا بفضته، فانقطع صوت طائري وراح يتأمل القمر، وما هي إلا نبحة أرسلها في وجهه طويلا، فإذا بالريش الجميل يتناثر في الفضاء الفضي ويختفي، وإذا طائري على الأرض ذلك الكلب.
ولما عكر الإنسان علي صفو هذه الديار، ورحلت وعشيرتي إلى مغاور النبع، استصحبت هذا الكلب، لعلمي أن النفس الذي نفخت في أنفه قهر الموت، وأنه إذا بقي هنا سيعيش معذبا بين الميتين، وها أني أخرج به مرة في السنة ينبح في وجه القمر ونعود .
قال الساحر: وسقط أمير الجن وكلبه في الغبيط، وتواريا عن نظري في مغاور النبع بعيدا تحت الأرض.
العرعار
كان ما كان في قديم الزمان، وفي ما كان صبية من الجن تعيش بين التلال القائمة هنالك فوق قريتي في مخبأ جعله القدر جوف جدة السنديانة الجبارة التي تظل اليوم بقاع الحقلة، وتروى عن قدمها الأحاديث، وتذكر أبواب السرايات التي اصطنعها الأمراء من خشب جذوعها، وتعقد حلقات الصبايا والشباب تحتها كلما خرجوا لنزهة أيام القطاف، ويرتجحون على أغصانها، ولأهل القرية شغف بهذه السنديانة وانعطاف إليها، فإذا ذكرت لهم ترنحوا وساورتهم خيلاء لا تقل عن خيلائهم عندما يذكرون البرج القديم الذي صنعت من حجارته كنيستهم، أو عندما تحكى حكايات أمواتهم وما كانوا عليه - يرحمهم الله - من فطنة وشجاعة وإيناس.
يقال إن صبية الجن تلك كانت من الجمال على جانب يبهر الأبصار ويأخذ بالقلوب، لا يصلح الفجر أن يكون خادما لها ولا يشرف الطيب إلا عالقا بأطراف أردانها، أما أناقتها فقد حفظت لنا التقاليد الموروثة عنها ما يفتن العقل، تظهر كلما ظهرت برداء جديد يلفها لفا لا يضيع معه شيء من جمال التكوين ولا يقلق الحشمة في شيء.
وكأن الفصول كانت مؤتمرة لما تتخير هي من ألوان: فإذا خرجت في المعطف الأزرق، صفت السماء ومسحت وجهها بالأزرق الناعم، وإذا أقبلت بالأخضر، ترنحت الغصون ولمع الأخضر في جنبات الغاب واعشوشبت السفوح، وتمر الغمامات البيضاء حالمة كلما لوحت لشيء بمنديلها الأبيض، ويجيء الخريف ويعلو الاصفرار إذا ما بدا لها أن تطل على التلال بثوبها الأصفر، وما كانت الورود لتفتح شفتيها لندى الفجر ولا لترتفع أعناق الشقائق إلا عندما تقبل الصبية بالأحمر اللاهب، بالأرجوان الذي علمت صنعه أهل الساحل إرضاء لترفها.
ولقد كان أجدادنا القدماء يرجعون سراعا إلى بيوتهم يحصنون أبوابها ونوافذها، ويعدون الوقيد عندما يلمح واحدهم الصبية تتمايل بالأسود البراق، يقينا منهم أن السماء ستقطب وتكفهر جوانبها، وتتفلت الأعاصير من مكامنها في الجبال وتهوي من أعالي صنين والزعرور وجبال الباروك مولولة، صاخبة، عاصفة، مكتسحة.
ولكن الصبية كانت دائما نعمة تلك البقاع وخصبها وحياتها، فلقد كان يكفي أن يمر ظلها الرضي مرة في السنة على وجه الأرض حتى تتدفق خيراتها بين يدي أجدادنا، وتحل البركة على الكروم، وتشقر العناقيد، ويقطر التين عسله، ويحلو الإجاص، وتثقل أغصان التفاح، بعد أن تمتلئ الأهراء بشتى الحبوب.
تلك كانت حياة أجدادنا في عهد صبية الجن: عيش مطمئن وترف دائم، لا حسد على نعمة، ولا تنازع في ملك، ولا تنافس في جاه، ولا صبوة إلى شيء يقتنيه واحد بالاستقلال عن الآخرين، بل ثروة موزعة بالسواء، وخيرات مقسمة بالسواء، وغبطة شائعة بينهم بالسواء، يزيد نصيب الواحد منها عما تقتضيه الحاجة وتتطلبه الرغبة.
