ثمن الكتابة
إهداء
موت الرجل الوحيد على الأرض
ثمن الكتابة
إهداء
موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
موت الرجل الوحيد على الأرض
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
إهداء
إلى «زينب» ابنة عمتي،
وإلى كل أبناء وبنات قريتي كفر طلحة، قليوبية، مصر.
نوال السعداوي
موت الرجل الوحيد على الأرض
•••
قبل أن يظهر ضوء الشفق الأحمر من فوق رءوس الأشجار البعيدة، وقبل أن يرتفع في الظلام صياح ديك أو نباح كلب أو نهيق حمار، أو صوت الشيخ حمزاوي يؤذن لصلاة الفجر، قبل كل هذا يفتح الباب الخشبي الكبير، محدثا ذلك الصرير كصرير الساقية العتيقة، ويظهر شبح طويل، ممشوق، مرفوع الظهر، يمشي على ساقين مشدودتين في خطوات ثابتة قوية، ومن خلفه شبح يمشي على أربع سيقان مرتخية بطيئة كسولة.
يختفي الشبحان في الظلمة بين البيوت الطينية، ثم يظهران فوق جسر النيل. في ضوء الفجر، يبدو وجه زكية نحيلا شاحبا وصارما، شفتاها مطبقتان في إصرار من يرفض النطق، وعيناها واسعتان مرفوعتان في تحد أشبه بالغضب، أو غضب أشبه بالتحدي. من خلفها يظهر وجه الجاموسة طويلا ونحيلا وشاحبا أيضا، لكنه ليس صارما، وعيناها واسعتان مرفوعتان أيضا، ولكن نظرتهما منكسرة شبه مستسلمة للقضاء والقدر.
يسقط ضوء الفجر على وجه النيل، فتبدو أمواجه الهزيلة كتجاعيد وجه عجوز صامت وحزين، مياهه الراقدة في القاع تبدو ساكنة ولا تتحرك، أو هي تتحرك حركة واهنة ضعيفة غير محسوسة، كحركة السحاب أو كحركة الزمن.
والهواء أيضا حركته بطيئة، يهز رءوس الأشجار بحركة تكاد لا ترى، وذرات التراب الرقيقة تتطاير من فوق الجسر إلى المنخفض، حيث ترقد البيوت الطينية السوداء، بنوافذها الصغيرة المغلقة، وأسطحها المنخفضة المتعرجة، تعلوها أكوام الحطب والقش والجلة، وتهبط إلى الأزقة الملتوية المسدودة بأكوام السباخ ، ثم تستقر في النهاية على وجه الترعة، تعلوها طبقة معتمة شبه طينية.
تظل زكية تمشي ومن خلفها الجاموسة؛ خطوتها لا تتغير، وجهها لا يتغير، والنيل عن يسارها لا يتغير، لكن المنظر عن يمينها يتغير، تتحرك البيوت الطينية إلى الخلف وتصبح وراءها، وتظهر أمام عينيها الحقول الخضراء كشريط طويل ممتد بطول النيل.
تظل سائرة بين النيل والحقول، حركتها لا تتغير، لكن لون السماء يتغير؛ ينقشع السواد شيئا فشيئا، وخط الشفق الأحمر يرتفع في السماء، مكتسبا لونا برتقاليا زاهيا، ثم يبرز قرص الشمس من بطن الأرض ويرتفع في السماء زاحفا ببطء، يكشف عن نفسه جزءا جزءا. قبل أن ينتشر نور النهار وتضيء الدنيا، تكون زكية قد وصلت إلى حقلها وربطت الجاموسة في الساقية على حافة الترعة، وخلعت طرحتها السوداء، وشمرت أكمامها، ورفعت ذيل جلبابها وربطته حول خصرها، ثم حملت الفأس وبدأت تفلح الأرض.
يرن صوت فأسها في الحقول المجاورة قويا ثابتا، وعضلات ذراعيها قوية مشدودة، وجلبابها منحسر عن ساقين طويلتين عضلاتهما قوية نافرة كعضلات رجل. وجهها لا يزال طويلا نحيلا، لكنه لم يعد شاحبا، حرقته الشمس ولوحته بسمرة قاتمة خالية من الدم. ظهرها لم يعد مرفوعا، ولكن عينيها لا تزالان مرفوعتين في تحد أشبه بالغضب أو غضب أشبه بالتحدي. وضربات فأسها، كملامحها، غاضبة متحدية للأرض. ترفع الفأس إلى أعلى، كأنما تضرب به السماء، ثم تهوي به إلى أسفل لتشق بطن الأرض.
تظل ضربات فأسها قوية ثابتة، لا تسرع ولا تبطئ، كدقات الساعة، تقتل الزمن دون أن يقتلها، وتكسر الأرض دون أن تنكسر، ترن في الحقول المجاورة طول النهار بغير توقف، حتى في وقت الظهيرة حين تتوقف فئوس الفلاحين الرجال ساعة الغداء، تظل ضربات زكية تدق الأرض، والجاموسة أيضا قد تتوقف لحظة، وتكف الساقية عن صريرها المنتظم، لكن فأس زكية تظل ترتفع وتنخفض وترتفع وتنخفض.
ترتفع الشمس في وسط السماء، ويصبح قرصها كقطعة من الجمر الملتهب، تخنق الهواء، وتخنق الشجر، ويصبح كل شيء أحمر مختنقا، لكن وجه زكية لا يكتسب أبدا اللون الأحمر ، يتصبب منه العرق ويسيل على الأرض يروي الأرض، ويظل بلونه الأسمر القاتم خاليا من الدم، كوجه الجاموسة، قد تحرقه الشمس فيزداد سوادا لكنه أبدا لا يشف من تحته الدم.
يبدأ قرص الشمس في الانحدار ناحية الغرب، فاقدا توهجه الأحمر الملتهب، ويبدأ الهواء يتحرك قادما من ناحية النيل، وتتحرك رءوس الأشجار بحركتها البطيئة الكسولة، وينتشر اللون البرتقالي في السماء يعقبه اللون الرمادي. يجف العرق فوق وجه زكية كطبقة رمادية معتمة، تختفي تحتها السمرة القاتمة. تترك الفأس وتشد عضلاتها بقوة ليصبح ظهرها مرفوعا. تشد أكمامها فوق ذراعيها وتفك جلبابها من حول خصرها لينسدل طويلا فوق ساقيها حتى يغطي قدميها. تضع الطرحة السوداء فوق رأسها وتسحب الجاموسة عائدة في الطريق نفسه، إلا أن النيل يصبح الآن عن يمينها والحقول عن يسارها، والشفق الأحمر يصبح ناحية الغرب، ورءوس الأشجار البعيدة من وراء النيل.
يقع ظلها وظل الجاموسة فوق الجسر الترابي. ظلها طويل ممشوق مرفوع الظهر، مرفوع الرأس، وخطواتها قوية متحدية. ظل الجاموسة محني الظهر، منخفض الرأس، خطواتها مرهقة مرتخية مستسلمة. يسيران كالشبحين الصامتين بحذاء النيل الصامت، والحقول أيضا من الناحية الأخرى صامتة، شريط طويل من الخضرة الساكنة بحذاء مياه النيل الساكنة، والهواء صامت، وهما يسيران، زكية ومن خلفها الجاموسة، حتى تصبح الحقول وراءها وتظهر أمامها البيوت الطينية متلاصقة تميل ناحية الجسر كأنما تستند إلى بطن الجسر خشية من المنخفض الترابي.
عند المنحدر، تهبط زكية ومن خلفها الجاموسة، يهبطان الجسر ويسيران في الأزقة بين البيوت حتى الباب الخشبي الكبير، تدفعه زكية بيدها السمراء المعروقة فينفتح محدثا صريره الغليظ. تترك الجاموسة إلى الزريبة، تدخل وحدها، تعرف طريقها إلى الزريبة. أما زكية فتجلس على الأرض في مدخل البيت، مسندة ظهرها إلى الجدار، ووجهها ناحية الطريق، ترمقه بعينيها الواسعتين من خلال فتحة الباب الكبيرة.
تظل جالسة لا تتحرك، شاخصة بعينيها الثابتتين نحو شيء محدد؛ قد يكون كوم سباخ أمام عتبة الباب، قد تكون عتبة الباب نفسها، أو براز طفل بجوار الحائط، أو جيشا من النمل حول خنفسة ميتة ، أو أحد الأعمدة الحديدية السوداء في الباب الكبير المواجه لبابها. وقد تظل محملقة في الفراغ، حتى تشعر بألم حاد في عظام رأسها؛ فتلف الطرحة وتشدها بقوة حول رأسها. وحين يصبح الألم في معدتها تشد مشنة الخبز من جوارها، فتنفرج شفتاها المطبقتان عن فتحة ضيقة تدس فيها قطعة خبز مقددة تعقبها بقطعة من الجبن القريش أو المخلل.
يثقل جفناها بإرهاق يشبه النوم، وقد تغفو بضع لحظات وهي جالسة. تسند رأسها إلى ركبتها وتغمض عينيها أو لا تغمضهما؛ فهي لم تعد ترى ما حولها. يدخل كفراوي ويجلس إلى جوارها، يظن من عينيها المفتوحتين أنها صاحية لكنها لا تراه، أو لا تراه بحجمه الحقيقي الذي يبدو به الآن، وإنما تراه صبيا صغيرا يمشي وراء الحمارة، وهي لا تزال طفلة عاجزة عن المشيء، تزحف فوق بطنها في مدخل البيت الترابي، تلعق التراب، ويدخل التراب أنفهما وفمها وعينيها فتدعكهما بكفها الصغيرة وترفع رأسها فوق الأرض فترى الأقدام الأربع الضخمة تتحرك نحوها مقتربة من رأسها، وترتفع إحدى الأقدام في الهواء وترى بطنها الأسود كالمطرقة الحديدية الضخمة تكاد تسقط فوق رأسها؛ ترتعد في فزع وتصرخ، فتحس الذراعين الكبيرتين حولها ترفعانها من فوق الأرض، وتحس صدر أمها وتشم رائحتها فتكف عن البكاء.
لم تعد تذكر وجه أمها، وملامحها كلها اختفت، إلا تلك الرائحة التي بقيت منها، رائحة تشبه رائحة العجين أو الخميرة، وكلما شمت زكية العجين شعرت بنوع غامض من السعادة، وقد تنفرج شفتاها المطبقتان دائما عن نفس عميق، أو تطفو فوق عينيها الغاضبتين لمحة ابتسامة خافتة، سرعان ما تختفي ويعود وجهها إلا ملامحه الأولى، فتنطبق شفتاها في قوة وإصرار من رفض الكلام، وتعلو عينيها نظرة الغضب المتحدية أو التحدي الغاضب.
حين بدأت تقف على قدميها وتمشي، أصبحت تذهب مع أخيها كفراوي إلى الحقل، هو يسحب الجاموسة وهي تمشي وراء الحمارة المحملة بالسباخ. لم تكن تسمع صوت أخيها إلا حينما يخاطب الجاموسة قائلا: شي ... شي ... أو يحث الحمارة على السير قائلا: حا ... حا ...
في الحقل كانت ترى أباها . لم تعد تذكر وجهه أو ملامحه، ما بقي من ذاكرتها صورة ساقيه الطويلتين النحيلتين وركبتيه البارزتين وجلبابه المرفوع المربوط حول خصره، والفأس الكبيرة في يده ترتفع وتنخفض في ضربات منتظمة، والساقية بجوار الترعة تئن بالصرير الغليظ المنتظم. يظل صوت الساقية يدق بانتظام في رأسها، ثم يتوقف فجأة؛ فتحرك رأسها ناحية الجاموسة وتقول بصوت عال: شي ... شي ... لكن الجاموسة لا تتحرك، يظل رأسها الأسود ثابتا، وعيناها السوداوان مفتوحتين شاخصتين إليها في صمت؛ تهم زكية بأن تفتح شفتيها مرة أخرى وتقول: شي ... لكنها تدرك فجأة أن ما أمامها ليس وجه الجاموسة، وإنما وجه كفراوي الأسمر القاتم. ملامحه تشبه ملامحها، وعيناه تشبهان عينيها مرفوعتين وغاضبتين، ولكنهما خاليتان من التحدي وشبه يائستين.
يظل كفراوي جالسا إلى جوارها مطبقا شفتيه، مسندا ظهره إلى الجدار الطيني، وعيناه شاخصتان نحو الطريق، أو ثابتتان فوق ذلك الباب الحديدي الكبير المواجه لبابهم. لكنه في ذلك اليوم حرك عينيه ناحيتها وانفرجت شفتاه عن صوته الخشن المنخفض الشبيه بالهمس: البنت اختفت يا زكية. البنت راحت.
انفرجت شفتاها المطبقتان عن صوت فزع: راحت؟
قال بصوت يائس: نعم راحت! ليس لها أثر في كل البلد.
رمقته بعينيها السوداوين الواسعتين، فظل شاخصا إليها في صمت طويل بعينيه اليائستين، ثم قال: نفيسة ليست في كفر الطين كلها يا زكية. نفيسة اختفت ... ذهبت ولن تعود.
وأمسك رأسه بيديه وردد بصوت كالنشيج: نفيسة ضاعت منا يا زكية! آه يا رب!
حركت زكية عينيها ناحية الطريق، وقالت بصوت حزين هامس: آه يا رب! ضاعت منا كما ضاع جلال!
رفع كفراوي يديه عن رأسه وقال: جلال لن يضيع يا زكية، سيعود جلال إليك بعد أيام.
قالت وهي تتنهد: كل يوم تقول لي هذا يا كفراوي، وأنت تعرف أن جلال مات وتخفي عني يا كفراوي.
قال: لم يقل أحد إنه مات.
قالت: غيره كثير ماتوا يا كفراوي.
قال: وغيره رجع سليما يا زكية. اصبري وصلي لربنا يرجعه بالسلامة.
قالت: ياما صليت وصليت يا كفراوي ...
قال: صلي تاني يا زكية وادعي ربنا يرجعه ويرجع نفيسة. يا ترى أين ذهبت يا نفيسة!
وانقطع صوتها المنخفض الشبيه بالأنفاس المتلاحقة المتقطعة، ودب من حولها صمت ثقيل من الظلمة، وظلت عيناهما مفتوحة شاخصة في الفراغ الأسود الممتد بطول الليل. •••
انفتح الباب الحديدي الكبير، وظهر منه عمدة كفر الطين، طويل القامة، عريض الكتفين، عريض الوجه، ورث نصف وجهه الأعلى عن أمه الإنجليزية: شعر ناعم وعينان زرقاوان من تحت جبهة عريضة مرتفعة، أما نصف وجهه الأسفل فقد ورثه عن أبيه المنحدر من الصعيد البعيد: شارب أسود كثيف، من فوقه أنف غليظ ومن تحته شفتان غليظتان توحيان بشراهة ونهم للملذات والشهوات. في عينيه، حين ينظر، قسوة مهذبة أشبه بالاستعلاء الإنكليزي، وفي صوته، حين يتكلم، غلظة رجال الصعيد، لكنها غلظة بغير عنف، يشوبها نوع من التواضع أشبه بالانكسار الذي يميز بعض الرجال في مصر أو الهند أو غيرها من البلاد التي استعمرت طويلا.
سار العمدة بخطواته البطيئة، تنسدل فوق كتفيه عباءة، ومن خلفه سار شيخ الخفر وشيخ الجامع. اجتازوا فناء الدار الكبير، ثم خرجوا إلى الشارع الضيق، رأوا في فتحة الباب المظلمة شبحين جالسين في الظلام. لم يروا ملامحهما، لكنهم عرفوا أنهما كفراوي وزكية. دائما يرونهما جالسين صامتين في الظلمة، وحينما يرون شبحا واحدا يعرفون أن كفراوي قد بات في الحقل.
في مثل هذا الوقت، كل ليلة، يذهب ثلاثتهم إلى الجامع لصلاة العشاء، ثم يعودون للجلوس في شرفة بيت العمدة المطلة على النيل، أو يعرجون إلى دكان الحاج إسماعيل، حلاق الصحة، فيجلسون معه أمام الدكان يدردشون ويدخنون الشيشة.
لم يدخن العمدة الشيشة في تلك الليلة. أخرج من جيبه سيجارا طويلا وأشعله وهو مقطب الجبهة. أدرك الحاج إسماعيل أن العمدة متوعك المزاج؛ فاختفى داخل الدكان لحظة ثم عاد وجلس إلى جوار العمدة، وهو يضع في يده قطعة حشيش، لكن العمدة هز رأسه ويده معرضا وقال: لا، لا أريد أن أدخن الليلة. - لماذا يا عمدة؟ - ألم تسمع الأخبار؟ - أي أخبار؟ - أخبار الحكومة. - أي حكومة؟ - عندنا كم حكومة يا حاج إسماعيل؟ - عندنا كثير يا عمدة. - هي حكومة واحدة! - في مصر أم في كفر الطين؟ - في مصر طبعا. - ونحن يا عمدة ماذا نكون؟
وضحك شيخ الخفر وهو يقول: نحن الحكومة وأبو الحكومة أيضا.
شاركه في الضحك الشيخ حمزاوي، وظهرت أسنانه الصفراء المصبوغة بالدخان، واهتزت السبحة الصفراء بين أصابعه.
لكن العمدة لم يضحك. ظلت شفتاه الغليظتان قابضتين على السيجار السميك، وعيناه الزرقاوان تنظران بعيدا بامتداد النيل، وامتداد شريط الحقول الموازي للنيل؛ شريط طويل ممتد بامتداد بصره، يكاد يحتل المساحة كلها بين كفر الطين والرملة، لكنه لم يتصور، حين كان يزور هذه الأرض مع أمه لبضعة أيام في الصيف، أن حياته سوف تنتهي في كفر الطين. كان يعشق حياة القاهرة، أنوار الكهرباء في الليل تسطع فوق الشوارع المرصوفة، كازينوهات النيل تتراقص أنوارها فوق سطح المياه الجارية، الكاباريهات ودور اللهو والرقص والشرب والنساء الفواحات بالعطر والميوعة. كان لا يزال طالبا في الجامعة، لكنه كان، بخلاف أخيه الأكبر، يكره الجامعة، ويكره أحاديث الطلبة عن الدروس، وأشد ما كان يكره هو أحاديث أخيه في السياسة.
