أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله. •••
زكية لا تزال جالسة على الأرض، تغمض عينيها ثم تفتحهما، ثم تعود وتغمضهما. إذا أغمضت عينيها تراءى لها الباب أو النافذة ذات الأعمدة الحديدية والرجل ذو العربة يحمل عليها الكوارع والرأس المذبوح، يشد قدمها ثم ساقها ثم فخذها، يحاول أن يذبحها؛ تفتح عينيها مذعورة وترى وجوها كثيرة لا تعرفها، تتعرف من بينها على وجه زينب، وإلى جوارها أم صابر جالسة القرفصاء أمام وعاء من الصفيح، فوق موقد تتصاعد منه أبخرة البخور، والأصوات كثيرة، لا تكاد تتبين الكلمات لكنها ترى الحركات، لا تعرف تماما ماذا يفعل هؤلاء الرجال والنساء، مجموعة من النساء كانت تدور حول نفسها كأنما ترقص حول الأبخرة المتصاعدة، أردافهن وأثداؤهن تهتز مع دقات الطبول القوية، وشعورهن الطويلة انطلقت من الضفائر وأصبحت تهتز بعنف، وأفواههن مفتوحة عن آخرها ينشدن في نفس واحد: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفرت يحضر!» ومجموعة أخرى من الرجال كانوا يرقصون ويهتزون على دقات الطبول، وعلى رءوسهم غطاء أبيض طويل يتدلى وراء ظهورهم.
أم صابر تروح وتجيء بين النساء والرجال بملاءتها السوداء وجسدها القصير النحيل بغير ثديين لكن ردفيها كبيران يهتزان بعنف. من يراها من الأمام يظن أنها رجل، ومن يراها من الخلف يقول إنها امرأة، من يرى جسمها وحركتها السريعة النشيطة يظن أنها شابة، ومن ينظر في وجهها يدرك أنها عجوز، تحرك جسمها وسط الرجال كما تحركه وسط النساء، وتضرب الرجال على أفخاذهم كما تضرب النساء، ترقص وتضحك وتلطم وتولول، تحكي النكات النابية بالطريقة نفسها التي تتلو بها التعاويذ والآيات القرآنية، لا أحد يظن بها سوءا؛ فهي في نظر أهل كفر الطين أم صابر الداية، ليست امرأة وليست رجلا، كائن بغير جنس، وبغير أسرة، وبغير أقارب. تعيش وحدها في بيت طيني مظلم إلى جوار بيت نفوسة الغازية وراء الخرابة خلف الجامع، لا يعرفون من أين جاءت ولا متى ولدت ولا يتصورون أنها يمكن أن تموت؛ فهم يرونها في حركة مستمرة لا تنقطع ليل نهار، تخرج من بيت لتدخل إلى بيت، تولد النساء، تطهر البنات، تثقب الآذان وترش الملح في السبوع، وتحمي الأم في الأربعين، تشترك في جميع الأفراح والأحزان، في الأفراح تزغرد وتصبغ أقدام النساء والبنات بالحنة الحمراء، وفي ليالي الزفاف تفض بكارة العروس أو تصبغ البشكير بدم دجاجة أو أرنب، وفي الأحزان تندب وتلطم خديها وتغسل الميت إذا كان أنثى، وتحل مشاكل النساء والبنات، فتجهض الحوامل بأعواد الملوخية، تخنق المولود أو تترك حبله السري ينزف ولا تربطه بالفتلة الحرير. أهل كفر الطين جميعهم يعرفونها؛ فهي جزء من كل بيت، لا يقوم أي بيت بدونها. توفق الرءوس في الحلال، تخطب العرسان وتزوج البنات، تحمي الشرف والعرض وتتستر على الشرف والخيانات والفضائح والمصائب. تعالج المرضى بوصفاتها البلدية وتشترك في الزار؛ ترقص وتغني وتذبح الذبيحة، وترش الدم وتحرق البخور وتأخذ الأثر. وحينما لا يكون هناك فرح ولا حزن ولا مرض ولا مصيبة ولا زار تحمل سلتها الكبيرة وتدور على البيوت؛ تبيع المناديل والبخور واللبان، وتشوف البخت والفنجان.
العرق يتصبب من وجه زكية وهي راقدة أو جالسة أو واقفة لا تكاد تعرف، ومن حولها الأجساد تهتز، تترنح، وتسقط على الأرض ثم تنهض مرة أخرى. العرق يتصبب من الأجساد، الرجال والنساء على السواء، تتعرف على النساء من أثدائهن وأردافهن الكبيرة التي تهتز بعنف، وتتعرف على الرجال من شواربهن السوداء أو لحاهم ذات الشعر الطويل الغزير.
