183

Taʾammulāt

تأملات

Editor

(إشراف ندوة مالك بن نبي)

Publisher

دار الفكر

Edition

الأولى

Publication Year

١٩٧٩م.

Publisher Location

دمشق سورية

Genres

يكشف عنه تاريخ الحضارات التي سبقتها، فالحضارة المسيحية مثلًا لم تنشأ في أنبوبة مغلقة، أعني أنها لم تكوّن كل عناصرها من نفسها، في بادئ أمرها خاصة، فإن أحدث اختراعاتها من القمر الصناعي إلى الصاروخ الموجه، قائم على تطور علمي لا يمكن أن نتصوره، لولا علم الجبر أو علم المثلثات أو الحساب العشري، الذي يقوم على استخدام الصفر رقمًا أساسيًا .. فلولا هذه المقدمات العلمية التي هيأتها الحضارة الإسلامية للحضارة المسيحية، لما استطاعت هذه أن تغزو الفضاء اليوم. ولكن الحضارة المسيحية لم تستورد من البلاد العربية البضاعة العالمية فحسب، بل كانت تستورد معها أيضًا بعض الأشياء من منتوجاتها خاصة في بادئ أمرها.
كما أن الحضارة الإسلامية أيضًا كانت تتغذى وتتفاعل بثقافة اليونان وأشياء
من الهند بحكم التاريخ، لأنه لا يمكن لحضارة أن تنشأ في أنبوبة مغلقة لا يأتيها شيء من الخارج.
فالصواب إذن في الشبر الذي يفصل بين الإفراط والتفريط، وتحديده يتوقف على عملية تحليل للحضارة نفسها، باعتبارها مركبًا لا يتكون في أصله من أشياء ومنتوجات حضارية، بل من أصول تفرضها طبيعة المنتوجات وشروط تطور الإنتاج.
فلنسلك هنا مسلك الكيميائي، الذي يريد أن يصنع مركب الماء مثلًا فإنه يأخذ منه مقدارًا كافيًا لإجراء عملية التحليل. فالمقدار الكافي بوصفه عينةٌ من الحضارة هو مانسميه المنتوج الحضاري، فأي شيء ينتجه المجتمع هو منتوج حضارة سواء أأنتجه بوسائل الإنتاج العادية أم أنتجه بالتفكير البحث، فكل مفهوم من عالم المفهومات وكل شيء من عالم الأشياء، وكل شخص من عالم الأشخاص باعتباره معادلة شخصية أنتجتها ظروف التاريخ وشروط التطور، كل عينة بين هذه العينات هي منتوج حضارة .. أي أن هذه العينات كلها- مع اختلاف

1 / 198