تذكر الحاج إسماعيل أن جريدة الصباح لا تزال داخل الدكان على المنضدة الخشبية بجوار الميزان، فسحبها بهدوء وبسطها تحت فانوس النور، وحاول أن يقرأ العناوين الكبيرة، لكنه لمح صورة شقيق العمدة في الصفحة الأولى، ولم يستطع أن يقرأ الحروف الكثيرة الصغيرة تحتها، فهمس في أذن العمدة: هل الأمر يتعلق بأخيك؟
ورد العمدة: نعم.
وسأل في لهفة: هل أصابه مكروه لا قدر الله؟
رد العمدة في زهو: لا، بالعكس.
فرد الحاج إسماعيل: ماذا تقصد يا عمدة؟ هل حصل على منصب أعلى؟
وقال العمدة وهو ينفخ الدخان الكثيف من أنفه وفمه: نعم.
وصفق الحاج إسماعيل بيديه مهللا في سرور: إذن نشرب الشربات يا جماعة.
ودبت الحركة أمام الدكان، وبدأت الجريدة تنتقل من يد الشيخ حمزاوي إلى يد شيخ الخفر، ودخل الحاج إسماعيل إلى الدكان، ثم عاد وفي يده الزجاجة والأكواب.
لم يفهم العمدة سر اكتئابه منذ رأى صورة أخيه في الجريدة. هذا الاكتئاب يعرف مذاقه في فمه، مرارة أو ما أشبه بالمرارة، وجفافا في الحلق يعقبه حرقان في الصدر يتجمع على شكل ألم غامض، ولكنه حاد ينتشر في البطن بادئا من المعدة.
كان وهو صغير يسير إلى الحمام ويفرغ الطعام من معدته، ثم ينظر في المرآة أعلى الحوض فيرى وجهه شاحبا وشفتيه صفراوين وعينيه منكسرتين وفوقهما غشاوة. يغسل فمه بالماء ليتخلص من المرارة، وحينما يرفع رأسه مرة أخرى وينظر في المرآة، يرى وجه أخيه متورد البشرة، عيناه تلمعان بزهو بالانتصار، ويرن صوته في أذنه قائلا: «أنا ناجح وأنت فاشل»! يبصق الماء من فمه على وجه أخيه في المرآة، ويشد عضلات عنقه وظهره ويقول: «أنا أحسن منك»!
من يراه خارجا من الحمام يظن أنه هو الذي نجح، لا أخوه، وتضيع المرارة من فمه، ويعود إلى شفتيه لونهما الوردي وإلى عينيه بريقهما، ويضحك ويمرح ويقهقه، وقد يبلغ به المرح أن يداعب أمه وهي جالسة تشتغل التريكو، ويشد منها الخيط أو البكرة؛ فإذا بأمه تسلط عليه عينيها الزرقاوين الغاضبتين، وتقول بلهجتها الإنجليزية الصارمة: «أخوك أحسن منك.» وقد تسحب الجريدة من جوارها وتشير إلى اسم أخيه المنشور في إحدى الصفحات وتقول: «أخوك نجح ... أما أنت.»
تتجمد الضحكة في حلقه كالغصة، يبتلع ريقه بصعوبة، مدركا أن مرحه السابق لم يكن مرحا حقيقيا، وأن إحساسه بأنه أحسن من أخيه إحساس زائف. وتسيطر عليه حقيقة أن أخاه أحسن منه كالعرق البارد اللزج ينتشر فوق وجهه ويسيل بطيئا في أنفه وفمه، يعرف مذاقه المر، ويعرف أن المرارة ستزحف إلى صدره وبطنه، وقد يسير إلى الحمام مرة أخرى ليتقيأ أو يكتفي بالبصق عدة مرات في الحوض.
كان الحاج إسماعيل يشرب الشربات من الكوب النحاسي، حين رأى العمدة يبصق على الأرض، ثم يشد عضلات ظهره وعنقه، وتكسو عينيه الزرقاوين نظرة استعلاء وزهو، وكأنه يقول: «أنا أحسن منكم، أنحدر من أسرة راقية، أمي إنجليزية، وأخي أحد الذين يحكمون البلد!»
انكمش الحاج إسماعيل فوق الدكة الخشبية متفاديا عيني العمدة. كان ينوي أن يمزح معه، أو يروي له آخر نكتة كما كان يفعل أحيانا، لكنه نظر إلى صورة أخيه في الجريدة وهو جالس متغطرس داخل بدلة أنيقة بين كبار القوم، ثم رمق رفوف دكانه الخشبية المشققة يعلوها التراب وبضع علب من الصفيح صدئة، وانتقلت عيناه إلى عباءة العمدة الثمينة، ثم تحسس بظهر يده جلبابه الخشن.
رأى العمدة الحاج إسماعيل يرفع الكوب ويفرغ الشربات من جوفه دفعة واحدة، كأنما هو جرعة من الزيت الخروع، فضحك وضربه مداعبا على ركبته وهو يقول: أنتم يا فلاحين تشربون الشربات بالطريقة التي نشرب بها نحن الدواء.
ضحك الحاج إسماعيل متخففا بعض الشيء من الشعور بالمهانة والضعة، وقد أعاد إليه مزاح العمدة بعض ثقته بنفسه، وقلل من المسافة الكبيرة القائمة بينهما، وقال مشجعا العمدة على مواصلة المزاح: نحن الفلاحين يا عمدة لا نعرف حلاوة الشربات من مرارة الدواء.
صمت العمدة لحظة مفكرا، وأدرك الحاج إسماعيل بعد أن رنت الجملة في أذنه أنها قد توحي للعمدة بمعنى بعيد لم يقصده، أو على الأقل لم يقصده بوعي، فقال وهو يضحك: أقصد يا عمدة أن كل شيء في فم الفلاحين له طعم مر.
ظل العمدة صامتا، وخيل للحاج إسماعيل أن التوفيق خانه في مزاحه مع العمدة، وأن ما قاله قد يعني من بعيد أو قريب أن حياة الفلاحين مرة كالعلقم، وأن هذا قد يعني بالتلميح أو بالتصريح أن الحكومة كاذبة في ادعائها أنها ترعى الفلاحين وتوفر لهم حقوقهم، وأن العمدة بصفته مندوب الحكومة في كفر الطين يستغل الفلاحين مثل غيره من الحكام، وأن أمواله التي ينفقها بغير حساب على أكله وشربه ودخانه ونسائه هي أموال مسلوبة من عرق ودم الفلاحين.
كان من الممكن أن ينزوي الحاج إسماعيل مرة أخرى في الركن يلعن غباءه ويقول لنفسه: «جيت تكحلها عمتها»، لولا أن رأى عيني العمدة تلمعان فجأة وهو يتطلع ناحية النيل، وبسرعة حرك الحاج إسماعيل رأسه فرأى فتاة مرفوعة الظهر مرفوعة الرأس، وعيناها السوداوان الواسعتان مرفوعتان وفيهما شمخة نساء أسرة كفراوي.
وقرب العمدة رأسه من رأس الحاج إسماعيل وقال : هذه تشبه نفيسة.
ورد الحاج إسماعيل بسرعة: إنها زينب، أختها الأصغر يا عمدة.
وسأل العمدة: لم أكن أعرف أن نفيسة لها أخت.
أدرك الحاج إسماعيل على الفور ما يدور في رأس العمدة، فقال محاولا كسب وده: الاثنان أحلى من بعض يا عمدة.
وغمز العمدة بعينه للحاج إسماعيل، وهو يضحك: الأصغر دائما أحلى.
ضحك الحاج إسماعيل ضحكة كبيرة، شافطا بأنفه وفمه كما من الهواء، شاعرا بانتعاش، مزيحا الكآبة من فوق صدره، موقنا بعد طول شك أن العمدة لم يتغير بعد صعود أخيه إلى الحكم، وأنه لا يزال يمازحه كما يمازح الند، ويفتح له قلبه كالصديق.
وهمس في أذن العمدة وهو يغمز له بعينيه: صدقت يا عمدة، الأصغر دائما أحلى.
سكت العمدة طويلا وعيناه تتبعان جسد زينب الفارع الممشوق وهي تسير فوق الجسر، ردفاها المستديران يضربان الجلباب الطويل من الخلف، ونهداها المدببان يصعدان ويهبطان مع حركة ساقيها الطويلتين الممشوقتين المنتهيتين إلى كعبين ناعمين متوردين.
قال العمدة موجها كلامه إلى شيخ الخفر: إني أعجب يا شيخ الخفر من أين يطعم هذا الكفراوي بناته. انظر! إن الدم يكاد يندفع من كعبيها.
وضحك شيخ الخفر مبتلعا الهواء بعد طول اختناق وصمت، متصورا أن إعراض العمدة عنه وإقباله على الحاج إسماعيل معناه أنه غير راض عنه، وقال وهو يسترد مرحه القديم: لا بد أنه يسرق يا عمدة. أتحب أن نضعه في السجن؟ أوامرك يا حضرة العمدة!
ونهض شيخ الخفر بحركة تمثيلية، وقال بصوت مسرحي كأنما ينادي على أحد مساعديه من الخفراء: «هات يا ولد الكلابشات والسلاسل!»
ضحك العمدة مقهقها، وضحك معه الرجال الثلاثة ومن بينهم الشيخ حمزاوي الذي توقف عن شفط الهواء من الشيشة. ضحك بشدة مظهرا أسنانه الصفراء المتآكلة، واهتزت السبحة الصفراء بين أصابعه.
وقال العمدة بعد أن هدأت القهقهات مخاطبا أيضا شيخ الخفر: لا يا شيخ زهران! كفراوي ليس من النوع الذي يمكن أن يسرق.
ورد الشيخ حمزاوي بلهجته القاطعة الحاسمة وكأنه يرتل آية قرآنية أو ينطق بحديث نبوي شريف: كل الفلاحين يسرقون، السرقة تجري في دمهم مثل دودة البلهارسيا؛ الواحد منهم يتظاهر أنه طيب وأهبل ويعرف ربنا، وهو في الحقيقة معلون مكار وكافر ابن كافر. الواحد منهم يا عمدة يصلي ورائي في الجامع، ثم يذهب إلى الحقل ليسرق أخاه أو يسمم بهائمه أو حتى ...
وسكت قليلا ليبتلع ريقه ويختلس نظره إلى وجه العمدة، فلما رآه مشجعا، قال بحماس وحدة: أو حتى يزني أو يقتل!
وكأنما تعدى الشيخ حمزاوي على اختصاص شيخ الخفر، فرفع الشيخ زهران ساقه اليمنى ووضعها فوق الساق الأخرى مزيحا جلبابه عن حذائه الجديد وقال: أما عن الزنا والقتل، فاسألوني أنا شيخ الخفر.
ثم ابتسم للعمدة في تودد وقال متسائلا: ألا يا عمدة وأنت سيد العارفين، هل الناس في مصر مثل الناس في كفر الطين؟
ورد الشيخ حمزاوي بسرعة: الناس كلها فسدت يا شيخ زهران، والبلد لم يعد بها إسلام ولا مسلمون.
لكنه رأى نوعا من الاستياء يظهر على وجه العمدة فقال متداركا: فيما عدا بالطبع الناس الأكابر ذوي الأصل العريق والحسب والنسب من أمثال سيدنا العمدة.
وأسرع ودعم كلامه بأحد الأحاديث أو الآيات التي أسعفته بها ذاكرته المرتخية بفعل دخان الشيشة، ورتل بصوت وقور مهيب: قل اسألوا عن الأصل؛ إن العرق دساس ...
مط العمدة شفتيه الغليظتين في وجه شيخ الجامع الذي حول الحديث من كعبي زينب المتوردتين إلى الإسلام والمسلمين، واتجه نحو الحاج إسماعيل: بصفتك الطبيب المداوي هنا، كيف يمكن للكفراوي ذي البشرة السمراء القاتمة والسيقان المعوجة أن ينجب بنات مثل القشدة؟
ورد الشيخ حمزاوي ضاحكا؛ ليمسح من ذاكرته صورة شفتي العمدة وهما ممطوطتان في وجهه: يخلق من ظهر العالم فاسد.
وتجاهل العمدة تعليقه وقال موجها كلامه للحاج إسماعيل: ما رأيك يا حاج إسماعيل؟
كان حلاق الصحة لا يزال يعيد في أذنه كلمة «الطبيب المداوي» بصوت العمدة، ويشعر كأنما منحه العمدة بهذه الكلمة شهادة بكالوريوس الطب، وأصبح رأسه برأس أي طبيب في البلد، فمط عنقه طويلا وشرد بعينيه الضيقتين في الأفق شرود العارفين والعلماء والذين انكشفت أمامهم الأسرار والحجب ثم قال: والله يا عمدة، والعلم لله سبحانه وتعالى، هذه المسألة لها تفسير بكل تأكيد، وهو أن أم نفيسة توحمت وهي حامل بها على صحن من القشدة، أو أنها قبل أن تحمل بزينب ركبها عفريت أبيض.
ضحك العمدة وقهقه طويلا ملقيا رأسه إلى الخلف، وقال مازحا مستنجدا بشيخ الخفر: الأرواح والعفاريت تزاحمنا يا شيخ في ركوب النساء!
وهب شيخ الخفر واقفا بحركته المسرحية السابقة قائلا: هات يا ولد الكلابشات والسلاسل، امسك العفاريت يا ولد ...
ثم همس وهو يبصق في عبه: اللهم اجعل كلامنا خفيفا عليهم.
ضحك الجميع، وكان أشدهم ضحكا هو الشيخ حمزاوي الذي حاول مرة أخرى أن يذيب الثلج بينه وبين العمدة فهمس في أذنه: نساء أسرة كفراوي يا عمدة معروف عنهم منذ زمن أن عيونهم مفتوحة عن آخرها.
ورد العمدة ضاحكا: عيونهم فقط يا شيخ حمزاوي؟
وانفجر الجميع في الضحك مرة أخرى، وارتفعت القهقهات في الظلمة الساكنة فوق سطح النيل، قهقهات صادرة عن صدور تخففت إلى حد كبير من كآبتها ومرارتها.
حتى العمدة نفسه شعر أنه قد تخلص نهائيا من المرارة التي بدأت منذ اللحظة التي رأى فيها صورة أخيه في الجريدة، وأصبح في غير حاجة إلى السهر أو السمر، فتثاءب بصوت عال، فاتحا فمه مظهرا صفين من الأسنان البيضاء الحادة الطويلة المدببة كأسنان ثعلب أو ذئب، وقال بصوت آمر وهو ينهض ناظرا في ساعته: هيا بنا ...
فأصبح الرجال الثلاثة وقوفا على أقدامهم في أقل من غمضة عين. •••
ساوت بكفها التراب، ملقية بضع قطع من الحجر والزلط في بطن الجسر، ثم اتكأت بذراعها فوق الأرض، وجلست مسندة ظهرها إلى جذع شجرة جميز. سرت في جسدها الساخن رطوبة الأرض، وتسرب إلى عظام ظهرها المرهقة شيء ندي من جذع الشجرة، فأسندت رأسها إليه، ومسحت وجهها فيه، لاعقة بلسانها الجاف لبنه الأبيض كالندى.
ذكرها الجذع بالضرع السخي الدافئ الذي ما إن كانت تلمسه بشفتيها حتى ينسكب اللبن الدافئ في فمها. مسحت بطرف كمها حبة عرق سقطت من منتصف جبهتها فوق أنفها، وامتدت يدها تمسح عينيها، لكنها وجدتهما جافتين فهمست بغير صوت: «الله يرحمك يا أمي.»
رفعت وجهها إلى السماء فسقط ضوء الفجر على عينيها الواسعتين المرفوعتين إلى أعلى كعيني عمتها زكية، فيهما غضب لكنهما غير متحديتين، تطفو عليهما سحابة متحركة كالقلق أو الضياع أو الخوف من المجهول. تاهت عيناها في السماء الضخمة الممتدة فوق رأسها، وانتابتها رعشة حين رأت الأرض تلتحم بالسماء في الأفق البعيد، وقرص الشمس يبرز من بينهما شيئا فشيئا، يلون الحقول والنيل بضوء برتقالي. رفعت طرف طرحتها السوداء وأخفت وجهها قبل أن يسقط عليه ضوء النهار، ونظرت أمامها فرأت النيل هو النيل، والجسر ممتد بغير نهاية. نظرت خلفها ورأت النيل هو النيل، والجسر ممتد أيضا، ولكن في نهايته كانت تعلم أن هناك كفر الطين، وهناك بيتهم الطيني الصغير وإلى جواره بيت عمتها زكية، يواجهه البيت الكبير ذو الباب الضخم والعمدان الحديدية.
كانت تزحف على بطنها أمام البيت في الحارة المتربة، وحين ترفع رأسها ترى الأعمدة الحديدية كالسيقان الطويلة الضخمة تتحرك نحوها وتكاد تسحقها وتصرخ من الخوف تحملها الذراعان الكبيرتان وتشم رائحة أمها كرائحة الجميز، وتناولها أمها حبة جميز تأكلها بنهم والدموع لا تزال في عينيها.
منذ طفولتها وهي تشعر بخوف من منظر ذلك الباب ذي الأعمدة الحديدية الضخمة. تسمع الناس من حولها يشيرون إليه دون أن يقتربوا منه، وأصواتهم العالية تتحول إلى همس حين يمرون من جواره، وعيونهم المرفوعة الغاضبة والقاسية أحيانا تتحول إلى عيون منكسرة بغير غضب وبغير قسوة، وتمتلئ أحيانا بالرضا أو الاستسلام بل بالخضوع والخوف.
