وأخيرًا وضعني (الأوتوبيس) في محطة شركة النقل للدخان، وفي المكان نفسه الذي كان الناس يركبون منه عربة البريد قبل عشر سنوات.
عند أعلى درج الدار كانت أمي تنتظرني لتفاجئني واقفة على عكازين استُحضرا لها من مدينة الجرائر. منظر جميل من الماضي عاد إلَيَّ. أمي تقف على قدميها.
لقد أظهر أبي اغتباطه بوصولي. أما جدتي فقد رفعت عينيها عن سُبحتها لترحب بي، وتبتسم ابتسامة خاصة بالمسنين الذين يصعب التعبير بشيء معين على وجوههم. وعلى كل فلا أذكر أني رأيتها يومًا تضحك أو تبكي في مناسبة ما. ولم أرها مضطربة إلا يوم وفاة ابنها خالي (يونس). وقد تحول عشاء تلك الليلة إلى عيد عائلي صغير شاركتنا فيه شقيقتاي وأولاد أختي الكبرى وزوجها. أما الصغرى فإن زوجها لم يحاول أبدًا أن يجعل نفسه من أفراد العائلة.
وعند الانتهاء خرج والدي كعادته للقاء أصدقائه. سي (بغدادي) كان أول رجل من أبناء تِبِسَّة يضع الطربوش على رأسه، ويرتدي القميص ذا الياقة المقواة، في وقت كانت فيه حُمّى الحماسة لتركيا تسيطر على الجزائر منذ أيام (عباس بن حمانة).
سي (الحبيب) حارس المقبرة كان متخصصًا في السخرية والضحك، ويختار ضحاياه خاصة من رجال الصوفي والجريدي الذين كانوا يؤمون سوق المدينة في ذلك الفصل من السنة.
الخباز سي (بلقاسم) لم يكن لديه ما يمتاز به إلى جانب مهنته. هؤلاء كانوا أصدقاء والدي وجلاسه.
وخرجت أنا بعدُ للقاء رفاقي. إن سحر ليالي الصيف في تِبِسَّة ينتظر الجميع عند باب قسنطينة أو باب كراكلا.