يثقل جفناها بإرهاق يشبه النوم، وقد تغفو بضع لحظات وهي جالسة. تسند رأسها إلى ركبتها وتغمض عينيها أو لا تغمضهما؛ فهي لم تعد ترى ما حولها. يدخل كفراوي ويجلس إلى جوارها، يظن من عينيها المفتوحتين أنها صاحية لكنها لا تراه، أو لا تراه بحجمه الحقيقي الذي يبدو به الآن، وإنما تراه صبيا صغيرا يمشي وراء الحمارة، وهي لا تزال طفلة عاجزة عن المشيء، تزحف فوق بطنها في مدخل البيت الترابي، تلعق التراب، ويدخل التراب أنفهما وفمها وعينيها فتدعكهما بكفها الصغيرة وترفع رأسها فوق الأرض فترى الأقدام الأربع الضخمة تتحرك نحوها مقتربة من رأسها، وترتفع إحدى الأقدام في الهواء وترى بطنها الأسود كالمطرقة الحديدية الضخمة تكاد تسقط فوق رأسها؛ ترتعد في فزع وتصرخ، فتحس الذراعين الكبيرتين حولها ترفعانها من فوق الأرض، وتحس صدر أمها وتشم رائحتها فتكف عن البكاء.
لم تعد تذكر وجه أمها، وملامحها كلها اختفت، إلا تلك الرائحة التي بقيت منها، رائحة تشبه رائحة العجين أو الخميرة، وكلما شمت زكية العجين شعرت بنوع غامض من السعادة، وقد تنفرج شفتاها المطبقتان دائما عن نفس عميق، أو تطفو فوق عينيها الغاضبتين لمحة ابتسامة خافتة، سرعان ما تختفي ويعود وجهها إلا ملامحه الأولى، فتنطبق شفتاها في قوة وإصرار من رفض الكلام، وتعلو عينيها نظرة الغضب المتحدية أو التحدي الغاضب.
حين بدأت تقف على قدميها وتمشي، أصبحت تذهب مع أخيها كفراوي إلى الحقل، هو يسحب الجاموسة وهي تمشي وراء الحمارة المحملة بالسباخ. لم تكن تسمع صوت أخيها إلا حينما يخاطب الجاموسة قائلا: شي ... شي ... أو يحث الحمارة على السير قائلا: حا ... حا ...
في الحقل كانت ترى أباها . لم تعد تذكر وجهه أو ملامحه، ما بقي من ذاكرتها صورة ساقيه الطويلتين النحيلتين وركبتيه البارزتين وجلبابه المرفوع المربوط حول خصره، والفأس الكبيرة في يده ترتفع وتنخفض في ضربات منتظمة، والساقية بجوار الترعة تئن بالصرير الغليظ المنتظم. يظل صوت الساقية يدق بانتظام في رأسها، ثم يتوقف فجأة؛ فتحرك رأسها ناحية الجاموسة وتقول بصوت عال: شي ... شي ... لكن الجاموسة لا تتحرك، يظل رأسها الأسود ثابتا، وعيناها السوداوان مفتوحتين شاخصتين إليها في صمت؛ تهم زكية بأن تفتح شفتيها مرة أخرى وتقول: شي ... لكنها تدرك فجأة أن ما أمامها ليس وجه الجاموسة، وإنما وجه كفراوي الأسمر القاتم. ملامحه تشبه ملامحها، وعيناه تشبهان عينيها مرفوعتين وغاضبتين، ولكنهما خاليتان من التحدي وشبه يائستين.
يظل كفراوي جالسا إلى جوارها مطبقا شفتيه، مسندا ظهره إلى الجدار الطيني، وعيناه شاخصتان نحو الطريق، أو ثابتتان فوق ذلك الباب الحديدي الكبير المواجه لبابهم. لكنه في ذلك اليوم حرك عينيه ناحيتها وانفرجت شفتاه عن صوته الخشن المنخفض الشبيه بالهمس: البنت اختفت يا زكية. البنت راحت.
انفرجت شفتاها المطبقتان عن صوت فزع: راحت؟
قال بصوت يائس: نعم راحت! ليس لها أثر في كل البلد.
رمقته بعينيها السوداوين الواسعتين، فظل شاخصا إليها في صمت طويل بعينيه اليائستين، ثم قال: نفيسة ليست في كفر الطين كلها يا زكية. نفيسة اختفت ... ذهبت ولن تعود.
وأمسك رأسه بيديه وردد بصوت كالنشيج: نفيسة ضاعت منا يا زكية! آه يا رب!
حركت زكية عينيها ناحية الطريق، وقالت بصوت حزين هامس: آه يا رب! ضاعت منا كما ضاع جلال!
Unknown page