عكف أجدادنا في ذلك الزمان على مشاغل الفكر، وعمروا مكاتبهم ودورهم بآثاره، لا فاتتهم فلسفة ولا افتقروا إلى فن من فنون الموسيقى والتصوير والنحت والبناء. ولولا زلازل درست معها آثارهم لكان اليوم بين أيدينا منها ما لا تذكر عنده اليونان، ولكن تلك البراكين التي تفجرت على مقربة من القرية والتي لا نزال نشاهد حممها في «حقلة السودا» أجبرت حفداء جبابرة الفكر أولئك على الفرار لا يلوون على أثر، ولما عادوا بعد أن هدأت ثورة الأرض لم يجدوا من آثار آبائهم شيئا.
وظل أجدادنا في نعيمهم هذا زمنا طويلا، إلى أن حدث ما لم يكن في حسبان أحد وما جهلوا هم أسبابه، وذهبوا عن وجه البسيطة وهم يجهلون، وهو أن صبية الجن اختفت يوما على أثر زوابع زعزعت عمد السماء وروعت رواسي الأرض.
وما لاحظ أجدادنا إلا أن نبعا تدفق بعد عند سفح جدة سنديانة الحقلة في مطرح يقال له العرعار.
وخبر كل ذلك أن أميرين فتيين من أمراء الجن وقعا في حب الصبية، فرأت أن لا يحظى عندها إلا من هو منهما أبسل وأشد ساعدا وأكثر خبرة في فنون القتال، فنشب بينهما براز عنيف دام أياما وليالي، تقاذفا خلاله بجذوع العتاق من أشجار الصنوبر والسنديان والأرز، وتراشقا بالنجوم، وامتدت أيديهما إلى قنن لبنان فأوجف عليه القدر ورمى بالخصمين في ظلمات ما خلف الشمس، حيث ما يزالان يقتتلان، ونظر إلى الصبية فإذا هي تغرق عند السنديانة الجبارة في جوف الأرض وتنساب من هنالك، ثم تنطلق في العرعار ماء زلالا صافيا أنقى من دموع الفجر وأبهى من أحلام العذارى.
تبدلت الحال بعد ذلك على أجدادنا فبخلت عليهم الحقول بخيراتها، وجفت ضلوع العرائش، وفرغت الأهراء، ولولا ذلك النبع الجديد الذي كانوا يتملقون به الأرض فيمرع منها ما يلامسه الماء ويعود حينا إلى سالف سخائه، يوم كان ظل الصبية يمر عليه؛ لمات أجدادنا جوعا، غير أنه كان لا بد لهم من العناء والعمل والكد والجد، وكان لا بد لهم من أن يتنازعوا في تملك الصالح من الأرض لقربها من النبع وتسلطه عليها، وكان لا بد أن يظهر عندهم شغف به وحرص عليه، واحترام يكاد لا يفرق عن التقديس إلا قليلا، وكانت الصبايا يتعبدن في سبيله فيصعدن كل سنة موكبا طويلا أبيض يرقصن حياله ويغنينه ويتبركن به، ومن هنا أن القرية عرفت بين أهل الجوار باسم «بيت العابدات».
وظل نبع العرعار منذ ذلك الحين مطمح الأنظار حتى من غير أهله، ومحط ركاب حتى الغرباء عن البلاد، ولقد خطر ذات مرة لقوم من عمال قياصرة روما أن يحرزوه، وأن يقدموه قربانا لواحد من آلهتهم شيدوا له هيكلا فوق أطلال هيكل بعل مرقد، فأقاموا للنبع قبوا معقودا بالحجارة الضخمة، وعمدوا إلى الصخور فأفرغوها، ونحتوا منها قساطل لجر المياه، فعرف أجدادنا آنذاك أتعس عهد من عهودهم. غير أن العرعار ما عتم أن حطم قيوده، ومزق قساطل الحجر، وعاد إلى بقاعه يحمل الخير والبركات.