بعد أن تعلمت المشي وأصبحت تمشي وراء الحمارة أو تسحب الجاموسة إلى الحقل أو تحمل الزلعة لتملأها من النيل، كانت تتفادى دائما المرور من أمام ذلك الباب، وتلف من وراء البيوت الطينية لتصل إلى الجسر من الناحية الأخرى. كانت قد أدركت أن هذا الباب الحديدي لا يقود إلا إلى البيت الكبير الضخم، لكن إحساسها الأول ظل يوحي إليها من حيث لا تدري أن وراء هذه الأعمدة الحديدية ماردا ضخما أو عفريتا من العفاريت يسير على عشرين ساقا حديدية طويلة تتحرك نحوها لتسحقها.
بعد أن كبرت أكثر، لم تعد تلف من وراء البيوت الطينية، وأصبحت تمر من أمام الباب الحديدي، مدركة أن البيت لا يسكنه عفاريت، وإنما العمدة وزوجته وأولاده. لكن جسدها كان، كلما مرت من أمام الباب أو سمعت أحدا يقول «العمدة»، ينتفض انتفاضة تحس بها قوية، ثم أصبحت من بعد أن كبرت غير محسوسة وإن ظلت موجودة.
لم تنم تلك الليلة حين جاءها أبوها وأمرها أن تذهب إلى بيت العمدة في الصباح. لم تكن بلغت الثانية عشرة بعد، وظلت طول الليل تتخيل شكل حجرات بيت العمدة، والحمام الأبيض البلور الذي يستحم فيه العمدة باللبن، كما سمعت من بعض أطفال الجيران، وزوجة العمدة ذات الوجه الأبيض كالبلور والساقين العاريتين حتى منتصف الفخذين كما سمعت من أمها، وابن العمدة الذي له حجرة خاصة مليئة بالمسدسات والبنادق والطيارات التي تطير بحق وحقيق، والعمدة نفسه الذي كانت تجري وتختبئ في البيت كلما رأته سائرا بين الرجال ومن فوق جسده عباءة كبيرة.
في الصباح الباكر قبل أن يظهر أول خطوط الشفق الأحمر، كانت قد نهضت وغسلت شعرها ودعكت كعبيها بالحجر وارتدت الجلباب المغسول والطرحة السوداء في انتظار الشيخ زهران الذي سيأتي ليأخذها إلى بيت العمدة؛ لكن ما إن وصل الشيخ زهران حتى اختفت فوق الفرن، وراحت تبكي وتصرخ وترفض الذهاب. سمعت صوت شيخ الخفر يقول: عمدتنا رجل كريم وزوجته ابنة أصل، وسوف تأخذين في اليوم الواحد عشرين قرشا. أترفضين يا عبيطة كل هذا الخير، أم أنكم تفضلون الفقر والجوع مع الكسل؟
قالت وهي لا تزال مختبئة فوق الفرن تبكي: أنا أعمل هنا في دار أبي يا عم زهران، وأشتغل في الحقل طول النهار. لست كسلانة، ولكنني لا أريد الذهاب إلى هذا البيت.
تركها شيخ الخفر قائلا لأبيها: أنتم أحرار، ليس لكم نصيب في الخير. ألف واحدة في الكفر تتمنى أن تخدم في بيت العمدة، ولكنه اختار ابنتك يا كفراوي؛ لأنه يقول إنك رجل طيب وأمين وأهل ثقة. ماذا يقول العمدة الآن إذا قلت له إنكم رفضتم؟
وقال كفراوي: أنا موافق يا شيخ زهران، ولكن البنت رافضة كما ترى.
ورد شيخ الخفر بحدة: وهل كلام البنت هو الذي يمشي هنا في بيتك يا كفراوي؟
وقال كفراوي: كلامي أنا الذي يمشي يا شيخ زهران، ولكن ماذا أفعل؟
ورد الشيخ زهران بحدة أشد: ماذا تفعل؟ وهل هذا سؤال يسأله رجل. اضربها يا أخي. ألا تعرف أن البنات والنسوان لا يسمعن الكلام إلا بالضرب.
ونادى كفراوي عليها أول الأمر بصوت حازم قائلا: يا بنت يا نفيسة، انزلي بسرعة وتعالي هنا.
وحينما لم تظهر نفيسة، صعد إليها أبوها فوق الفرن، وضربها وشدها من يدها وسلمها لشيخ الخفر.
سمعت صوت العجلات الخشبية تصطك بالأرض، فرفعت رأسها لترى العربة الكارو يجرها حمار منهك. رفع الحمار رأسه متثائبا في ضجر، وارتفع نهيقه في الجو كالأنفاس الممزقة أو النشيج المتقطع. مرت العربة بها وهي جالسة، والتقت عيناها بعيني الحمار فوجدتهما مبللتين بالدموع. رفعت بيدها طرحتها السوداء لتخفي وجهها حين رمقها الرجل الجالس فوق العربة، لكنها عرفت من ملامحه أنه ليس من كفر الطين، فنادت عليه وهي تنهض: يا عم، والنبي يا عم تأخذني معك إلى الرملة.
رآها الرجل وهي واقفة فوق الجسر، ولمح ارتفاع بطنها فكاد أن يظن بها الظنون، لولا أنه رأى عينيها الواسعتين المرفوعتين إلى أعلى في غضب أشبه بالكبرياء، وظهرها مرفوع بالرغم من أن حركة جسدها البطيئة تنم عن إرهاق شديد.
وقال بصوت غليظ: اركبي.
اتكأت بذراعيها على العربة ثم شدت جسمها بقوة وصعدت. جلست إلى جواره صامتة تنظر إلى الطريق بعينيها المرفوعتين، رمق بطنها المرتفع ثم سألها: ذاهبة إلى زوجك في الرملة؟
لم يتحرك جفناها المرفوعين وقالت: لا.
سكت قليلا ثم قال: تركت زوجك في كفر الطين؟
ظلت شاخصة في الطريق وقالت: لا.
أصبحت عيناه أكثر جرأة في فحصها، ورأى يديها كبيرتين خشنتين ومعصميها خاليين من الأساور، فأدرك أنها ابنة فلاح فقير تفحت الأرض وتعزقها، لكنها نظرت إليه فرأى في عينيها المرفوعتين شيئا لم يره في عيون بنات الفلاحين الفقراء. ليس هو الغضب، وليس هو الكبرياء، وإنما شيء أشد منهما لم يره من قبل. تذكر فجأة أنه وهو طفل تسلق سور بيت العمدة لينظر في عيني ابنته الواقفة في الشرفة، لكن شيخ الخفر ضربه بعصا فهرب جريا. طوال سنوات طفولته وهو يحلم بأن ينظر مرة واحدة في عيني ابنة العمدة. لم يكن يعرف لماذا، وظل طوال حياته لا يعرف لماذا، ولم يهمس لأحد أبدا برغبته الغريبة شبه المجنونة.
حول رأسه ناحيتها لينظر في عينيها، فنظرت إليه والتقت عيونهما، ولاحظ أنها لم تحول عينيها بعيدا أو تخفضهما، كما تفعل بنات الرملة أو كفر الطين، وظلت عيناها مرفوعتين شبه متحديتين كعيني رجل غاضب. حرك عينيه بعيدا عنها وهو يقول لنفسه: «لا يبدو عليها أنها هاربة أو خائفة.»
رمق قدميها الحافيتين المشققتين يعلوها التراب والطين ثم قال: مشيت طويلا؟
قالت وهي شاخصة إلى الطريق: نعم.
قال: الليل كله؟
قالت: نعم.
سكت فترة. تصور فتاة صغيرة مثلها سائرة وحدها في الليل بين الحقول والطرق الزراعية حيث يرقد الذئاب والثعالب وقطاع الطرق. ظل صامتا ناظرا أمامه ثم قال: الليل خطر.
قالها بلهجة غريبة كأنما يريد أن يخيفها، كأنما يريد أن يرى هذين الجفنين المرفوعين يرتعشان ولو لحظة، لكن جفنيها لم يتحركا، وظلت عيناها مرفوعتين إلى أعلى، وقالت وهي لا تزال شاخصة إلى الطريق: الليل أكثر أمانا من النهار يا عم.
ظل صامتا ناظرا إلى الأمام، ملامحه جامدة كملامح طفل ضرب بالعصا منذ لحظة ورفض أن يبكي. شعر بشيء يضغط على صدره كدموع مكبوتة منذ زمن، منذ ضربه شيخ الخفر. لو أنها حركت رأسها ناحيته الآن وابتسمت له، لألقى رأسه على صدرها وبكى. لو رأى هذين الجفنين المرفوعين ينخفضان أمام عينيه لو لحظة؛ ربما خف هذا الضغط على صدره، لكنها لا تبتسم له، وهي لا تنظر إليه، بل إنها حين تنظر إليه يدرك أنها تفكر في شيء آخر أكبر منه. أخرج من جيب جلبابه لفافة دخان أو قطعة معسل أو أفيون أو حشيش، ابتلع لعابه المر في جوفه وسعل بشدة ليطرد من صدره الإحساس بالمهانة. أطرق برأسه لحظة وهو يدرك أن هذا هو الإحساس الوحيد الذي لازمه طوال حياته.
زم شفتيه ولسع ظهر الحمار بالعصا الرفيعة، كما يلسع شيخ الخفر طفلا فقير الأب والأم. أصبح راغبا الآن في أن يصل إلى الرملة بأسرع ما يمكن، وأن تختفي هذه المرأة من فوق عربته بأسرع ما يمكن.
أسرعت العربة الكارو تهتز وتتأرجح فوق الأرض المتربة المتعرجة، وأنفاس الحمار اللاهثة مسموعة في أذنها، بطيئة ورتيبة ومتقطعة كدقات العجلات الخشبية فوق الأرض، وكالدق الرتيب في صدرها وبطنها. بدأت ترى الشمس تعلو في السماء والحقول تختفي، وتظهر البيوت الطينية المتلاصقة المتساندة إلى بطن الجسر، ونساء يحملن الجرار ظهرن فوق الجسر، والأطفال والذباب استيقظوا معا وملئوا الجو بالطنين، وأسراب الجاموس والبقر تسير بخطواتها البطيئة الثقيلة تملأ الجو بالتراب، ومن خلفها نساء أو رجال يحملون الفئوس ويتثاءبون في ضجر.
خيل إليها أنها عادت إلى كفر الطين، فرفعت طرحتها السوداء وأخفت وجهها، لكنها سمعت صوت الرجل الغليظ يقول: انزلي.
سألت: أهذه هي الرملة يا عم؟
رد دون أن يلتفت نحوها: نعم.
اتكأت بذراعيها فوق العربة لتهبط؛ ومالت العربة تحت ثقل جسمها، ثم اعتدلت حينما انتقل الثقل من فوق العربة إلى الأرض. أصبحت العربة معتدلة وخفيفة، وصدره أيضا أصبح معتدلا وخفيفا، وكأنما انتقل الثقل من فوق صدره وأصبح فوق الأرض، تنوء به الأرض كما ناء به من قبل. سمع صوت قدميها الحافيتين الثقيلتين تدبان فوق الأرض، فلسع الحمار بالعصا وتحركت العربة. كاد أن يحرك رأسه إلى الخلف وينظر إليها مرة أخيرة، لكنه ظل شاخصا إلى الأمام، ولسع الحمار مرة أخرى فانتفض الحمار وانتفضت معه العربة تضرب الأرض بعجلاتها الخشبية الكبيرة.
رأت نفيسة العربة من الخلف تهتز وتأرجح، وظهر الرجل نحيلا بارز العظام كظهر أبيها، واختفت العربة بعد قليل، واختفى معها ظهر الرجل، لكن صوت العجلات الخشبية ظل يرن في أذنيها متحشرجا لاهثا كأنفاس الحمار المتقطعة ، يتخلله من حين إلى حين سعال الرجل الخشن الممزق كسعال أبيها حين يشفط الدخان الأسود بأنفه وفمه.
حين وصلت إلى الجامع، انحرفت ناحية اليمين لتجد الخرابة الواسعة كما وصفتها لها أم صابر. وفي نهاية الخرابة بيت طيني صغير، له باب خشبي كبير، من فوقه مطرقة حديدية، وإلى جواره طلمبة ماء. أدارت الطلمبة وشربت بكفها بعض الماء، ثم سارت نحو الباب الخشبي ودقت المطرقة.
سمعت صوتا ممطوطا يشبه صوت نفوسة الغازية في كفر الطين يهتف من خلف الباب: مين؟
وردت بصوت خافت: أنا.
وعاد الصوت الممطوط: أنت مين؟
وقالت وهي تبتلع ريقها: أنا نفيسة؟
وعاد الصوت الممطوط: نفيسة مين؟
قالت وهي تمسح حبة عرق سقطت من فوق أنفها: خالتي أم صابر أرسلتني إليك يا خالة نفوسة.
دب السكون لحظة، سمعت خلاله نفيسة أنفاسها ودقات قلبها. ثم سمعت الباب الثقيل ينفتح وحده دون أن يظهر أحد، كأنما حركته يد عفريت من العفاريت.
ظلت واقفة بغير حركة كتمثال جامد، وحينما مدت قدمها لتدخل أدركت أنها ترتعد. •••
قبل أن يرتفع في الظلمة أذان أول ديك، فتحت فتحية عينيها، أو ربما كانت عيناها مفتوحتين من قبل، ورأت زوجها راقدا على ظهره وقد انفتح فمه وراح يشخر بصوت غليظ أشبه بالحشرجة، أنفاسه ثقيلة برائحة الدخان والشيشة، وأسنانه صفراء متآكلة، وخشخشة سعال وبصاق تجمع طول الليل في صدره.
لكزته بيدها في كتفه لتوقظه، لكنه انقلب على جنبه معطيا ظهره لها وهو يزمجر ببعض حروف غير مفهومة. ارتفع في الجو مرة أخرى أذان الديك فلكزته بيدها بقوة مرة أخرى، وهي تقول: يا شيخ حمزاوي، الديك صحا وأذن لصلاة الفجر وأنت لا تزال تشخر.
فتح الشيخ حمزاوي عينيه وهو يزم شفتيه ليبتلع في صمت هذه الكلمات التي لكزته كاللكمات في جنبه، نهض دون أن ينطق، فزوجته فتحية ليست مثل زوجاته السابقات. لم تكن واحدة منهن تجرؤ على أن تفتح عينيها في عينيه، أو تقول له كلمة، أو تقارنه بأي رجل في كفر الطين، فما بال هذه هي التي تقارنه بالديك بل تقول إن الديك أفضل منه؟ لكنه لم يعد يهمه أن يكون ديكا أو غير ديك؛ فقد استطاع أن يتزوجها رغم أنفها، وأن يعيش معها كل هذه السنوات رغم أن وصفة الحاج إسماعيل لم تنفع وحجابه لم يفعل شيئا. رآها لأول مرة حين كان جالسا كعادته أمام دكان الحاج إسماعيل، لمحها وهي تخطر بجسدها اللدن فوق الجسر حاملة الجرة. همس في أذن الحاج إسماعيل: ابنة من هذه؟
ورد الحاج إسماعيل: فتحية ابنة مسعود.
وقال الشيخ حمزاوي بشيء من الاغتباط: أبوها رجل فقير، وسوف يرحب بي بلا شك.
قال الحاج إسماعيل: أتقصد أنك تريد أن تتزوجها يا شيخ حمزاوي؟
رد الشيخ: لم لا يا حاج إسماعيل؟ تزوجت ثلاث مرات دون أن يكون لي ولد، أنا نفسي في ولد قبل أن أموت.
قال الحاج إسماعيل: إنها طفلة في عمر أحفادنا وليس أولادنا. ثم أنت تعرف أنها لن تنجب مثل زوجاتك السابقات.
أطرق الشيخ حمزاوي إلى الأرض وظل صامتا والسبحة في يديه لا تتوقف. ضحك الحاج إسماعيل بعد أن تأمله قليلا ثم قال: يبدو أنها أكلت عقلك يا شيخ حمزاوي.
انفرجت شفتا حمزاوي عن ابتسامة ولمعت عيناه وهو يقول: منظرها يرد الروح إلى الجسد يا حاج إسماعيل. ياما كان نفسي في أنثى كهذه.
قال الحاج إسماعيل: من ناحية أنها أنثى فهي أنثى، وعيناها كلهما شبق، ولكن هل تستطيع يا شيخ حمزاوي أن تحكمها ... أقصد هل تقدر عليها وأنت في هذه السن؟
وقال الشيخ حمزاوي: أقدر عليها وعلى أبيها يا حاج إسماعيل! الرجل لا يعيبه إلا جيبه.
قال الحاج إسماعيل: ماذا تفعل لو عشت معها سنوات وسنوات ولم تلد الولد؟
رد الشيخ حمزاوي: ربنا كبير، أزمة وتزول يا حاج. من يدري؟ ربما ينفخ الله في صورتي ويمنحني قوة من عنده.
ضحك الحاج إسماعيل: هذا الكلام تقوله للناس وليس لي يا شيخ حمزاوي. أنت شكوت لي من حالتك مرارا. كيف يمكن أن يمنحك الله قوة من عنده؟ أتعني الله سي...
قال الشيخ حمزاوي مقاطعا : يحيي العظام وهي رميم يا حاج إسماعيل. ثم إنك قلت إن حالتي غير ميئوس منها، وإنني يمكن أن أشفى ...
قال الحاج إسماعيل: ولكنك لم تسمح نصحي ولم تتبع علاجي يا شيخ حمزاوي ... سمعت كلام الدكاترة واشتريت أدويتهم بدم قلبك ولم تحصل على أية نتيجة. قلت لك إن الدكاترة لا يعرفون شيئا، وإن أدويتهم لا تشفي أحدا، لكنك لم تصدقني وصدقتهم. وماذا كانت النتيجة؟ فقدت مالك وبقيت على حالك ... أليس كذلك؟
وقال الشيخ حمزاوي: نعم نعم يا حاج إسماعيل، ولكن الواحد منا لا يتعلم بالمجان. وقد تعلمت وعرفت أن كل الدكاترة نصابون وجهلة، وأن الحكيم الوحيد في البلد هو أنت يا حاج إسماعيل، وها أنذا آتي إليك وأطلب منك الدواء بشرط أن تزوجني لفتحية ابنة مسعود. أما لو قدرت يا حاج على هذا فسوف يكافئك الله ويجازيك جزاء حسنا؛ لأنك خدمت الرجل الذي يخدم الجامع والدين.
