فوق الجسر، كان يقف أهل كفر الطين يتقدمهم الضابط والكلب وشيخ الخفر وبعض الخفراء ورجال الشرطة. كانت عيونهم شاخصة إلى الجسدين السابحين في النيل، يترقبون بنشوة المتفرجين في أي سباق، أيهما سيفوز. حينما كانت المسافة بين الجسدين تتسع، يشعر الفلاحون بفرحة خفية غامضة، يريدون أن ينجو كفراوي ولا يلحق به الشرطي، وإحساس شبه غريزي خفي بأن كفراوي ليس قاتلا وليس مجرما، وكراهية خفية شبه غريزية يحسون بها نحو رجال الشرطة وكل مندوبي السلطة والحكومة. عداء خفي قديم يكنه الفلاحون للحكومة، يدركون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون أنها تعمل على الدوام ضدهم، وتنهب جسدهم وعرقهم.
الضابط كان يتأمل المشهد بغير حماس، ينظر في ساعته من حين إلى حين كأنما هو على موعد آخر هام، ويريد أن ينتهي من هذه المهمة بأسرع ما يمكن، والكلب أيضا لم يكن يعنيه كثيرا ما يدور، وقد رقد فوق الجسر يستمتع بأشعة الشمس والخضرة والنيل كأنه حرم من مشاهد الطبيعة طويلا. والوحيد الذي كان قلقا هو شيخ الخفر، وكلما كانت المسافة تضيق بين الجسدين يهتف مشجعا الشرطي: جدع يا بيومي!
يرن الصوت في أذني بيومي فيضرب الماء بذراعيه وساقيه بقوة لا يعرف مصدرها أو دافعها الحقيقي. إنه مكلف بالقبض على ذلك المجرم، هذا هو كل ما يعرفه، ولا يفكر في أكثر من ذلك.
ومنذ أن رن في أذنيه الصوت الآمر الحاد «اقبض عليه» كان يندفع منطلقا بسرعة منتظمة كقذيفة أطلقها مدفع.
خرج كفراوي من الماء عاريا تماما وقفز على الشط وجرى بين أشجار البرتقال. خرج بعده بيومي وقفز على الشط وراءه. بيومي كان عاريا هو الآخر إلا من سروال صغير، وجسده طويل مشدود العضلات، ووجهه طويل مشدود العضلات، حاد الملامح كوجه صنع من الورق المقوى: وجه شرطي ، بغير انفعال، بغير فرح أو حزن، بغير خوف أو أمل، بغير شيء سوى ذلك التعبير الوحيد الذي يرتسم على وجوه رجال الشرطة، وهو تعبير لا يعبر عن شيء، كالوجه الأملس، أو كبطن اليد، لا يعرف أحد حين ينظر إليه ما هي مشاعره، وما هي أفكاره؛ لأنه يبدو بغير مشاعر وبغير أفكار، كوجه صنع من النحاس، كرأس المطرقة النحاسية أو الحديدية التي تعلق على أبواب البيوت. وجسده أيضا مشدود صلب كأنه نحاسي، وذراعاه وساقاه وهو يسبح أو يسير أو يجري تبدو كأنها نحاسية، كأطراف الرجل الآلي، لها مفاصل ولها حركة قوية بطيئة أو سريعة، ولكنها حركة آلية منتظمة لا تصدر عن عضلات من لحم ودم.
رآه كفراوي وهو مختبئ وراء شجرة البرتقال فارتعد جسده بخوف غريب، كأنه يرى عفريتا ليس من الإنس وليس من الجن، وليس هو حيا ولا ميتا، وليس هو آدميا مع أن له شكل الآدميين.
لم يعرف لماذا بدا له هذا الوجه مفزعا أكثر من وجه الكلب الغاضب اللاهث الذي جرى وراءه يريد الفتك به؛ أدرك من حيث لا يدري أن الوجه الخالي من الانفعال، وإن كان آدميا، يفزع أكثر من وجه حيوان أو وحش منفعل، وإن كان الانفعال هو الغضب.
أحس كفراوي الرعب يزحف فوق جسده كبرودة مثلجة ولم يعد يشعر بجسده أهو واقف مختبئ وراء شجرة البرتقال أم هو يجري بين الشجر، وذلك الشبح المفزع يسير نحوه بخطوات ثابتة حديدية لا تسرع ولا تبطئ، كخطوات الزمن، كعقربي ساعة باردة وحيادية لا تعرف شيئا إلا الحركة إلى الأمام بغير توقف حتى الموت. وحينما التفت الأصابع الحديدية حول ذراعيه أغمض عينيه وقرأ الشهادة: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولم يعد يرى أو يسمع شيئا. أصبح كل شيء حوله مظلما أسود ساكن الحركة والصوت، وكأنما انتقل إلى العالم الآخر.
حين فتح عينيه مرة أخرى وأبصر الأشياء وسمع الأصوات اتسعت عيناه بالدهشة. كان جالسا في حجرة فسيحة مليئة بالناس الجالسين في أماكنهم ينظرون إليه، وكان أمامه ثلاثة من الرجال جلسوا من خلف شيء خشبي عال أشبه بالمنضدة.
أحد الرجال كان يلوح بيده في غضب وينظر إليه مهددا؛ تلفت كفراوي حوله لا يعرف شيئا عما يدور حوله، وفجأة أحس بأصبع قوي يلكزه في كتفه كالمسمار، وصوت حاد يخترق أذنيه: ألا تسمع؟ لماذا لا ترد؟
Unknown page