وها نحن اليوم نعيش في كنفه ونتبرك بوجهه سواء في ذلك فقيرنا وغنينا، فقد يولد واحدنا معدما ويعيش معدما لا يملك حجرا يسند إليه رأسه، غير أنه لمجرد ما هو حفيد من حفدة أجدادنا الأولين، سيظل له حق بأن يتملك وحده، ساعة من الزمن كل أسبوع، جميع مياه النبع، يغتسل بها وأهله ويروي بها ما يستأجر من أرض، ويمتع بصره برقراقها، ولعل هذه المساواة في الحقوق حيال العرعار هي كل ما بقي لنا من عهد صبية الجن.
الرصد
قبل أن يتفرق الآلهة في الأرض، فكر بعل كبيرهم أن يدعوهم إلى مأدبة يقيمها لهم في مغارة قاديشا.
وكان الليل الذي اختاره ليلا صافيا نقيا من أعذب ليالي لبنان، أمر فيه الرياح أن تهدأ، والبحر أن يسكن، والهواء أن يعتدل. في الهزيع الأول من ذلك الليل كانت أشباح جبارة تتخطى رءوس جبال الجرمق والريحان والباروك وصنين والعاقورة والشيخ، هابطة من فم الميزاب وضهر القضيب، تسير في مواكب من العظماء والعظيمات على ضوء النيرات المدلاة لهم من أعالي السماء.
فإذا بلغت المواكب الطريق المؤدية إلى المغارة ارتفعت النيرات عائدة إلى سمائها، وداس الآلهة طريقا فرشها لمقدمهم الإله الأكبر برمال من الذهب، تؤدي بهم إلى مغارة غطيت حيطانها بالحرير الأرجواني، وفرشت أرضها بالأخضر منه، وأضيئت جوانبها بأشعة تنبعث من شموع لا تذوب، كأنها من جوهر الماس، وزينت بمختلف أنواع الزهر الشذي النضير، في سلال محبوكة بالنور.
ودعي الآلهة إلى مقاصف ارتفعت على أعمدة من الفضة، فوق مجرى النبع، ووضعت من حولها الطنافس الناعمة النادرة، وقدم الطعام الشهي، وهو من خير ما عرفت الدنيا، والفاكهة، وهي من ألذ ما أنبتت جنائن لبنان، والخمرة المعتقة منذ الأزل في أقبية بعل، أدارها عليهم، في آنية من الإبريز مرصعة بالياقوت والمرجان، صبايا حييات مجللات بالأبيض، مؤتزرات بالأرجوان، أرق أديما وأندى من وجه الفجر.
وكانت الراقصات في أثناء الطعام، يقمن بأبرع ما علمهن بعل مرقد من فنون تحار بها الألباب، على أعذب وأطرب أنغام عرفتها السماء ومرت في أجواء الأرض.
وما أن هم الآلهة بمغادرة المقاصف، حتى وقف الإله الأكبر فقال: لقد قسمت بينكم الأرض، وسيسافر غدا كل واحد منكم إلى حيث أعددت له العباد والهياكل.
ولكنه لا يصلح لنا جميعا أن نتخلى عن حماية هذه الديار أنى أقمنا من الأرض؛ فهي بلادنا الأصيلة ونعيمنا الأول، ترعرعنا في أكنافها، وتظللنا سماءها، وعببنا من أنهارها وينابيعها، وغسل بحرها أقدامنا.
فانبرى ملكرت، رب الحرب المنتصر وإله البحر ، فقال: سأظل أحمي شواطئها وأرد عنها.
وقال مرقد: أجعل من مرابعها مراقص ومسارح للنعيم، وأعلم أبناءها أصول الفن، فلا يبذهم فيه أحد.
وقالت شيما: أمسح أبدا وجهها بظل من جمال وجهي، فتكون أنعم وأرق بقعة من الأرض.
وقال أنو، إله السماء: أترك لون عيني في سمائها فتظل زرقاء صافية تلمع على آفاقها أبهى النيرات.
وقال أنليل إله الأرض: أخصب أرضها.
ووعدت مينرفا، إلهة الحكمة، أن تجعلها للفكر معقلا وللحكمة مهدا.