العرق يتصبب من وجهها وجسدها أيضا، وترفع يدها لتمسح العرق، لكنها ترى العرق أحمر بلون الدم، وأم صابر تملأ كفيها بدم الديك المذبوح ثم ترش وجهها وعنقها وصدرها وبطنها. أيادي الرجال والنساء تعتصر جسد الديك المذبوح وترشها بالدم. أحد الرجال ملأ كفه بالدم، ثم رش عنقها وصدرها، امتدت يده داخل فتحة جلبابها ودهن ثدييها بالدم. تزاحمت الأيدي فوق جسدها ترشه وتدهنه وتدلكه وتقرصه. امتدت يد غليظة، لم تعرف يد رجل هي أم يد امرأة، ورشت الدم بين فخذيها ثم قرصتها. صرخت ولطمت خديها وسمعت الجميع من حولها يصرخون: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفريت يحضر!» اختلط الصراح والعويل في أذنيها بدقات الطبول وإيقاع الأقدام، واختلط العرق بالدم، واختلطت الوجوه، لم تعد تعرف وجه أم صابر من وجه الشيخ متولي، ولم تعد تعرف زينب من نفوسه الغازية. أصبح جسد زينب طويلا ملفوفا يتثنى ويتمايل ويترنح كجسد نفوسة الغازية، وشعرها أصبح كشعرها بغير ضفائر، طويلا منكوشا تقذفه إلى الأمام فيصبح فوق نهديها البارزين المدببين، ثم تقذفه مع جسدها إلى الخلف فينسدل فوق ظهرها وتضرب أطرافه ردفيها المستديرين البارزين، جلبابها أصبح مشقوقا من الذيل حتى خصرها، تضرب الأرض بقدمها فينفتح الجلباب وتظهر استدارة فخذها الناعمة البيضاء، ترفع ساقها في الهواء ثم تضرب الأرض بقدمها الأخرى؛ فيتسع الشق وتظهر من الجانب باستدارة ثديها الناعم، هابطة إلى بطن ناعم مستدير، يرتعش وينتفض مع دقات الطبول في هزات عنيفة، والأجساد من حولها تترنح وتسقط ثم تنهض مرة أخرى. اختلطت أجساد النساء بالرجال، وأصبحوا يدورون في حلقة واحدة، يتوسطها جسد نفوسة الغازية ومن حوله يدور الشيخ متولي، ترتطم يده أو قدمه أو ركبته في كل دورة بثديها أو فخذها أو بطنها، وهي تشد شعرها الطويل وتصرخ، والشيخ متولي يصرخ، والجميع يصرخون في نفس واحد: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفريت يحضر!»
خيل لزكية أن جسدها أصبح يتحرك وحده، وأنها رأت قدميها تسيران نحو الحلقة الراقصة وجسدها يدس نفسه بين الأجساد، يتحرك معهم، يهتز ويترنح، وشعرها سقطت عنه الدوبارة الصوفية وانسدل فوق وجهها كالغمامة السوداء، وأحست أصابع قوية تلدغها في ثديها لدغة عنيفة كلدغة ثعبان بل أشد، صرخت بأعلى صوتها، فتحت فمها عن آخره وظلت تصرخ وتولول بغير توقف، صرخة حادة طويلة امتدت طول عمرها الذي مضى، صرخة مكبوتة مختزنة في جسدها منذ ولدت، منذ سمعت أباها يضرب أمها لأنها لم تنجب ذكرا، منذ تعلمت المشي وسارت وراء الحمارة فوق الأرض الملتهبة تلسع بطن قدميها، منذ تعلمت الأكل وحرقت معدتها الشطة والمخلل، منذ شدتها أم صابر وطهرت ما بين فخذيها، منذ أصبح لها ثديان يقرصها فيهما الرجال، منذ ضربها عبد المنعم زوجها ثم صعد فوقها بجسده الثقيل الضخم، منذ حملت وولدت ونزفت ودفنت أولادها واحدا وراء الآخر، منذ ارتدى جلال بدلة الجيش وذهب ولم يعد، منذ أن غابت نفيسة وغنى الأطفال نفيسة وعلوان، منذ أن جاءت العربة بالأفندية والكلب ثم ذهبوا ومعهم كفراوي.
صرخة طويلة ممدودة بامتداد عمرها، أطلقتها وهي تمزق شعرها وجلبابها وتغرز أظافرها في لحم جسدها لتمزقه، وأم صابر لا تزال تملأ كفيها من دم الديك المذبوح وترش وجهها وعنقها وثديها وبطنها وظهرها: اصرخي يا زكية ليخرج العفريت من جسدك، اصرخي يا زكية بأعلى صوتك! وتصرخ زكية، وتصرخ أم صابر وتصرخ نفوسة الغازية، وتصرخ زينب، ويصرخ الشيخ متولي، ويصرخ كل الرجال وكل النساء في كفر الطين صرخة طويلة حادة ممطوطة وممدودة بامتداد أعمارهم منذ ولدوا ومنذ ضربوا ومنذ قرصوا، ومنذ لدغوا، ومنذ حرقت الأرض أقدامهم، وحرق الملح بطونهم، وكوى المر أكبادهم، وأخذ الموت صبيانهم وبناتهم. •••
لكن العفريت لم يغادر زكية، ظل راكبا جسدها جاثما فوق صدرها، تلهث وهي جالسة، وتراه راقدا على صدرها، وحين يرفع وجهه إليها ترى ابنها جلال؛ فتشد ثديها من فتحة ثوبها وتدس الحلمة السوداء في فمه، لكنها سرعان ما تكتشف أنه ليس ابنها، وإنما هو زوجها عبد المنعم؛ فتبعده عنها بحركة قوية من يدها، وحينما ينظر إليها ترى عيني كفراوي؛ فتشهق مذعورة، ويختفي لحظة وراء الباب أو النافذة الحديدية، ثم يعود يجر عربة اليد ومن فوقها الكوارع والرأس المذبوح يتساقط منه الدم. تنكمش في جلبابها وتبصق في فتحة جلبابها وتنادي على ابنة أخيها زينب، وتمسك يدها وهي تتلفت حولها بعينيها السوداوين المذعورتين: زينب يا بنتي لا تتركيني وحدي ... أنا خائفة. العفاريت تطاردني من وراء النافذة الحديدية.
وتنظر زينب حولها فلا ترى شيئا وتقول لعمتها: ليس هنا نافذة حديدية يا عمتي.
وتشير زكية بأصبع مرتجف ناحية الباب الحديدي الكبير قائلة: هي النافذة.
Unknown page