وضحك الحاج إسماعيل قائلا: أنا وأولادي نموت من الجوع يا شيخ حمزاوي لو أننا انتظرنا جزاء الله.
ورد الشيخ حمزاوي بسرعة: طبعا سأعطيك يا حاج إسماعيل وأجزل لك العطاء، وأنت تعرفني.
قال الحاج إسماعيل: أنت رجل كريم من بيت كريم، وفوق ذلك أنت رجل التقوى والصلاح في كفر الطين. توكل على الله ولا تفكر في هذا الموضوع. اتركه لي، وليس عليك إلا أن تعود إلى وصفتي القديمة والماء الدافئ بالملح والليمون والبخور كل ليلة حتى تحترق الشبة عن آخرها، ثم تمسك السبحة وتسبح بحمد الله تسعا وتسعين مرة، ثم تلعن زوجتك الأولى ثلاثا وثلاثين مرة. ألم تكن قويا معها يا شيخ حمزاوي؟
قال الشيخ حمزاوي بتحسر: كنت كالحصان.
قال الحاج إسماعيل: هي التي عملت لك العمل، وأنا أعرف من الذي عمل لها الحجاب. إنه ليس من كفر الطين، ولكني أعرف سره، وأعرف كيف أبطل سحره. المهم أن تتبع نصيحتي هذه المرة وسوف يشملك الله بخير كثير.
وهمس الشيخ حمزاوي: وفتحية، متى سأدخل بها يا حاج إسماعيل؟
قال الحاج إسماعيل: عن قريب إن شاء الله.
وسأل حمزاوي: والولد؟ أظن أن هذا مستحيل يا حاج إسماعيل.
رد الحاج إسماعيل: ما من مستحيل أمام الله يا شيخ حمزاوي، وأنت رجل مؤمن، تقي، صالح. ألا تعرف أن الله قادر على كل شيء؟
وهتف الشيخ حمزاوي وهو يسبح: سبحانه ... سبحانه ...
تمتم الشيخ حمزاوي وهو ينهض والسبحة تتراقص بين أصابعه: سبحانه ... سبحانه ... سبحانه ... ارتدى الجبة والقفطان والعمامة وهو يسبح، ثم سار بجسده النحيل المقوس الظهر ناحية الباب. سمع صوت فتحية تئن أنينا خافتا. لم يعرف ما الذي دهاها هذه الأيام الأخيرة، لكنها لم تعد كما كانت، ولم تعد تغضب، وكل يوم يراها راقدة لا تغادر البيت ولا تلح في زيارة خالتها كما تعودت أن تفعل. كان يثور في كل مرة ويحاول أن يمنعها من الخروج. زوجة الشيخ حمزاوي كما قال لأبيها قبل الزواج ليست كالزوجات الأخريات؛ إنه الرجل القائم على الدين والأخلاق، رجل التقوى والصلاح في كفر الطين، وزوجة هذا الرجل لا يصح أن يراها أحد، ولا يظهر من جسمها للأقرباء المقربين إلا الوجه والكفان، تعيش معززة مكرمة في بيته لا ترى الشارع إلا مرتين، مرة حين تخرج من بيت أبيها إلى بيت زوجها، والمرة الثانية حين تخرج من بيت زوجها إلى مقبرتها، ورد أبوها وهو يهز رأسه: ونعم الرجال يا شيخ حمزاوي!
لكن فتحية اختبأت فوق الفرن ورفضت أن ترد على أحد. ناداها الحاج إسماعيل قائلا: ربنا سيتوب عليك من الشمس الحارقة والروث والطين والخبز المقدد والمخلل، ستعيشين في الظل والراحة تأكلين الخبز الأبيض واللحم، ستصبحين زوجة الشيخ حمزاوي الرجل التقي الصالح الذي يعرف الله ويرعى بيت الله ويؤم الناس في الصلاة.
لكن فتحية ظلت مختبئة ورفضت أن ترد. وقال الحاج إسماعيل لأبيها في غضب: ما العمل الآن يا مسعود؟
ورد مسعود: البنت رافضة كما ترى يا حاج إسماعيل.
وقال الحاج إسماعيل: أتعني أن كلام البنت هو الذي يمشي هنا في بيتك يا مسعود؟
وقال مسعود متحيرا: ولكن ماذا أفعل يا حاج إسماعيل؟
رد الحاج إسماعيل بغضب: ماذا تفعل! هل هذا كلام يقوله رجل؟ اضربها يا أخي، ألا تعرف أن البنات والنسوان لا يأتين إلا بالضرب؟
صمت مسعود قليلا ثم نادى عليها: يا بنت يا فتحية، تعالي هنا بسرعة؟
وحينما لم ترد، صعد إليها فوق الفرن وضربها وشدها من شعرها وسلم يدها ليد الشيخ التقي الصالح.
ضغط الشيخ حمزاوي يده فوق عصاه وهو يفتح الباب ليخرج، وأرهفت فتحية أذنيها من خلف الجدار وهي تسمع عصاه تخبط الأرض مع خبطات قدميه، الصوت نفسه لا يزال في أذنيها ولكن من خلف الشال السميك الذي كانوا يغطون به رأسها وجسمها، وهي تركب الحمارة ليلة زفافها وإلى جوارها يمشي الشيخ التقي الصالح بعصاه، وأبوها بجلبابه الجديد، وأم صابر بملاءتها السوداء. لم تكن ترى أم صابر من خلف الشال السميك، لكن ضغط أصبعها الحاد كان لا يزال كالمسمار المدبب بين فخذيها، يضغط ويضغط داخل اللحم باحثا عن الدم. لم تر البشكير الأبيض الذي غرق بدم العذرية الأحمر، لكن الزغاريد والطبل رن في أذنيها فمدت كفها الصغيرة من تحت الشال السميك ومسحت عينها وأنفها من العرق الذي كان يتصبب من جذور شعرها غزيرا يسيل فوق وجهها وخلف عنقها ويهبط في صدرها وظهرها، ويغرق ظهر الحمارة.
ظهر الحمارة كان محشورا بين فخذيها، يضغط على الجرح الذي كان لا يزال ينزف، ومع كل خطوة، وكل دقة طبلة، تهتز الحمارة ويرتطم ظهرها النحيل الصلب بالجرح المفتوح. وتنفرج شفتا فتحية عن صرخة مكتومة غير مسموعة، وتحس الدم الساخن يسيل من الجرح ويلتقي بالعرق اللزج الهابط من ظهرها ليبلل ظهر الحمارة من جديد.
حين وصلت الحمارة إلى بيت الشيخ التقي الصالح، وحملوها وأنزلوها على الأرض، لم تستطع الوقوف على قدميها فسقطت بين الأذرع التي حملتها كما تحمل زكيبة القطن وأدخلوها البيت.
لم تعرف أنها تركت الشارع وأصبحت داخل البيت إلا من الرائحة الراكدة الكريهة التي وصلت إلى أنفها، ظنت أن هذه هي رائحة التقوى والصلاح، لكنها تصل إلى أنفها كريهة بسبب فسادها هي وليس أي شيء آخر. لم تكن تعرف ما هو فسادها بالضبط، لكنها منذ طفولتها وهي تحس أنها فاسدة أو أن شيئا في جسدها فاسد، وحينما جاءت أم جابر وقالت لها إنها ستطهرها وتقطع من بين فخذيها الجزء الفاسد فرحت بسذاجة طفلة في السادسة، وذهبت أم صابر بعد أن قطعت الجزء الفاسد، وظل الجرح المؤلم ينزف أياما، لكن الفساد ظل في جسدها، تحسه في أعماقها كالبؤرة الفاسدة التي تنزف دائما، وفي أيام الحيض ترى النفور في عيون من حولها.
أما الشيخ حمزاوي فكان يبتعد عنها أيام الحيض كما يبتعد البريء عن الأبرص، وإذا ما لمست يده خطأ ذراعها أو كتفها استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وذهب إلى دورة المياه وغسل نفسه خمس مرات وتوضأ، ولم يكن يسمح لها أن تسمع القرآن أو تقرأه خلال هذه الأيام، فإذا ما انتهى الحيض واستحمت وتطهرت سمح لها بالصلاة، وتلاوة القرآن. لم تكن فتحية تعرف كيف تصلي، ولم يعلمها أحد شيئا من القرآن، وأصبح الشيخ حمزاوي يعلمها شيئا من القرآن. كل ليلة قبل أن تنام تجلس على سجادة الصلاة أمامه ويعلمها كيف تصلي. لم تكن تفهم الكلمات التي يرددها؛ كانت كلمات صعبة عليها وتسأله عن معناها، لكنه كان يرد عليها بشدة وحزم قائلا: «إن كلمات الله وتعاليم الصلاة تتلى علينا لنحفظها عن ظهر قلب لا لنفهمها.» وحاولت فتحية أن تحفظ الآيات والتعاليم عن ظهر قلب، ويرن في أذنيها صوت الشيخ حمزاوي مرددا: «أركان الصلاة هي الركوع، السجود مرتين في كل ركعة، الجلوس الأخير للتشهد ويجب التشهد فيه. أما سنن الصلاة فهي ستر الجسم من وسط البطن إلى تحت الركبتين عند الذكور، أما الأنثى فتستر جسمها كله ما عدا وجهها وكفيها، ثم الوقوف عندما تبدأ الصلاة، الرأس معتدل، والقدمان معتدلتان، ثم رفع اليدين حذاء الأذنين عند التكبيرة في حالة الذكورة، أما الأنثى فترفع يديها حذاء منكبيها، والمنكب هو ما بين الكتف والرقبة، ثم وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت وسط البطن في حال الذكور، أما الأنثى فتضع يدها على صدرها. هيئة الركوع والسجود يجب أن تكون تامة، وتقولين وأنت راكعة: «سبحان ربي العظيم» ثلاثا، وتقولين وأنت ساجدة: «سبحان ربي الأعلى» ثلاثا. أما مبطلات الصلاة فهي أن تتكلمي بكلام خارج عن الصلاة، أن تضحكي في الصلاة، أن يحدث ما ينقض الوضوء وأهمها خروج هواء من الأمعاء.»
كل ليلة تجلس فتحية فوق سجادة الصلاة تتدرب على الركوع والسجود، وتسمع عن ظهر قلب آية الكرسي والنفاثات في العقد، ويثقل جفناها بالنوم فتنام وهي راكعة على سجادة الصلاة، في أذنيها ترن كلمة الله، وبين ساقيها تزحف يد الشيخ حمزاوي، مستسلمة للنوم كأنه رجل، فاتحة ساقيها، وتنام وهي تصلي لله.
كان الشيخ حمزاوي لا يزال يخطو بعصاه خارجا من بيته، وأذنا فتحية ملتصقتان بالجدار تتسمع صوت عصاه أو صوت قدمه لو تعثرت في شيء. كان ضعيف البصر ودائما تتعثر عصاه أو قدمه في شيء قد يكون أرنبا أو جروا ميتا، أو حجرا أو قطعة زلط يقذفها بعصاه بعيدا عن الباب. وقد تدوس قدمه أحيانا على طرف قفطانه وهو يجتاز العتبة فيتعثر، أو ينغرس حذاؤه في قطعة روث أو براز كلب بات الليل أمام الباب، وتهتز السبحة دائما في يده متمتما ببعض اللعنات يصبها على رءوس الناس والكلاب معا.
تعثرت قدمه هذه المرة في شيء لا هو بالأرنب ولا هو بالجرو، كما أنه ليس ميتا بل هو حي يتحرك، فزع أول الأمر وظن أنه عفريت أو جنية من جنيات النيل، لكنه سمع الأنين الخافت ورأى الوجه الوردي الصغير والعينين المغمضتين الدامعتين والفم المفتوح المرتعش الذي يلهث.
ظل واقفا في مكانه جامدا. خيل إليه أن الله قد استجاب لدعواته، وأن حجاب الحاج إسماعيل اشتغل أخيرا، وأن هذا الطفل هبط من السماء إلى الأرض حتى باب بيته، تماما كما هبط عيسى من السماوات إلى الأرض إلى حيث رقدت مريم العذراء تحت جذع الشجرة.
انفرجت شفتاه عن حشرجة خافتة: ما من مستحيل أمام الله سبحانه وتعالى ... وظل واقفا بغير حركة. وجهه الطويل الأسمر يبدو طويلا شاحبا تحت ضوء الفجر، وعيناه الضيقتان تلمعان من تحت سحابة، وفوق إحدى عينيه نقطة بيضاء. السبحة بين أصابعه الرفيعة ثابتة، حباتها الصفراء متآكلة، حفرت عليها بصمات أصابع لا تسكن عن الحركة أبدا.
كان شيخ الخفر في تلك اللحظة عائدا بعد انتهاء دورية الحراسة، حينما رأى الشيخ حمزاوي، واقفا أمام بيته جامدا ثابتا لا يتحرك. لم يره من قبل أبدا واقفا بهذا الشكل، ووجهه أيضا لم يكن أبدا طويلا كل هذا الطول، كأنما أصبح وجهين، وجه أعلى يشبه وجه الشيخ حمزاوي الذي يعرفه ويعرفه كل أهل كفر الطين، ووجه آخر أسفل؛ هذا الوجه لا يشبه الشيخ حمزاوي، ولا يشبه أي رجل في كفر الطين ولا في غير كفر الطين، لا يشبه أحدا من الإنس أو الجن، وقد يكون وهو وجه عفريت أو شيطان وقد يكون وجه الله نفسه إذا عرف كيف يكون وجه الله.
وقف شيخ الخفر هو الآخر جامدا ثابتا لا يتحرك، لكنه رأى الشبح الغريب، الذي لا هو بالشيخ حمزاوي ولا هو بالشيطان ولا هو بالملاك، رآه وهو يمشي ببطء ويهم بالتقاط شيء من فوق الأرض. قبضت يده على الشومة بحركة الخفراء الغريزية وهم بأن يرفعها في الهواء ليهوي بها على رأسه لولا أنه رأى الوجه الوردي الصغير والعينين المغمضتين الدامعتين، وسمع صوت الشيخ حمزاوي يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله.»
وصاح الشيخ زهران في تعجب: ما هذا يا شيخ حمزاوي؟
وقال الشيخ: ملاك من عند الله.
ورد شيخ الخفر: ولم لا يكون شيطانا ابن شيطان؟
وقال حمزاوي وهو لا يزال غائبا عن الوعي: رزق من عند الله يا شيخ زهران.
ورد شيخ الخفر: لن يجلب ابن الحرام يا شيخ حمزاوي.
وهنا أطلت فتحية رأسها من فرجة الباب وقالت بصوت واهن لكنه غاضب: اسكت يا شيخ زهران اسكت، إنه خير وبركة من عند الله، ما حرام إلا الحرام.
ومدت ذراعيها وأخذت الطفل بسرعة من ذراعي الشيخ حمزاوي، الذي كان لا يزال واقفا جامدا كأنما فقد الوعي. أغلقت الباب وحوطت الطفل بصدرها. شعرت بدبيب يسري في ثدييها كأرجل النمل الدقيقة، تسري في عروقها بطيئة كحركة الدم الدافئ. شدت ثديها وأخرجته من فتحة ثوبها، ثم ضغطت بأصبعها على الحلمة حينما رأت القطرات البيضاء تنزلق من الثقب الأسود. خبأت بطرحتها السوداء الصغير وهي تدخل الحلمة في فمه اللاهث الناعم. •••
ارتفع صوت الشيخ حمزاوي مؤذنا لصلاة الفجر، محلقا فوق أسطح البيوت الطينية المنخفضة، مخترقا الجدران السوداء، وهابطا في الأزقة والحواري المسدودة بأكوام السباخ. وصل صوته إلى أذني شيخ الخفر الذي كان قد أصبح في بيته، لكنه لم يخلع ملابسه كما يفعل كل مرة، ولم يطلب من زوجته أن تحضر له الطعام، بل لم يخلع حذاءه الجلدي الذي كان يخلعه بحركة سريعة بمجرد أن يدخل، ثم يرفعه بقدمه بعيدا كأنه سلسلة حديدية التفت حول قدميه.
ظل كما دخل بملابسه وحذائه وعينيه المفتوحتين، وأمامهما ذلك الوجه الوردي الصغير والعينين المغمضتين الدامعتين. كل ما فعله منذ أن دخل ترك جسده المرهق يسقط جالسا فوق الحصيرة، وأصابعه ارتفعت وحدها تشد شعرات شاربه الطويل الكثيف كعادته حين يعثر على قتيل يجهل قاتله أو يكتشف جريمة تمت بغير علمه.
لكنه ما إن سمع صوت الشيخ حمزاوي حتى تحركت عيناه ناحية زوجته وانفرجت شفتاه كأنما سيقول شيئا، لكن شفتي زوجته كانتا أسرع من شفتيه وصوتها أسبق من صوته حين قالت: نفيسة بنت كفراوي هربت.
قالتها بسرعة في نفس واحد وبحركة سريعة من يدها تشبه حركة يد زوجها حين يخلع حذاءه متخففا من عبئه وضغطه على قدميه. كانت قد نامت الليل كله على هذا الخبر بعد أن همست لها به إحدى الجارات، وظلت تتقلب في الظلمة على ظهرها وبطنها، والخبر يضغط على صدرها، له ثقل واضح، وفيه لذة غامضة، كالحبلى تنتظر طلوع الفجر بقلق أشبه بالشوق، تريد أن تلقي بحملها من فوق صدرها على كاهل أحد غيرها، أو تنتشي لحظة بمتعة السبق وتكون أول من يطلع زوجها على النبأ.
رن اسم نفيسة في أذن الشيخ زهران، وكانت عيناه لا تزالان شاخصتين إلى الوجه الوردي الصغير والعينين المغمضتين الدامعتين، فإذا بالعينين المغمضتين تتفتحان فجأة وتظهر فيهما عينا نفيسة الواسعتان السوداوان المرفوعتان إلى أعلى، وكفت أصابعه عن شد شعرات شاربه الطويل الكث، وانفرجت شفتاه كأنما في شهقة من يطفو فوق الماء بعد لحظة غرق، وهتف: نفيسة؟!