واتفقوا جميعا على أن يجود كل بما عنده من خير ومحبة وقوة على لبنان، ليظل، مهما تألبت عليه النوائب، راسخا عزيز الجانب مرموقا، لا يدخله فاتح إلا ويخرج منه ذليلا، ولا يطمع فيه طامع إلا ويخيب، ولا تمتد يد إليه إلا وتحرقها النار. ويظل هو منبعا دائم التدفق للجمال والحب، يوزع منها على الدنيا ويخفف بهما الآلام التي كان يعرف الآلهة أنها ستعصف بالخليقة، ويظل اسمه حربا على البشاعة حيثما عششت في الأرض.
قال بعل: طيبة هذه العهود، ولكن لا بد لنا من أن نترك رصدا في هذا الجبل، ينبئنا بما فيه؛ لنسارع إلى نجدته كلما هددته المخاطر، وأحدقت به الرزايا. وخليق بنا أن نقيمه من شيء لا يظن به ولا يتوجس منه المعتدون، وهذا الأرز القائم على مقربة منا في ظهر الرابية، من ها هنا، حقيق بأن يكون هذا الرصد.
فصفق الآلهة، استحسانا، وامتدت أيديهم إلى جوف الأرض حتى أمسكت بجذور الأرز فباركتها، وانصرف الآلهة بعد ذلك وأطبقت الصخور على باب المغارة المقدسة.
وها أن الأرز يقوم برسالته منذ آلاف السنين، فهو كلما أحدق خطر بلبنان تضطرب أغصانه الخالدة، وتثور وتسمع عزيفا رائعا، فيتسارع الآلهة من أقاصي السماء والأرض، يدفعون البلوى مهما طال أمرها، ويدحرون المغتال مهما عظم شأنه وتفاقم خطره، ويعيدون الطمأنينة إلى الجبل ويوطدون السلام.
بعل مرقد
بعل مرقد زين شباب الأولمب.
لها فما لها إله مثله.
علقته الإلهات فولههن، حتى أغار الآلهة، بيد أنه كان يعشق من دونهن صورة لصبية تخيلها أبهى وأجمل وأنعم من أجملهن وأروعهن بهاء.
ذلك سره المكنون، سر كان يترك على جبينه مسحة كآبة وفي عينيه أطيافا وأحلاما.
وبعد أن أدار بعل الكبير الكون، راح بعل مرقد يتعرف إلى وجه الأحياء والنبات والجماد، لعله يجد للصورة الحبيبة في المخلوقات شبيها.
يضرب كفا في السفوح فيفجر الينابيع.
ويشير بيده إلى التراب صعدا فتنبثق الأشجار.
ويرنم، فيكر من كل أفق بلبل جديد يبسط على الريح جناحا رشيقا، ويرسل في الأجواء أغنية واجدة.
وتسلى الإله طويلا وعبثا.
وبينا هو يطوف ذات يوم في جبال لبنان، بلغ مكانا عرف في ما بعد بهضبة بعل مرقد، فأعجب به: تلة تنهض كالشمخ الغض وكالنهد المتكبر، تدور حولها الأوداء، وترمقها قمم صنين والكنيسة، ويرنو لها المتوسط بألف عين متألقة، وتنسكب عليها الأضواء من أغوار السماء البعيدة.
ونظر، فإذا الأرض هنالك تنكشف عن صخر تغلغلت في حناياه ألوان الوزال والشقائق والخشخاش، وبقيت فيه على بهائها تعبث بكف الزمن الماحية.
فأخذ إزميلا وراح ينحت.
ينحت ليل نهار، يحدوه الشوق، ويستحثه الأمل.
فينفلت الحجر.
ثم يتكور الحجر.
ثم يشرق الشكل العجيب الفريد.
ويخر بعل أمام الصورة الحبيبة المحققة في الحجر الأبكم.
هو ذا المعبود ينقطع، والأجيال تنهض وتنهار، على معبود من نسج خياله ومن صنع يديه فتعرف السماوات حبا لم تشهد من قبل له نظيرا، إن كواكب لبنان وتراب التلة المقدسة تستطيع وحدها أن تقول لنا كم ذرف بعل مرقد من دموع، وكم مرغ على قدمي تمثاله جبينه العالي، وكم قضى من الأزمان يناجيه ويسترقه. وإن الحجارة هنالك والأدغال تهمس في أذني من يسمع: إن العذب الحار من لغة الحب أصداء باردة لأحاديثه، وإن الصلاة ذكريات من نجواه.