وقالت زوجته مؤكدة: نعم، نفيسة.
كانت فتحية زوجة الشيخ حمزاوي لا تزال واضعة أذنها على الجدار الطيني، ورأس الطفل تحت الطرحة السوداء فوق صدرها وفي فمه الحلمة حينما التقطت أذنها اسم نفيسة، فانفرجت شفتاها هي الأخرى عن شهقة من يطفو فوق الماء بعد غرق وهتفت بدورها: نفيسة؟!
تردد الاسم «نفيسة» من وراء الجدران الطينية وخرج إلى الأزقة والحواري المسدودة بأكوام السباخ، ثم ارتفع في الجو فوق الأسطح المتعرجة بأكوام القش والجلة، وحلق فوق الجامع ومئذنته العالية ومن فوقها الهلال، وحينما وصل إلى أذني العمدة من وراء جدرانه العالية السميكة المصنوعة بالطوب الأحمر، كان قد أصبح كالأذان الذي يؤذنه الشيخ حمزاوي خمس مرات في اليوم. كان يجلس إلى جوار العمدة في ذلك اليوم ابنه الأصغر الذي دخل الجامعة حديثا، وأصبح لا يأتي هو وأمه إلى كفر الطين إلا في الإجازات.
لمعت عينا طارق وهو يسمع الحكاية لمعة عيني شاب في التاسعة عشرة يشعر بلذة الجنس، ينفس بالسمع أو بالكلام عما يعجز عن إشباعه بالفعل. وقال بصوت قوي فيه نشوة واضحة: الأسبوع الماضي عثرنا في الجامعة على طفل في دورة المياه، والأسبوع الذي قبله ضبطنا طالبا يعانق طالبة في قاعة خالية مغلقة. وهنا، في كفر الطين، تلد البنت طفلها وتتركه أمام بيت شيخ الجامع أو بجوار الجامع ثم تهرب. البنات فسدوا يا بابا في كل مكان.
وأكد العمدة كلام ابنه قائلا: نعم يا ابني البنات فسدوا، والستات فسدوا ... ورمق فخذي زوجته السمينتين نصف العاريتين تحت الثوب الضيق الحديث. وهزت زوجة العمدة ساقها اليمنى بعصبية، وقالت بصوت شبه غاضب: ولماذا لا تقول إن الرجال هم الذين فسدوا ... وضحك العمدة قائلا: الرجال طول عمرهم فاسدون، ولكن الجديد الآن أن النساء فسدوا أيضا ... وهذه هي المصيبة.
وانفرجت شفتا زوجته المصبوغتان بالأحمر الثمين عن ابتسامة ساخرة، وقالت: ولماذا تسميها مصيبة؟ لماذا لا تسميها عدالة ومساواة؟ وهز الابن رأسه بشعره الطويل كالبنات قائلا لأمه: لا يا ماما، أنا لا أوافق على هذه المساواة. البنت غير الولد، شرف البنت أعز ما تملك.
وأطلقت الأم ضحكة ساخرة مألوفة ومميزة لسيدات المجتمع في القاهرة، وهي ضحكة تطورت عن الشهقة الممطوطة أو الشخير الذي تطلقه ابنة البلد من أنفها أو المعلمة الكبيرة حين لا يعجبها الكلام، وقالت وهي ترفع حاجبا وتخفض الآخر: نعم نعم يا سي طارق؟ الآن تضع العمة على رأسك وتتكلم عن الشرف! أين كان ذلك الشرف الأسبوع الماضي حين سرقت من حقيبتي عشرة جنيهات وذهبت إلى تلك المرأة، التي أعرفها وأعرف بيتها؟ أين كان ذلك الشرف العام الماضي حين اعتديت على سعدية الخادمة واضطررت إلى أن أطردها حتى لا تسبب لنا فضيحة؟ أين هو الشرف وأنت لا تكف عن مطاردة أية خادمة تدخل بيتنا حتى إنني أقسمت ألا أستعين إلا بالخدم الرجال؟ أين هو الشرف وأنت تجري وراء البنات في التليفونات ومن النوافذ ومن الشرفات، حتى ضج جيراننا في المعادي؟
صوتها الغاضب كان موجها ناحية ابنها، لكن عينيها المعكرتين بغضب خفي أشد كانتا متجهتين ناحية زوجها. وأدرك الابن من ملامح أبيه المتقلصة أن الشجار المعهود سيبدأ بين أمه وأبيه، فقال محولا الموضوع إلى نفيسة بطلة القصة الجديدة: ولكن هل سيتبنى الشيخ حمزاوي الطفل؟
وقال العمدة: يبدو ذلك. إنه رجل طيب حرم من الأطفال، وزوجته تحن إلى طفل منذ سنين.
وقال الابن: إذن فقد حلت المشكلة!
وردت الأم: المشكلة لم تحل بعد. هؤلاء الفلاحون لا يهدءون حتى يثأروا من الذي كان السبب.
وقال الابن: وهل عرفوه؟
وقالت الأم: سيعرفونه عاجلا أو آجلا.
ثم تركتهما ودخلت حجرتها.
لم يلحظ الابن العضلة الصغيرة التي تقلصت تحت فم أبيه، والتي أخفاها بحركة صغيرة من يده، كأنما هو يهرش ذقنه بأصبعه، أو يتحسس بعض البثور القديمة، وتحركت عيناه الزرقاوان بعيدا في الأفق، كأنما هو يفكر، وقال بعد لحظة صمت طويلة: أحاول أن أفكر من هو ذلك الرجل. إنه قد يكون من كفر الطين وقد لا يكون من كفر الطين.
ورد طارق: أمثال نفيسة لا يعرفون إلا كفر الطين.
وتساءل العمدة: لماذا؟
وقال طارق: معظم بنات الريف ساذجات.
وقال العمدة: لا أظن أن نفيسة كانت ساذجة؛ ألم تر عينيها المفتوحتين أكثر من أي بنت في مصر؟
وقال طارق: نعم كانت بنتا جريئة، ولا بد أن الرجل كان جريئا هو الآخر.
وقال العمدة: ولهذا أرجح أنه من خارج كفر الطين. أنا أعرف كل الرجال هنا ولا أظن أن فيهم رجلا واحدا جريئا ... أليس كذلك يا طارق؟
سكت طارق لحظة، مرت أمامه وجوه الرجال التي عرفها ورآها في كفر الطين. وسمع أباه يسأله: هل يمكنك أن تخمن من هو الرجل الذي يمكن أن يفعل ذلك مع نفيسة؟
كانت وجوه رجال كفر الطين لا تزال تمر أمام عيني طارق، وفجأة توقف وجه أمام عينيه، أو أن عينيه هما اللتان توقفتا أمام وجه. كان هو وجه علوان.
لم يعرف لماذا خطر بذهنه هذا الوجه بالذات. لم ير في حياته علوان ونفيسة معا، وعلوان يسكن في طرف القرية ناحية الشرق، ونفيسة كانت تسكن في الطرف الآخر ناحية الغرب، لكنه ما إن فكر في أن يرشح رجلا من كفر الطين لنفيسة حتى ظهر له وجه علوان. لم يكن رآه وجها لوجه إلا مرة واحدة، كان يلمحه أحيانا من بعيد وهو سائر حاملا فأسه، صامتا دائما، لا يكلم أحدا، ولا يحرك رأسه ناحية بيت أو دكان، ولا يبدأ أحدا بالتحية أو السلام حتى ولو كان شيخ الخفر أو شيخ الجامع أو حتى العمدة.
لم يره أحد مع نفيسة ولا مع أية واحدة أخرى من كفر الطين. كانوا يرونه كل يوم في الحقل يحرث أو يعزق. حتى في يوم الجمعة حين يذهب كل الرجال إلى المسجد من أجل صلاة الجماعة خلف الشيخ حمزاوي، يظل هو واقفا في الحقل يحرث أو يعزق، وبعد الغروب يرونه جالسا عند رأس الحقل على حافة الجسر شاخصا إلى النيل ورءوس الأشجار العالية من بعيد، وحينما يمر به أحد لا يحرك رأسه، وإذا قرأه أحد السلام رد بصوت هادئ دون أن يلتفت.
في اللحظة التي كادت تنفرج شفتاه ناطقا باسم علوان، لم يكن يعرف لماذا خطر له هذا الاسم بالذات، لكنه كان قد رآه وجها لوجه مرة واحدة. وكانت هذه المرة الواحدة كافية لأن يرى عينيه، وحينما رأى عينيه وجد أنهما ليستا كعيون رجال كفر الطين، وإنما هما مرفوعتان إلى أعلى بتلك النظرة الشامخة التي تشبه نظرة نفيسة، وارتبطت عينا علوان بعيني نفيسة في ذاكرته لحظة قصيرة لا تزيد عن اللحظة التي تلتقي فيها عينا شخص سائر في الطريق بعيني شخص آخر، واختفى الشخصان وسقطت اللحظة في العدم شهورا طويلة بل سنوات.
لكن ما إن برز أمام عينيه وجه علوان حتى اتضح له أن شيئا لا يسقط في العدم، ولو كان قطرة في بحر أو لحظة قصيرة في خضم الزمن. وحينما ردد أبوه عليه السؤال سمع صوتا داخله يقول: «علوان.»
اتسعت عينا طارق بالدهشة حين سمع أباه يقول له: أتقول علوان؟
لم يكن قد فتح شفتيه بعد أو خيل له ذلك، لكنه ما إن سمع اسم علوان بصوت أبيه حتى خرج الوجه من الظلام إلى النور، فأصبح حقيقيا، وخرج الصوت من الداخل إلى الخارج وأصبح مسموعا. وقال طارق: علوان؟
ورد العمدة مؤكدا: علوان.
دخل في تلك اللحظة من الباب الحديدي الشيخ حمزاوي، ومن خلفه الشيخ زهران ومن خلفه الحاج إسماعيل، وحينما سمعوا العمدة يقول «علوان»، هتفوا ثلاثتهم في نفس واحد: «علوان». ورن صدى صوتهم خارج بيت العمدة، وصعد فوق الأسوار، ونفذ في الجدران السوداء الطينية، وقفز إلى الأسطح، ودخل البيوت، وسار إلى الحقول، ثم هبط إلى الحواري والأزقة قبل أن تهبط الشمس عند المغيب. وحينما أطل طارق برأسه من الشرفة المطلة على النيل ليشهد غروب الشمس سمع أطفال كفر الطين يلعبون فوق الجسر ويغنون منشدين:
جمال يا جمال نفيسة وعلوان ...
نفيسة يا نفيسة علوان في التقفيصة ...
علوان يا علوان نفيسة في الغيطان ...
جمال يا جمال نفيسة وعلوان ...
اتسعت عيناه بالدهشة كأنه غير مصدق، والتفت ناحية أمه التي كانت تقف إلى جواره في الشرفة وتساءل مشدوها: أصحيح أنه علوان يا ماما؟
وردت أمه بصوتها العصبي الضجر: أتسألني أنا؟ اسأل أباك العمدة. •••
اليوم كان جمعة، والقرص الملتهب في وسط السماء، فوق رأس كفراوي وهو واقف في الحقل، عيناه حمراوان بلون الشمس، والعرق يتصبب من رأسه وعنقه وصدره وبطنه وفخذيه، يشعر به لزجا ساخنا هابطا بين فخذيه، يبلل ساقيه وقدميه الحافيتين المشققتين، ويمد يده من تحت جلبابه يتحسسه، يظن أنه يبول على نفسه، ويكاد لا يعرف عرقه من بوله، ولا يعرف ما إذا كانت عضلات جسده مرتخية أومسحت فمها في عنقهم متقلصة، ساكنة أو متحركة. كل ما يحسه هو أنه فقد السيطرة على ذراعيه وساقيه، وأن جسده أصبح كالعضلة المنفصلة عنه، يتقلص ويرتخي وحده، ويتحرك ويسكن وهو واقف يراقبه، ويكاد لا يصدق ما يراه، ويظن أن روحه انفصلت عن جسده أو أن جسده ركبته روح أخرى ليست هي كفراوي.
وحينما يرى قدميه الحافيتين المشققتين تسيران ببطء خارج الحقل يندهش كيف تسير قدماه وحدهما. يحاول لحظة أن يستجمع قواه ليوقفهما وقد يظن أنه أوقفهما فعلا، لكنه يراهما تسيران ببطء خارج الحقل وخارج إرادته نحو المكان الوحيد الذي لا يصل إليه قرص الشمس في ذلك الوقت من الظهيرة، وهو الزريبة.
لم تكن زريبة بمعنى الكلمة، وإنما كوخ صغير من البوص والنخيل وأعواد الذرة الجافة دهكت جميعها بالطين وأصبحت أربعة جدران وسقفا، ترقد فيها الجاموسة نهارا في الصيف، ويبيت فيها كفراوي في ليالي الشتاء.
كانت الجاموسة كعادتها راقدة فوق بطنها من شدة الحرارة، عيناها الواسعتان مفتوحتان شاخصتان إلى الجدار الطيني الأسود، وفكاها الكبيران يتحركان ببطء كأنما تجتر، ورغوة بيضاء عند زاويتي فمها الأسود الكبير تروح وتجيء مع حركة أنفاسها.
سقط جسد كفراوي إلى جوار جسدها، وظلت عيناه مفتوحتين صامتين مثل عينيها. حاول أن يشد عضلات جفنيه ليغلقهما وينام، وظن لحظة أنه أغلقهما، لكنهما ظلتا مفتوحتين شاخصتين إلى الجدار الطيني الأسود. رمقته الجاموسة بعينيها الواسعتين، فوقهما سحابة شفافة تترقرق كأنما هي طبقة من الدموع، ومدت رأسها إلى جوار رأسه ومسحت فمها في عنقه كأم تلثم ابنها، أو تهمس له بشيء: «ما لك يا كفراوي؟» وأسند كفراوي رأسه إلى رأسها ومسح عينيه المبللتين في وجهها، ثم قرب شفتيه الجافتين من أذنها: «آه يا عزيزة، نفيسة غابت، نفيسة راحت يا عزيزة!»
كفراوي كان يكلم الجاموسة، والجاموسة كانت ترد عليه، وقد عرف كيف يفهم لغتها. منذ فتح عينيه على الحياة والجاموسة أمام عينيه، في الحقل وفي الدار، وحينما ينام بالليل أو بالنهار فهو يرقد إلى جوارها. قبل أن يتعلم المشي أو الكلام، كان يراها تنظر إليه بعينيها الواسعتين الصامتتين وهو يبكي وحده في الظلام.
وحينما بدأ يزحف فوق بطنه على الأرض، أصبح يزحف إليها، فتمسح فمها الناعم بوجهه وتحس شفتيه الجافتين الظامئتين فترقد على بطنها إلى جواره وتزحف نحوه مقربة ضرعها من رأسه. يرفع كفراوي رأسه فيرى الضرع الناعم المنتفخ والحلمة السوداء تتدلى منه بالقرب من أنفه، ويشم رائحة اللبن، فيمد عنقه ويقبض بأسنانه على الحلمة فإذا باللبن الدافئ ينساب في فمه.
أول ما استطاع الكلام بدأ يناديها، يقول لها: «عزيزة!» فتحرك رأسها ناحيته وتقول له بعينيها الواسعتين: «كفراوي.» كل يوم يقول لها كلمة، وترد عليه بكلمة حتى عرف كلامها وعرفت كلامه. ذات يوم شكت إليه من أبيه الذي ضربها بالعصا وهي تدور في الساقية، وكره أباه في ذلك اليوم ولم يأكل معه، وضربه أبوه ليأكل، لكنه لم يأكل وبات جائعا بغير عشاء.
كانت ابنته نفيسة تدهش وهي طفلة صغيرة حين تسمعه يكلم الجاموسة، لكنه كان يجلسها على ركبتيه ويقول لها: «يا ابنتي، الجاموسة تفهم وتتكلم مثلنا.» لم تكن ابنته نفيسة تعرف الكلام بعد، لكنها كانت تفهم ما يقوله أبوها لها، وتنظر إليه بعينيها الواسعتين الصامتتين. وأحيانا تهز رأسها وتضحك، وقد تمد يدها الصغيرة وتلعب بإصبعها في شاربه الغزير فوق فمه ، ويفتح كفراوي فمه ويقبض بشفتيه على أصبعها الناعم الصغير فتضحك نفيسة وتشد أصبعها. وذات مرة ضغط بأسنانه على أصبعها كأنما سيأكله فصرخت من الألم وابتعدت عنه مذعورة. كانت تخاف منه في هذه اللحظات التي ترى وجهه يتغير فجأة ويصبح لونه أسود وملامحه مخيفة. لم تكن تعرف متى ينقلب وجهه ليصبح أسود بلون الجاموسة. وهي تخاف من الجاموسة أحيانا كما تخاف من كفراوي. تلعب معها وتضحك وتشد ذيلها الناعم الطويل، ولكن فجأة يتغير وجهها الهادئ الوادع كما يتغير وجه أبيها فجأة ويصبح أسود، وتمتلئ عيناها الواسعتان بنظرة مخيفة، وقد ترفسها أو تنطحها برأسها، ومرة عضتها عضة خفيفة.
مسح كفراوي رأسه في الضرع الناعم الممتلئ، ثم مد شفتيه الجافتين الظامئتين وأمسك الحلمة السوداء، أحس باللبن الدافئ يهبط إلى بطنه فارتخت عضلات جفنيه وانغلقت عيناه. لكن اللبن زحف هابطا أسفل بطنه، أحس به يتجمع في عضلة تحت سرته، امتلأت وانتفخت ونفرت عن بقية جسده كعضو غريب، ضغط عليه بيده ليعيده إلى جسده كما كان، لكنه لم يستطع، ورآه يتحرك ببطء خارج جسده وخارج إرادته، ويزحف فوق الضرع الناعم يتشمم رائحة الأنثى، ويلعق البلولة المألوفة، يعثر على الثقب الدافئ فينزلق داخله في الظلمة والسكون الأبدي كالموت، ويحاول أن يخرج مرة أخرى ليلتقط أنفاسه في الهواء، لكن الثقب ينقبض عليه منغلقا يكاد يخنقه، فينتفض انتفاضات شديدة مجنونة، طلبا للحياة، ثم يفقد قواه ويرتخي تماما بعد أن يسكب كل ما احتواه، ويسقط جفناه المرتخيان فوق عينيه ويغط في نوم عميق.
لكنه ما لبث أن فتح عينيه مذعورا على صوت الصرخة. لم تكن صرخة رجل ولا صرخة امرأة ولا صرخة حيوان يضرب، صرخة غريبة لم تطرق أذنيه من قبل إلا مرة واحدة منذ زمن بعيد. كان راقدا فوق بطنه على التراب وأمه إلى جواره تنخل الدقيق بيديها، وعيناها السوداوان لا تفارقان وجهه، يحس بهما فوق وجهه كلمسات بطن اليد الناعمة. وفجأة سمع الصرخة. لم يتعرف في الصرخة على صوت أمه، الدقيق مبعثر من حولها وعلى شعرها وكفيها كالتراب الأحمر، عيناها مفتوحتان تنظران إليه بنظرة ليست هي نظرة أمه. ظن أنها واحدة أخرى، وأن أمه خرجت من الباب. وحرك رأسه ناحية الباب، فالتقت عيناه بعينين ضيقتين لم يرهما من قبل، حدقتا فيه بنظرة مخيفة، فاختفى رأسه في الأرض وأغمض عينيه ونام. لم يكن نائما تماما لأنه أحس الذراعين تحملانه وتسيران به في طريق طويل. أراد أن يفتح عينيه لحظة لينظر، لكنه خشي أن يرى العينين الضيقتين مرة أخرى فظل نائما بين الذراعين الكبيرتين، وجهه يستند إلى صدر مشعر متخشب تنبعث منه رائحة غريبة، وقدماه الصغيرتان الحافيتان تتدليان في الهواء، وتهتزان مع الخطوات الواسعة الرتيبة كخطوات الجمل ...
رنت الصرخة للمرة الثانية في أذنيه فانتفض من رقدته واندفع بغير وعي نحو مصدر الصوت، الذي حدده بنقطة في وسط حقل الذرة، انطلقت منها الصرخة وتبعتها حركة خفيفة في أعواد الذرة، ثم انتهى الصوت وانتهت الحركة وعاد حقل الذرة مستويا ساكنا كما كان، والسكون يخنق الأرض كالشمس الحمراء بغير نسمة.
ظن أنه يحلم، لكن حقل الذرة انشق فجأة في النقطة نفسها عن عينين ضيقتين لم تلبثا أن اختفتا كأنما انشقت الأرض وابتلعتهما مرة أخرى في النقطة ذاتها.
نحو هذه النقطة رأى كفراوي قدميه الحافيتين المشققتين تسيران ببطء. ارتعد جسده بخوف قديم غامض، وحاول أن يوقفهما، وخيل إليه أنه أوقفهما فعلا، لكنه رآهما تستمران في السير بغير سرعة وبغير بطء، وإنما بذلك الدأب والإصرار الغريزي أو بغريزة الإصرار الدائبة على اكتشاف المجهول.
فرق أعواد الذرة بذراعيه، ونظر إلى الأرض، فرأى الجسد الممدود ومن حوله التراب الأحمر والعينين المفتوحتين كعيني أمه. اقترب منها وأمسك وجهها بين كفيه ليرى أكثر وأكثر، لكنه رأى رأسها حليقا كرأس الرجل، وجلبابها كجلباب رجل، وعينيها لا تشبهان عيني أمه ولا عيني أية امرأة أخرى رآها من قبل.
تراجع إلى الوراء في فزع، وقبل أن يرفع يديه ليخفي بهما عينيه، أحس باليد القوية الصلبة التي أمسكته من الخلف، وسمع الأصوات الغليظة والضجيج الذي أخذ يعلو في أذنيه ويشتد، ثم استدار إلى الخلف فرأى عددا غفيرا من الوجوه والعيون شاخصة إليه، واستطاع بعد فترة أن يتعرف في مقدمتها على عيني شيخ الخفر الضيقتين. •••
بالحركة نفسها البطيئة التي ينزلق بها قرص الشمس كل يوم لتبتلعه الأرض ناحية الغرب، تتحرك أقدام الجاموس والبقر والفلاحين فوق الجسر عائدين منهوكين من الحقل إلى بيوتهم الطينية المظلمة أو الزرائب الرطبة، تفوح منها رائحة الروث القديم وبراز الأطفال وخبيز الفرن. قبل أن يهبط الليل تماما ويغطي السماء والأرض بالعباءة السوداء الكثيفة، كان الجسر قد أصبح خاليا من الناس والبهائم، تعلوه آثار الأقدام البشرية ذات الأصابع الخمس، إلى جوارها حوافر الجاموس والبقر والحمير، تتخللها من حين إلى حين قطع الروث المستديرة لا تزال ساخنة بدرجة حرارة الجسم.
لكن الجسد الممدود فوق الجسر لم يعد ساخنا كما كان، يضربه هواء النيل ضربات خفيفة، محركا عنه العباءة البالية، فيظهر من تحتها كعبا علوان المشققان لا يزال يعلوهما طين الحقل.
هبت نسمة أزاحت العباءة قليلا، ولمح الحاج إسماعيل من تحت جفنيه المثقلين بالنوم الساق الطويلة المشعرة تمتد صاعدة إلى فخذ نافر العضلات. شد جفنيه منتفضا ومستيقظا فجأة، كأنما هوت فوق رأسه مطرقة، وتلفت حوله بعينين متباعدتين متنافرتين، إذا اتجهت العين اليمنى إلى الأمام اتجهت اليسرى إلى الخلف، وإذا اتجهت اليسرى نحو اليمين تحركت اليمنى نحو اليسار. ولدته أمه بهذا الحول وأصبح كالذي يرى الشيء شيئين، أو كالذي يرى نصف الشيء فقط؛ لأن عينا واحدة هي التي تنظر والعين الثانية تهرب في الاتجاه الآخر.
نهض وسار ناحية الجسد الممدود، وشد طرف العباءة ليغطي الجزء العاري فارتطمت يده بالفخذ المشعر المشدود العضلات. سرت فوق جسده رعدة، وعاد إلى مكانه في بطن الجسر، إلى جوار شيخ الخفر، وتكور حول نفسه لينام، لكن الفخذ المشعر العاري ظل أمام عينيه، تنظر إليه عين واحدة وتهرب الأخرى تحت الجفن. كان لا يزال صغيرا، في العاشرة تقريبا، وابن عمه يوسف أكبر منه، وأقوى منه، ذراعاه وساقاه يغطيهما الشعر الأسود، وعضلات فخذيه نافرة قوية، رآها لأول مرة فشعر بالخوف ، حاول أن يهرب لكن يوسف كان قد أغلق الحجرة. حاول أن يتملص لكن يد يوسف قبضت عليه كيد حديدية، قلبته على وجهه وشدت جلبابه من الخلف، ثم أحس بالجسد القوي الثقيل يضغط عليه، وأنفه انضغط في الأرض، ولم يعد الهواء يدخل صدره أو يخرج، وظل راقدا طول اليوم، حتى بعد أن فتح يوسف الباب وخرج. ظل هو راقدا في مكانه، وحينما سمع صوت أبيه يناديه من الدكان أغمض عينيه وتظاهر بالنوم. لكنه سمع وقع قدمي أبيه وهو يدخل الحجرة، وصوته الغاضب يناديه مرة ومرتين وثلاثا. أراد أن يفتح فمه ويرد، لكنه لم يستطع، ثم أحس اللكمة القوية في ظهره فانتفض واقفا على قدميه، وسار خلف أبيه إلى الدكان، حيث الرفوف الخشبية من فوقها الصابون والشاي والدخان والمعسل والتوابل. علمه أبوه كيف يعد القروش، وأين يضعها في الدرج ويغلقه بالمفتاح، وكيف يضع الدخان في كفة الميزان وفي الكفة الأخرى يضع قطعة صغيرة مربعة من الحديد، وقبل أن يغلق أبوه الدكان يجلس إلى جواره على الدكة الخشبية ويعلمه ضرب الحقن وفتح الدمامل والخراريج. بعد العيد الصغير سافر أبوه إلى الحجاز للحج، ولم يعد مرة أخرى، وترك له الدكان، وحقيبة صغيرة بها كماشة لخلع الضروس، وآيات قرآنية على شكل أحجبة، وإبرة للحقن، وموسى للطهارة، وزجاجة يود خالية وجافة منذ سنوات.
بدأ الصداع في مؤخرة رأسه؛ فأخرج منديله من جيب جلبابه وربط به رأسه. أغمض عينيه لينام، لكنه رأى شيئا كالشبح يقترب من الجسد الممدود فوق الجسر. لكز شيخ الخفر في كتفه هامسا: يا شيخ زهران!
انتفض شيخ الخفر واقفا، ويده بالحركة الغريزية أصبحت فوق البندقية، وهتف بصوته العالي: من هناك؟
لم يرد أحد. تطلع شيخ الخفر باحثا بعينيه الصغيرتين فلم ير أحدا. سار بضع خطوات حول الجثة متطلعا هنا وهناك، فوق الجسر، وفي حقول الذرة، وفي بطن الجسر، وحينما لم يجد أحدا عاد ليجد حلاق الصحة جالسا القرفصاء، وعيناه تتحركان في الظلام بغير توقف. - ما لك يا حاج إسماعيل؟ - أقسم بالله رأيت رجلا يا شيخ زهران. - يا رجل، نم وتوكل على الله! - رأيته يقترب من الجثة. - من ذا الذي يفكر في سرقة جثة؟ - ولكنني رأيته. - هل عرفته؟ - لا. لم أره جيدا. - لا بد أنه عفريت علوان يحوم حول جثته. - عفريت؟ ما عفريت إلا بني آدم.
ورمق الحاج إسماعيل شيخ الخفر بعينه الواحدة ثم قال متخابثا: عفريت من هذا الذي قتل علوان يا شيخ زهران؟
رد شيخ الخفر: كفراوي.
همس الحاج إسماعيل: كفراوي لا يقتل دجاجة يا شيخ زهران، وأنت تعرف ذلك.
قال شيخ الخفر بحماس: لكن حينما يكون الأمر يتعلق بالشرف والعرض، فإن أي رجل يمكن أن يقتل يا حاج إسماعيل. - هذا الكلام تقوله للناس وللضابط الذي سيحقق، وليس لي أنا يا شيخ زهران، ولكنك هذه المرة ضربت عصفورين بحجر واحد. المهم من هو القاتل هذه المرة؟
ضحك شيخ الخفر ضحكة قصيرة وتثاءب قائلا: الله أعلم.
نظر إليه الحاج إسماعيل بعين واحدة: أنت تعرفهم واحدا واحدا.
سأل الشيخ زهران بخبث: أعرف من يا حاج إسماعيل؟
ضحك حلاق الصحة وهو يقول: على أية حال سيأتي الضابط في الصباح ومعه الكلب البوليسي.
رد شيخ الخفر بسخرية: أتظن أن الكلاب تعرف والناس لا تعرف؟ كل الناس تقول إن كفراوي قتل علوان بسبب نفيسة، وكل الناس رأت كفراوي راكعا إلى جوار الجثة ودم علوان يغرق يديه. التهمة ثابتة على كفراوي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه.
ضحك الحاج إسماعيل: أنت عفريت ابن عفريتة يا شيخ زهران!
رد شيخ الخفر متثائبا: أنا عبد المأمور، كلنا عبيده يا حاج إسماعيل.
قال الحاج إسماعيل: كلنا عبيد الله.
رد شيخ الخفر: كلنا عبيد، هذا هو المهم، مهما طلعنا ومهما نزلنا، فكلنا عبيد.
قال الحاج إسماعيل: نحن عبيد الله وقت الصلاة فقط، ولكنا عبيد العمدة في جميع الأوقات.
ضحك الشيخ زهران، وهمس في أذن الحاج إسماعيل: أتدري أنه لم يعد ينام الليل بسبب زينب؟
قرب الحاج إسماعيل فمه من أذن شيخ الخفر: فعلت المستحيل معها لأقنعها لكنها رفضت.
تساءل الحاج إسماعيل: أتظن أنه تشكك في شيء؟!
رد شيخ الخفر: لا! على الإطلاق! التشكك يحتاج إلى عقل يفكر ويستنتج، وهؤلاء الفلاحون أمثال كفراوي لا عقل لهم، أو أن عقلهم مثل عقل الجاموسة، لكن المشكلة أن كفراوي بعد أن ذهبت نفيسة لم يعد له إلا زينب تساعده في الحقل وتشتغل في الدار. وقلت له مرارا: يا كفراوي، سيعطيك العمدة كل شهر عشرة جنيهات كاملة، وزينب ستأكل وتشرب في بيت العمدة، وتعيش في النعيم، ولا تفعل شيئا سوى كنس البيت وتنظيفه، وآخر النهار تعود إليك لتبيت معك في بيتك. لكنه لم يسمع كلامي، رأسه كان أصلب من الحجر.
وقال الحاج إسماعيل: وابنته زينب أيضا رأسها لا يلين أبدا. فعلت معها المستحيل، عرضت عليها كل شيء لكنها رفضت. إنها عنيدة كالبغل، وليس فيها أية ميزة. أقل بنت في كفر الطين أحلى منها وأخف.
همس الشيخ زهران: مزاجه غريب في النساء، ومن تدخل مزاجه لا تخرج أبدا. وهو عنيد أيضا، لا يضع عينه على واحدة إلا وينالها بأي شكل.
قال الحاج إسماعيل وهو يتثاءب: ولم لا؟ أمثاله ممن يملكون العالم ليس أمامهم شيء اسمه مستحيل.
قال الشيخ زهران: إنهم آلهة تمشي على الأرض. ضحك الحاج إسماعيل: لا يا شيخ زهران ... آلهة تركب السيارات. المشي فوق الأرض لأمثالنا نحن عبيد الله.
رد الشيخ زهران: المشي فقط يا حاج؟ والنوم أيضا فوق الأرض.
وتكور تحت عباءته فوق الأرض وأغمض عينيه. أما الحاج إسماعيل، فألقى نظرة أخيرة على الجسد الممدود فوق الجسر قبل أن يتكور هو الآخر لينام. همس لنفسه قبل أن يغط في النوم: «خسارة. مات علوان وهو في عز الشباب.»
تنهد شيخ الخفر من تحت عباءته وهو يتثاءب: الأعمار بيد الله يا حاج إسماعيل.
تنهد الآخر من تحت غطائه: نعم، الأعمار بيد الله.
ونام الاثنان وهما يعلمان أن الأعمار في كفر الطين في يد إله واحد يعرفانه، ويسهران معه أحيانا أمام الدكان أو في الشرفة المطلة على النيل، وأن الإله أصبح راغبا في زينب إلى حد الموت، وأنه سينالها عاجلا أو آجلا، لأنه كغيره من الآلهة لا يعترف بشيء اسمه المستحيل.
لم يلبث أن ارتفع شخيرهما من بطن الجسر، ووصل إلى أذني متولي الذي كان مختبئا في حقل الذرة، فخرج من الحقل مباشرة ناحية الجثة، ينقل قدميه على الأرض بخطوات حذرة، يضغط على قدمه اليمنى أكثر مما يضغط على اليسرى، في خطوته المميزة التي يعرفها كل أهل القرية، كخطوة الكلب الأعرج. مرض بالعظام قديم، كساح أطفال أو تسوس عظام جعل ساقا أقصر من ساق.
أصبح فوق الجسر وسقط ضوء القمر عليه فبدا رأسه كبيرا بالنسبة لجسمه، وعيناه صغيرتين بالنسبة لوجهه، وشفتاه كبيرتين بالنسبة لأنفه. تهدلت الشفة السفلى وانقلبت فظهر بطنها الأحمر الناعم فوق لحيته الطويلة مبللا بلعاب لا يجف.
لو رآه أطفال القرية الآن لهتفوا من خلفه: «العبيط أهه.» وقد يقذفه أحدهم بحجر، أو يشده من طرف جلبابه، لكنه يظل سائرا غير مكترث بهم، لعابه يجري من زاوية فمه ويسقط فوق صدره، يلهث ويعرج ككلب ضال بغير صاحب. لا يراه الناس إلا سائرا من حارة إلى حارة، يتطلع إلى البيوت والوجوه بعينين مبللتين وشفتين مبللتين، وفي آخر النهار يرونه جالسا على آخر الجسر بجوار المقابر يهرش رأسه وجسده ويمسك القمل بأصابعه ويضغط عليه فوق ظفره ليقتله قملة بعد قملة.
حين تمر به واحدة من نساء القرية تقذف في حجره نصف رغيف، أو كوز ذرة، أو حبة جميز. قد تلمسه واحدة منهن بكفها وهي تقول: «بركاتك يا شيخ متولي.» فيكف لحظة عن الهرش أو تقتيل القمل ويرفع يده ويمسك يدها أو كتفها أو ساقها، ما تصل إليه يده يمسكه ويضغط عليه ثم يتمتم ببضع كلمات لا يفهمها أحد ولعابه يجري كالخيط الأبيض الرفيع فوق لحيته الطويلة السوداء.
لمسته مرة امرأة مشلولة فشفيت، ورجل أعمى فأبصر، وقالوا إنه حبيب الله، يعرف المرض ويعرف الغيب، أعطاه الله سره، والله يعطي سره لأضعف خلقه، وسموه الشيخ متولي.
لكن الحاج إسماعيل، حلاق الصحة، كان يسميه متولي المجذوب، والشيخ زهران شيخ الخفر يسميه متولي المقمل، وأطفال القرية يسمونه متولي العبيط. أما هو فلم يكن يعرف سوى أنه متولي ابن الشيخ عثمان الذي كان يقرأ القرآن على أرواح الموتى في المقابر، ثم مات وترك له عمامة وقفطانا مهلهلا، ومشنة خبز خالية من الخبز، ومصحفا قديما ممزق الغلاف.