وبينا هو يوما في غمرة من الهوى والألم، إذا بالتمثال يرتعش، وينقل في الأرض رجلا، ويتمايل بين يديه أخف من النسيم.
مر على الأولمب فترة كان خبر الشوق الخالق فيه حديث الآلهة، ومر على بعل مرقد ولبنانة عهد نشوة ومرح يعجز الوصف.
ولكن المأساة، مأساة الألم والشقاء، كانت قد بدأت ساعة صار الحجر إنسانا ولم يستطع أن يصير إلها.
لم يهون على لبنانة حب بعل ولا الأعراس التي أقيمت لها، وضجت بها مشارق الدنيا ومغاربها.
ولا روح عنها أن الغوالي المخبآت في أقاصي السماء، في مقاصير الشمس ومغاني القمر، كانت تسفح كل يوم على قدميها.
ولا أسلاها وأنساها أن الأنغام كانت ترتفع بالتسابيح لها كلما أطل وجهها السني على الدنيا.
ولا قلل من همها أن الإلهات كن يحسدنها، ويتمنين أن يحتللن من قلب بعل الجميل بعض مكانها فيه.
فقد كانت لبنانة تشعر في أعماقها أن ذل الحجر ما يزال عالقا بها، يشدها إلى الأرض حين تريد أن ترتفع، وأنها سجينة هذا الشكل الرائع المحسود لا تستطيع براحا ولا انفلاتا، ولا هي تعرف هل تظل هي إياها، ولا ما سيكون مصير ما تستشعر بذاتها من عقل وإحساس وشوق ولذة وألم إذا ما قدرت على الانعتاق.
وكانت تعرف أن بقاءها موقوف على أنها تأكل وتشرب وتنام، وتعرف أن لا حاجة للإلهات من أجل البقاء إلى النوم ولا إلى الطعام ولا إلى الشراب، وأنهن إنما يأكلن ويشربن وينمن، متعة منهن ولذة، وأنهن لا يخفن لوافح البرد ولا لواذع الحر.
وتعرف أنها لا تعرف كيف تأتيها هذه المعرفة.
وكانت، بسبب ذلك كله، شقية تتساءل: أهي اليوم أفضل حالا، أم كانت أفضل حالا قبل أن يحركها الشوق، يوم هي حجر لا يعقل ولا يحس، ولا ينعم ولا يشقى، ولا يفكر بمصير، ولا يدرك أنه موجود؟
لا، لن يقول لنا أحد شيئا عن الجهد الجبار الذي كان يقوم به بعل ليزيل من خاطر لبنانة هذه الهواجس، وليجعل من حياتها نعيما. إن شوقه هو الذي خلق مع الحياة هذه المتاعب عند أحب مخلوقة يطمئن إليها قلبه، وتقر بها عيناه.
فيا لعظم التبعات التي هي تبعاته!
غير أن لبنانة كانت تدرك من ناحيتها أن بعلا لن يستطيع من أجلها بعد شيئا، وأن إخلاصها غير منوط به، وأن الشوق، شوقها هي هذه المرة، شوقها إلى الانعتاق والانفلات، يقدر وحده على شق طريق الخلاص .
وذات ليلة وبعل يعزف ويغني لها أغنية الحب الخالد، قامت إلى رأس التلة وأخذت تختطف الخطو اختطافا، فلا تلمس قدماها الأرض إلا لمسا رفيقا كأنما هي تتوكأ على جناحي النغم.
وأقبل الكون ينظر:
الدراري تتدلى لترى هذه الأعجوبة
والجبال تقترب وتحنو
والأغصان تترنح وتنعطف
والبحر يصغي خافت الموج
والسهل يشرئب
والليل يرق
وبنات لبنان وفتيانه يتقاطرون من الجوار في خشوع ورهبة
ونشوة وحنين.
وظلت لبنانة ترقص وترتفع، ثم تهبط راقصة وترتفع ثانية، حتى أقبل الفجر عليها وهي خصلة من نور، تتعالى مسرعة إلى ما وراء النجوم، وبعل مرقد في أثرها يعزف ويغني ويرتفع.
وشيدت بنات لبنان بأيديهن الناعمات القويات السخيات هيكلا جبارا فوق التلة المقدسة، أخذن حجارته من المقلع الذي نحت منه بعل تمثال لبنانة، يعبدنه فيه ويعبدنها.
Unknown page