تلفت حوله وهو يسير بخطوات حذرة سريعة، فيها عرج خفيف يقل كثيرا عن العرج الذي يمشي به أمام أهل القرية، وعيناه أيضا فيهما نظرة ثابتة مركزة لم يرها أحد من قبل، وشفته السفلى لم تعد متدلية ولا مبللة ولا يمكن لأحد من القرية لو رآه الآن أن يتعرف عليه.
كان متجها ناحية الجسد المغطى بالعباءة، وحينما أصبح على بعد خطوات منه زحف على بطنه، ثم رفع العباءة من ناحية القدمين وأدخل رأسه من تحت العباءة، ثم شد جسمه زاحفا فوق الساقين ثم الفخذين.
لو فتح شيخ الخفر عينيه في هذه اللحظة لما ارتاب في شيء. فالعباءة كما هي فوق الجسد، ربما كانت هناك حركة خفيفة، لكنه أشبه بحركة الهواء منها بأي شيء آخر. ثم ما هو الشيء الآخر الذي يمكن أن يخطر ببال شيخ الخفر أو أي أحد من الإنس أو الجن؟ إنها قبل وبعد أي شيء ليست إلا جثة، ومن ذا الذي يمكن أن يسعى إلى جثة إلا الدود؟
لكن متولي كان كالدود يعيش في المقابر. يظل جالسا في مكانه على آخر الجسر حتى تسقط الشمس في الجب العميق، فينهض بخطواته العرجاء هابطا الجسر متجها ناحية المقابر، يبحث عن مكان يرقد فيه. قبل أن يرقد كان يتجول بين المقابر، ينثني من حين إلى حين ليلتقط قطعة خبز أو فطيرة تركها أهل ميت. بعد أن يأكل لم يكن يرقد على الفور، بل كان ينهض ويسير بخطوات بطيئة متجها نحو مقبرة من المقابر، يعرفها بحاسة الشم، ويحدد مكانها في الظلام عن طريق الرائحة، الرائحة التي يعرفها جيدا ويستطيع أن يميزها عن أي رائحة أخرى، رائحة الميت الجديد، أو الجسد الذي فارقته الحياة لكنه لا يزال دافئا.
بأصابعه الرفيعة المدببة ينبش التراب كقط يبحث عن قطعة لحم، وبيديه المدربتين ينزع الكفن عن الجسد. يلف الكفن ككرة من القماش، يدفنها حتى الصباح في حفرة من الأرض. أما الجسد فهو يزحف فوقه إذا كان أنثى، فإذا لم يكن قلبه على وجهه، ثم زحف فوق ظهره.
في الصباح يختفي متولي من كفر الطين. لا يسأل عنه أحد، ولا يعرف أحد أنه في الرملة أو في بهنوت جالسا على الرصيف في زحمة السوق يبيع بعض قطع قماش جديد لا يزال يعلوه شيء من غبار المقبرة. •••
أقبلت العربة يسبقها صوت البوق الحاد، وتعقبها زوبعة من التراب والأطفال وكلاب القرية. هبط من العربة بعض الأفندية، أحدهم من ورائه تمورجي يحمل حقيبة، والآخر من ورائه شرطي يجر كلبا، وبعض الرجال الآخرين يروحون ويجيئون، ويطردون الناس بعيدا ويلسعون الأطفال على أردافهم العارية بالعصا الخيزران.
كفر الطين كلها كانت فوق الجسر، الرجال بجلابيبهم وعصيهم، والنساء بالطرح السوداء، والأطفال بذبابهم وأنوفهم السائلة وأردافهم العارية. ثلاثة فقط لم يظهروا فوق الجسر. زكية كانت في دارها، جالسة على الأرض في المدخل الترابي وإلى جوارها زينب، صامتتين، عيناهما المرفوعة إلى أعلى شاخصة إلى الطريق في غضب أشبه بالتحدي أو في تحد أشبه بالغضب. في واجهتهما على مسافة غير بعيدة، كان هناك الباب الكبير قائما بأعمدته الحديدية يقود إلى البيت الضخم.
كان كفراوي جالسا القرفصاء، مختبئا في حقل الذرة، حين سمع الأصوات تقترب منه، يتقدمهم الكلب الذي لم يتوقف عن النباح. أدرك أنهم عرفوا مكانه فتسلل من بين أعواد الذرة وخرج إلى بطن الجسر. لمحه بعض الأطفال المتجمهرين فصرخوا: «كفراوي! كفراوي!» وجروا وراءه، لكنه استطاع أن يسبقهم وجرى ناحية النيل.
قبل أن يدركه الكلب، ومن خلفه رجال الشرطة، كان كفراوي قد خلع جلبابه، وألقى نفسه في النيل. لم يكن كفراوي يعرف لماذا هو يهرب، أو إلى أين يذهب، لكنه كان يريد أن يفر ويجري ولا يكاد يعرف تماما ما الذي حدث منذ كان راقدا إلى جوار الجاموسة.
سمع صوتا في الماء وأدرك أن رجلا يسبح بسرعة خلفه ويكاد يقترب منه، فأخذ يضرب الماء بذراعيه وساقيه، متطلعا نحو الشط الآخر من النيل، كأنما هناك النجاة، وقد نسي من اضطرابه أن الشط الآخر من النيل إنما هي بقية مزارع البرتقال التي يملكها العمدة.
فوق الجسر، كان يقف أهل كفر الطين يتقدمهم الضابط والكلب وشيخ الخفر وبعض الخفراء ورجال الشرطة. كانت عيونهم شاخصة إلى الجسدين السابحين في النيل، يترقبون بنشوة المتفرجين في أي سباق، أيهما سيفوز. حينما كانت المسافة بين الجسدين تتسع، يشعر الفلاحون بفرحة خفية غامضة، يريدون أن ينجو كفراوي ولا يلحق به الشرطي، وإحساس شبه غريزي خفي بأن كفراوي ليس قاتلا وليس مجرما، وكراهية خفية شبه غريزية يحسون بها نحو رجال الشرطة وكل مندوبي السلطة والحكومة. عداء خفي قديم يكنه الفلاحون للحكومة، يدركون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون أنها تعمل على الدوام ضدهم، وتنهب جسدهم وعرقهم.
الضابط كان يتأمل المشهد بغير حماس، ينظر في ساعته من حين إلى حين كأنما هو على موعد آخر هام، ويريد أن ينتهي من هذه المهمة بأسرع ما يمكن، والكلب أيضا لم يكن يعنيه كثيرا ما يدور، وقد رقد فوق الجسر يستمتع بأشعة الشمس والخضرة والنيل كأنه حرم من مشاهد الطبيعة طويلا. والوحيد الذي كان قلقا هو شيخ الخفر، وكلما كانت المسافة تضيق بين الجسدين يهتف مشجعا الشرطي: جدع يا بيومي!
يرن الصوت في أذني بيومي فيضرب الماء بذراعيه وساقيه بقوة لا يعرف مصدرها أو دافعها الحقيقي. إنه مكلف بالقبض على ذلك المجرم، هذا هو كل ما يعرفه، ولا يفكر في أكثر من ذلك.
ومنذ أن رن في أذنيه الصوت الآمر الحاد «اقبض عليه» كان يندفع منطلقا بسرعة منتظمة كقذيفة أطلقها مدفع.
خرج كفراوي من الماء عاريا تماما وقفز على الشط وجرى بين أشجار البرتقال. خرج بعده بيومي وقفز على الشط وراءه. بيومي كان عاريا هو الآخر إلا من سروال صغير، وجسده طويل مشدود العضلات، ووجهه طويل مشدود العضلات، حاد الملامح كوجه صنع من الورق المقوى: وجه شرطي ، بغير انفعال، بغير فرح أو حزن، بغير خوف أو أمل، بغير شيء سوى ذلك التعبير الوحيد الذي يرتسم على وجوه رجال الشرطة، وهو تعبير لا يعبر عن شيء، كالوجه الأملس، أو كبطن اليد، لا يعرف أحد حين ينظر إليه ما هي مشاعره، وما هي أفكاره؛ لأنه يبدو بغير مشاعر وبغير أفكار، كوجه صنع من النحاس، كرأس المطرقة النحاسية أو الحديدية التي تعلق على أبواب البيوت. وجسده أيضا مشدود صلب كأنه نحاسي، وذراعاه وساقاه وهو يسبح أو يسير أو يجري تبدو كأنها نحاسية، كأطراف الرجل الآلي، لها مفاصل ولها حركة قوية بطيئة أو سريعة، ولكنها حركة آلية منتظمة لا تصدر عن عضلات من لحم ودم.
رآه كفراوي وهو مختبئ وراء شجرة البرتقال فارتعد جسده بخوف غريب، كأنه يرى عفريتا ليس من الإنس وليس من الجن، وليس هو حيا ولا ميتا، وليس هو آدميا مع أن له شكل الآدميين.
لم يعرف لماذا بدا له هذا الوجه مفزعا أكثر من وجه الكلب الغاضب اللاهث الذي جرى وراءه يريد الفتك به؛ أدرك من حيث لا يدري أن الوجه الخالي من الانفعال، وإن كان آدميا، يفزع أكثر من وجه حيوان أو وحش منفعل، وإن كان الانفعال هو الغضب.
أحس كفراوي الرعب يزحف فوق جسده كبرودة مثلجة ولم يعد يشعر بجسده أهو واقف مختبئ وراء شجرة البرتقال أم هو يجري بين الشجر، وذلك الشبح المفزع يسير نحوه بخطوات ثابتة حديدية لا تسرع ولا تبطئ، كخطوات الزمن، كعقربي ساعة باردة وحيادية لا تعرف شيئا إلا الحركة إلى الأمام بغير توقف حتى الموت. وحينما التفت الأصابع الحديدية حول ذراعيه أغمض عينيه وقرأ الشهادة: «أشهد أن لا إله إلا الله»، ولم يعد يرى أو يسمع شيئا. أصبح كل شيء حوله مظلما أسود ساكن الحركة والصوت، وكأنما انتقل إلى العالم الآخر.
حين فتح عينيه مرة أخرى وأبصر الأشياء وسمع الأصوات اتسعت عيناه بالدهشة. كان جالسا في حجرة فسيحة مليئة بالناس الجالسين في أماكنهم ينظرون إليه، وكان أمامه ثلاثة من الرجال جلسوا من خلف شيء خشبي عال أشبه بالمنضدة.
أحد الرجال كان يلوح بيده في غضب وينظر إليه مهددا؛ تلفت كفراوي حوله لا يعرف شيئا عما يدور حوله، وفجأة أحس بأصبع قوي يلكزه في كتفه كالمسمار، وصوت حاد يخترق أذنيه: ألا تسمع؟ لماذا لا ترد؟
وفتح كفراوي شفتيه وقال: هل يكلمني أحد؟
ورد الصوت الحاد: نعم. هل أنت نائم؟
استيقظ وأجب على أسئلة السيد البيه.
لم يفهم كفراوي من هو هذا السيد البيه، ولم يعرف أين هو بالضبط، كل ما أدركه أنه لم يعد في كفر الطين، وأنه قد يكون في بلد آخر، أو في عالم آخر، لم يعرف كيف حملوه أو كيف أتوا به إلى هنا.
وفجأة سمع صوتا يقول له في غضب: ما اسمك؟
ورد كفراوي: كفراوي.
وعاد الصوت الغاضب: عمرك؟
وتردد كفراوي لحظة ثم قال: أربعون أو خمسون.
سمع الناس يضحكون ولم يعرف سبب ضحكهم.
عاد الصوت الغاضب: أنت متهم بقتل علوان، وخير لك أن تعترف بدلا من تضييع الوقت.
وقال كفراوي: أعترف بماذا؟
رد الصوت: بأنك قتلت علوان.
قال كفراوي: أنا لم أقتله. علوان رجل طيب.
قال الصوت: ألم تسمع أنه هو الذي اعتدى على ابنتك نفيسة؟
قال كفراوي: سمعتهم يقولون علوان.
سأل الصوت: ألم تفكر في قتله بعد أن سمعت ذلك؟
رد كفراوي: لا.
سأل الصوت: لماذا؟
قال كفراوي: لم أفكر.
سأل الصوت: هل هذا شيء طبيعي لأي رجل اعتدي على شرفه؟
رد كفراوي: لا أعرف.
سأل الصوت في غضب: هل هذا طبيعي؟
رد كفراوي: ما معنى طبيعي؟
سمع كفراوي الضحك مرة أخرى. تلفت حوله في دهشة. لم يعرف لماذا يضحك الناس. خيل إليه أنهم يضحكون على شيء آخر لا علاقة له به.
سأل الصوت: لماذا بقيت في الحقل وقت صلاة الجمعة ولم تذهب إلى المسجد ككل رجال القرية؟
رد كفراوي: كانت نفيسة تحرس الجاموسة حين أذهب إلى المسجد.
سأل الصوت: ألم تكن تعرف أن علوان لا يذهب إلى المسجد ككل رجال كفر الطين يوم الجمعة ؟
رد كفراوي: بلى.
سأل الصوت: كنت تعرف أم كنت لا تعرف؟
قال كفراوي: كنت أعرف. كل الناس تعرف أن علوان لم يكن يذهب إلى المسجد.
سأل الصوت: لماذا؟
رد كفراوي: لا أعرف. يقولون إن جده لأمه كان قبطيا، والله أعلم.
سأل الصوت: هل كنت تكره علوان؟
رد كفراوي: لا.
سأل الصوت: ألم تعتقد أن رجلا مثله كان يجب أن يؤدي الفرائض ويصلي؟
رد كفراوي: علوان رجل طيب.
سأل الصوت: ألا تعرف أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
قال كفراوي: سمعت الشيخ حمزاوي يقول ذلك.
قال الصوت: وقد اعتدى على ابنتك وارتكب الفحشاء ...
رد كفراوي: يقولون هذا.
سأل الصوت: وبعد كل ذلك، ألم تفكر في قتله؟
رد كفراوي: لا.
سأل الصوت: لماذا لم تفكر في قتله؟
رد كفراوي: علوان رجل طيب.
سأل الصوت: ألا تهتم بموضوع الشرف؟ ألا يهمك شرفك وشرف ابنتك؟
سكت كفراوي قليلا ثم قال: بلى.
قال الصوت: لهذا قتلت علوان؟
رد كفراوي: لم أقتله.
سأل الصوت بغضب: لماذا وجدوك إلى جوار الجثة؟
سكت كفراوي محاولا أن يتذكر لكنه عجز عن التذكر، فلم يرد.
وسأل الصوت في غضب: لماذا جريت وحاولت الهرب؟
رد كفراوي: كنت خائفا من الكلب.
سأل الصوت: هل تعرف لماذا اختارك الكلب من دون الرجال وجرى وراءك؟
رد كفراوي: لا. الكلب هو الذي يعرف.
سمع الضحك مرة أخرى، فتلفت حوله في دهشة لا يدري لماذا يضحك الناس.
قال الصوت بغضب شديد: لا تحاول أن تمكر علي، وخير لك أن تعترف، وإلا فهل تعرف ماذا ينتظرك؟
رد كفراوي: لا.
ورن الضحك في أذنيه وتلفت حوله في ذهول ودهشة، ثم أحس بأصابع حديدية تقبض على ذراعه وتسوقه إلى سرداب طويل مظلم، وأغمض عينيه وقرأ الشهادة مرة أخرى. •••
زكية لا تزال جالسة على الأرض في المدخل الترابي، وإلى جوارها زينب، صامتتين ... عيناهما شاخصة إلى الطريق، مرفوعة في غضب أشبه بالتحدي، أو في تحد أشبه بالغضب. في مواجهتهما لا يزال هناك الباب الكبير بأعمدته الحديدية الطويلة، يسد أمامهما الطريق، يحجب الجسر والنيل، ويظهر من ورائه العمدة من حين إلى حين، طويلا عريضا، يحيط به الرجال من كل جانب، يسير أمامهم بخطواته البطيئة الثابتة فوق الأرض، وفي عينيه نظرة زرقاء عالية مرفوعة نحو السماء، لا ينظر إلى تحت، ولا يرى الأرض، ولا يرى أن زكية وزينب جالستان على الأرض في مدخل البيت الترابي، شاخصتين صامتتين لا يرمش لهما جفن ولا تسقط لهما دمعة.
يدا زكية الكبيرتان راقدتان في حجر جلبابها الواسع الأسود، مشققتان غليظتان، حفر عليهما مقبض الفأس، وأظافرهما سوداء تفوح منها رائحة الطين والسماد، ترفعهما أحيانا وتمسك رأسها، أو تمسح العرق اللزج من فوق جبهتها، أو تهش ذبابة أو بعوضة. زينب إلى جوارها جالسة، يداها تعملان طول الوقت في تنقية الغلة أو عجن الروث بالتبن وتقطيعه دوائر بحجم الرغيف، وأحيانا تنهض وتحمل الجرة فوق رأسها وتسير إلى الجسر بجسمها الطويل الفارع، وعينيها السوداوين المرفوعتين، لا تنظر إلى أحد، ولا تلتفت ناحية بيت أو دكان، ولا تبتسم لأحد ولا تقول «العواف» لأية امرأة أو رجل، كما تفعل غيرها من النساء والبنات. وحينما تمر من أمام دكان الحاج إسماعيل تسرع الخطى، تكاد تحس فوق ظهرها لسعة العينين الزرقاوين، بنظرتهما الحادة القوية الثابتة لا تلين ولا تهدأ، تكاد تشق جلبابها من فوق جسدها، وتلتهم ساقيها الطويلتين الممشوقتين تصعدان إلى فخذين ممتلئتين لهما استدارة أنثوية ناعمة كفخذي أختها نفيسة، تزيد استدارة ونعومة عند ردفيها الملفوفين الصاعدين بحدة إلى خصر ضامر مشدود وظهر مرفوع قوي العضلات؛ ترفع زينب طرحتها بيدها وتخفي وجهها وصدرها، لكن النظرة الحادة الثابتة لا تلين ولا تهدأ، تشق جلبابها الواسع وهي تصعد الجسر أو تهبط، تلتهمها من الخلف ثم تدور حول جسدها العاري لتلتهم نهديها الصغيرين المدببين وهما يصعدان ويهبطان مع حركة قدميها السريعتين ومع دقات قلبها وأنفاسها اللاهثة، وشفتاها الممتلئتان منفرجتان تعلوهما رعشة، ووجهها أحمر بلون الدم.
تصل زينب إلى البيت فتضع الجرة على الأرض، وتجلس إلى جوار عمتها زكية وهي لا تزال تلهث، قلبها لا يزال يدق، وصدرها يعلو ويهبط، وحبات عرق لا تزال عالقة بجبهتها لم تسقط ولم تجف.
ترمقها عينا زكية في صمت، ثم تنفرج شفتاها الجافتان المطبقتان عن صوت خافت كالهمس: ما لك يا زينب يا ابنتي؟
تسكت زينب ولا ترد. تظل زكية صامتة طول الوقت، ثم تنفرج شفتاها مرة أخرى عن صوت خافت كأنما تكلم نفسها: يا ترى أين أنت الآن يا جلال يا ابني، حي أنت أم ميت؟ لو أعرف أنه مات يا رب لاستراح قلبي، وهذا كفراوي أيضا يذهب، يا ترى سيعود إلينا أم لن يعود، يا رب ألم يكف جلال ونفيسة، فيصبح كفراوي أيضا؟ لم يعد لنا أحد يا رب، والدار أصبحت خالية، وزينب لا تزال صغيرة، وأنا أصبحت عجوزا ... ومن سيرعى الجاموسة والحقل؟
ترد زينب وهي تجفف عرقها بطرف طرحتها: أنا كبرت يا عمتي، وسوف أرعى الجاموسة والحقل والدار وكل شيء حتى يعود أبي. أبي سيعود، وسيعود جلال أيضا، ونفيسة ...
وترد زكية: من يذهب هناك لا يعود يا ابنتي.
تقول زينب: ربنا يعرف حالنا ولن يتركنا يا عمتي. تهمس زكية كأنها تكلم نفسها لن يعود أحد. الذي يذهب لا يعود. وكفراوي أيضا لن يعود.
وتقول زينب بحماس: أبي سيعود يا عمتي. سيقول لهم إنه لم يقتل أحدا وسوف يصدقونه. كل الناس تعرف أن أبي رجل طيب لا يمكن أن يقتل.
تتنهد زكية: الناس هنا تعرفه يا زينب، ولكن هناك لا أحد يعرفه. لو كان جلال هنا لذهب معه؛ جلال يعرف الناس هناك وكان يمكن أن يساعده، لكن جلال ليس هنا. جلال كان يساعد الغرباء، فما بال خاله كفراوي؟
ردت زينب: ربنا سيساعده.
تنهدت زكية: ربنا لا يكفي يا ابنتي!
رمقتها زينب بعينيها السوداوين اللتين اتسعتا في دهشة وقالت: أستغفر الله العظيم. ربنا كبير يا عمتي، ويساعد كل مظلوم. قومي توضئي وصلي وادعي الله ليساعدنا.
أشاحت زكية بيديها: ياما صليت وياما دعيت يا زينب، وكل يوم لا نرى إلا مصيبة وراء مصيبة!
لم يكن صوتها غاضبا، بل كان خافتا هادئا وباردا كقطعة الثلج. لكن عيني زينب اتسعتا بالدهشة حين نظرت في عينيها، ورأتهما مرفوعتين شاخصتين نحو السماء في نظرة غريبة، جعلت الشعر فوق جسدها ينتصب بقشعريرة غامضة، وارتجفت يدها وهي تمتد لتمسك يد زكية، وقالت لها: ما لك يا عمتي؟ يدك باردة كقطعة من الثلج؟
لم ترد زكية عليها، وظلت عيناها السوداوان مفتوحتين، متسعتين، شاخصتين في الفراغ، فارتعدت يد زينب وهي تهزها في كتفها: ما لك يا عمتي؟
حينما لم ترد زكية وعيناها ظلتا واسعتين سوداوين لا يرمش لهما جفن، صرخت زينب صرخة عالية وهي تلطم وجهها: عمتي يا ناس! عمتي زكية!!
لم تسمع زكية الأصوات ولم تر الأجسام التي ملأت مدخل البيت الترابي والدار والحارة وحجبت عن عينيها الباب الكبير، لكن الأعمدة الضخمة ظلت أمام عينيها كالسيقان الحديدية الطويلة تزحف نحوها ببطء وهي راقدة على بطنها في المدخل الترابي، تلعق التراب بلسانها، واللعاب يسيل من فمها وأنفها وعينيها، وتبكي بصوت عال لتسمعها أمها وتأتي لتحملها بين ذراعيها بعيدا عن أقدام الجاموسة، لكن الجاموسة تقترب منها وتكاد تدوسها، لولا أن أمها تأتي أخيرا وترفعها. حلم غريب ظل يتردد على نومها، أحيانا ترى جسدها يسقط من فوق جبل عال ثم يغرق في النيل، لكنها تسبح بكل قوتها رغم أنها لا تعرف السباحة وتكاد تصل إلى نهاية الطريق لكنها ترى بابا أو نافذة عليها قضبان من الحديد، وهي راقدة على الحصيرة بين زوجها عبد المنعم وابنها جلال. تفتح عينيها وهي نائمة بينهما على صوت أنفاسها؛ ترى من وراء النافذة الحديدية رجلا غريبا يجر عربة يد عليها كوارع ورأس وكرشة، العربة لا يزال يتساقط منها الدم، عينا الرجل تنظران إليها وهو يقترب منها، وتمتد يده الطويلة ليشد الخلخال من قدمها. حين يقترب ترى أن عيني الرجل هما عينا أم صابر، وأم صابر تشدها من ساقها وتشد فخذها لتبعده عن الفخذ الآخر، ثم تضع الموس البارد على عنقها وتذبحها، تحاول أن تصرخ لكنها لا تستطيع، وتحاول أن تجري هاربة لكنها لا تستطيع، كأنما تسمر جسدها في الأرض ... تحرك رأسها فترى ابنها جلال نائما إلى جوارها، تحاول أن تضمه إليها لكن يدها لا تصل إليه، تحس من الناحية الأخرى يدا تقبض عليها وترى زوجها عبد المنعم راقدا، لكنه ينهض بسرعة ويضربها على رأسها وصدرها وبطنها، وترتطم قدمه ببطنها الحامل فتصرخ، لكن صوتها لا يخرج، وتراه يقترب منها ويشق جلبابها بأصابعه، وتضغط أصابعه على ثديها، ثم تزحف إلى بطنها وتهبط إلى فخذيها، وتحس جسده القوي الثقيل فوقها يضغط ويضغط، ويهز الأرض هزا شديدا. لم يستيقظ ابنها جلال على صوت هزات الأرض، لكنها فتحت عينيها ولم تر وجه عبد المنعم زوجها وإنما وجه كفراوي أخيها، فشهقت مذعورة وندت عنها صرخة لم يسمعها أحد، وأخفى كفراوي وجهه في الحصيرة وسمعت صوته وهو ينشج بالبكاء كأنفاس متقطعة؛ مدت يدها وأمسكت رأسها، ورفعت وجهه من فوق الحصيرة، فرأت أنه وجه جلال ابنها. مسحت دموعه بكفها، وغسلت له فمه وأنفه بماء الزير، لكن أنفه يظل يسيل، وفمه يظل مفتوحا يندفع منه الماء، ومن حوله على الأرض يتجمع الماء وبراز سائل كالماء، يتجمع على شكل بركة صغيرة، لا تلبث أن تجف، ويجف أيضا جسد ابنها وينكمش كالأرنب الصغير، تنبش الأرض بأصابعها وتدفنه كما الأرنب الميت. يعود زوجها عبد المنعم من الحقل، وحين لا يجد ابنه يضربها في رأسها وبطنها، في كل مرة يموت لها ولد يضربها، وفي كل مرة تلد له بنتا يضربها، ولدت عشرة أولاد وست بنات، ماتوا جميعا إلا جلال، الوحيد الذي كبر وعاش.
تتلفت زكية حولها وترى عيونا تحدق في وجهها فتقول كأنما تكلم نفسها: «جلال الوحيد الذي كبر وعاش، ولكنه ذهب هو الآخر ولم يعد. وكفراوي ذهب، ونفيسة ذهبت، والدار أصبحت خالية، وزينب لا تزال صغيرة، وأنا أصبحت عجوزا، ولا أحد سيرعى الحقل والجاموسة.»
وتسمع أصواتا كثيرة ترد في نفس واحد: «ربنا كبير يا زكية، ادعي ربنا يرجعهم بالسلامة.»
وترد وهي لا تنظر إليهم: «ياما دعيت، ياما صليت، وياما قلت يا رب، ولا أحد يرد ولا أحد يسمع.»
وتهتف الأصوات الكثيرة في نفس واحد: أستغفر الله.
أستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله. •••
زكية لا تزال جالسة على الأرض، تغمض عينيها ثم تفتحهما، ثم تعود وتغمضهما. إذا أغمضت عينيها تراءى لها الباب أو النافذة ذات الأعمدة الحديدية والرجل ذو العربة يحمل عليها الكوارع والرأس المذبوح، يشد قدمها ثم ساقها ثم فخذها، يحاول أن يذبحها؛ تفتح عينيها مذعورة وترى وجوها كثيرة لا تعرفها، تتعرف من بينها على وجه زينب، وإلى جوارها أم صابر جالسة القرفصاء أمام وعاء من الصفيح، فوق موقد تتصاعد منه أبخرة البخور، والأصوات كثيرة، لا تكاد تتبين الكلمات لكنها ترى الحركات، لا تعرف تماما ماذا يفعل هؤلاء الرجال والنساء، مجموعة من النساء كانت تدور حول نفسها كأنما ترقص حول الأبخرة المتصاعدة، أردافهن وأثداؤهن تهتز مع دقات الطبول القوية، وشعورهن الطويلة انطلقت من الضفائر وأصبحت تهتز بعنف، وأفواههن مفتوحة عن آخرها ينشدن في نفس واحد: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفرت يحضر!» ومجموعة أخرى من الرجال كانوا يرقصون ويهتزون على دقات الطبول، وعلى رءوسهم غطاء أبيض طويل يتدلى وراء ظهورهم.
أم صابر تروح وتجيء بين النساء والرجال بملاءتها السوداء وجسدها القصير النحيل بغير ثديين لكن ردفيها كبيران يهتزان بعنف. من يراها من الأمام يظن أنها رجل، ومن يراها من الخلف يقول إنها امرأة، من يرى جسمها وحركتها السريعة النشيطة يظن أنها شابة، ومن ينظر في وجهها يدرك أنها عجوز، تحرك جسمها وسط الرجال كما تحركه وسط النساء، وتضرب الرجال على أفخاذهم كما تضرب النساء، ترقص وتضحك وتلطم وتولول، تحكي النكات النابية بالطريقة نفسها التي تتلو بها التعاويذ والآيات القرآنية، لا أحد يظن بها سوءا؛ فهي في نظر أهل كفر الطين أم صابر الداية، ليست امرأة وليست رجلا، كائن بغير جنس، وبغير أسرة، وبغير أقارب. تعيش وحدها في بيت طيني مظلم إلى جوار بيت نفوسة الغازية وراء الخرابة خلف الجامع، لا يعرفون من أين جاءت ولا متى ولدت ولا يتصورون أنها يمكن أن تموت؛ فهم يرونها في حركة مستمرة لا تنقطع ليل نهار، تخرج من بيت لتدخل إلى بيت، تولد النساء، تطهر البنات، تثقب الآذان وترش الملح في السبوع، وتحمي الأم في الأربعين، تشترك في جميع الأفراح والأحزان، في الأفراح تزغرد وتصبغ أقدام النساء والبنات بالحنة الحمراء، وفي ليالي الزفاف تفض بكارة العروس أو تصبغ البشكير بدم دجاجة أو أرنب، وفي الأحزان تندب وتلطم خديها وتغسل الميت إذا كان أنثى، وتحل مشاكل النساء والبنات، فتجهض الحوامل بأعواد الملوخية، تخنق المولود أو تترك حبله السري ينزف ولا تربطه بالفتلة الحرير. أهل كفر الطين جميعهم يعرفونها؛ فهي جزء من كل بيت، لا يقوم أي بيت بدونها. توفق الرءوس في الحلال، تخطب العرسان وتزوج البنات، تحمي الشرف والعرض وتتستر على الشرف والخيانات والفضائح والمصائب. تعالج المرضى بوصفاتها البلدية وتشترك في الزار؛ ترقص وتغني وتذبح الذبيحة، وترش الدم وتحرق البخور وتأخذ الأثر. وحينما لا يكون هناك فرح ولا حزن ولا مرض ولا مصيبة ولا زار تحمل سلتها الكبيرة وتدور على البيوت؛ تبيع المناديل والبخور واللبان، وتشوف البخت والفنجان.
العرق يتصبب من وجه زكية وهي راقدة أو جالسة أو واقفة لا تكاد تعرف، ومن حولها الأجساد تهتز، تترنح، وتسقط على الأرض ثم تنهض مرة أخرى. العرق يتصبب من الأجساد، الرجال والنساء على السواء، تتعرف على النساء من أثدائهن وأردافهن الكبيرة التي تهتز بعنف، وتتعرف على الرجال من شواربهن السوداء أو لحاهم ذات الشعر الطويل الغزير.
العرق يتصبب من وجهها وجسدها أيضا، وترفع يدها لتمسح العرق، لكنها ترى العرق أحمر بلون الدم، وأم صابر تملأ كفيها بدم الديك المذبوح ثم ترش وجهها وعنقها وصدرها وبطنها. أيادي الرجال والنساء تعتصر جسد الديك المذبوح وترشها بالدم. أحد الرجال ملأ كفه بالدم، ثم رش عنقها وصدرها، امتدت يده داخل فتحة جلبابها ودهن ثدييها بالدم. تزاحمت الأيدي فوق جسدها ترشه وتدهنه وتدلكه وتقرصه. امتدت يد غليظة، لم تعرف يد رجل هي أم يد امرأة، ورشت الدم بين فخذيها ثم قرصتها. صرخت ولطمت خديها وسمعت الجميع من حولها يصرخون: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفريت يحضر!» اختلط الصراح والعويل في أذنيها بدقات الطبول وإيقاع الأقدام، واختلط العرق بالدم، واختلطت الوجوه، لم تعد تعرف وجه أم صابر من وجه الشيخ متولي، ولم تعد تعرف زينب من نفوسه الغازية. أصبح جسد زينب طويلا ملفوفا يتثنى ويتمايل ويترنح كجسد نفوسة الغازية، وشعرها أصبح كشعرها بغير ضفائر، طويلا منكوشا تقذفه إلى الأمام فيصبح فوق نهديها البارزين المدببين، ثم تقذفه مع جسدها إلى الخلف فينسدل فوق ظهرها وتضرب أطرافه ردفيها المستديرين البارزين، جلبابها أصبح مشقوقا من الذيل حتى خصرها، تضرب الأرض بقدمها فينفتح الجلباب وتظهر استدارة فخذها الناعمة البيضاء، ترفع ساقها في الهواء ثم تضرب الأرض بقدمها الأخرى؛ فيتسع الشق وتظهر من الجانب باستدارة ثديها الناعم، هابطة إلى بطن ناعم مستدير، يرتعش وينتفض مع دقات الطبول في هزات عنيفة، والأجساد من حولها تترنح وتسقط ثم تنهض مرة أخرى. اختلطت أجساد النساء بالرجال، وأصبحوا يدورون في حلقة واحدة، يتوسطها جسد نفوسة الغازية ومن حوله يدور الشيخ متولي، ترتطم يده أو قدمه أو ركبته في كل دورة بثديها أو فخذها أو بطنها، وهي تشد شعرها الطويل وتصرخ، والشيخ متولي يصرخ، والجميع يصرخون في نفس واحد: «شيخ محضر يا شيخ محضر، اللي عليه عفريت يحضر!»
خيل لزكية أن جسدها أصبح يتحرك وحده، وأنها رأت قدميها تسيران نحو الحلقة الراقصة وجسدها يدس نفسه بين الأجساد، يتحرك معهم، يهتز ويترنح، وشعرها سقطت عنه الدوبارة الصوفية وانسدل فوق وجهها كالغمامة السوداء، وأحست أصابع قوية تلدغها في ثديها لدغة عنيفة كلدغة ثعبان بل أشد، صرخت بأعلى صوتها، فتحت فمها عن آخره وظلت تصرخ وتولول بغير توقف، صرخة حادة طويلة امتدت طول عمرها الذي مضى، صرخة مكبوتة مختزنة في جسدها منذ ولدت، منذ سمعت أباها يضرب أمها لأنها لم تنجب ذكرا، منذ تعلمت المشي وسارت وراء الحمارة فوق الأرض الملتهبة تلسع بطن قدميها، منذ تعلمت الأكل وحرقت معدتها الشطة والمخلل، منذ شدتها أم صابر وطهرت ما بين فخذيها، منذ أصبح لها ثديان يقرصها فيهما الرجال، منذ ضربها عبد المنعم زوجها ثم صعد فوقها بجسده الثقيل الضخم، منذ حملت وولدت ونزفت ودفنت أولادها واحدا وراء الآخر، منذ ارتدى جلال بدلة الجيش وذهب ولم يعد، منذ أن غابت نفيسة وغنى الأطفال نفيسة وعلوان، منذ أن جاءت العربة بالأفندية والكلب ثم ذهبوا ومعهم كفراوي.
صرخة طويلة ممدودة بامتداد عمرها، أطلقتها وهي تمزق شعرها وجلبابها وتغرز أظافرها في لحم جسدها لتمزقه، وأم صابر لا تزال تملأ كفيها من دم الديك المذبوح وترش وجهها وعنقها وثديها وبطنها وظهرها: اصرخي يا زكية ليخرج العفريت من جسدك، اصرخي يا زكية بأعلى صوتك! وتصرخ زكية، وتصرخ أم صابر وتصرخ نفوسة الغازية، وتصرخ زينب، ويصرخ الشيخ متولي، ويصرخ كل الرجال وكل النساء في كفر الطين صرخة طويلة حادة ممطوطة وممدودة بامتداد أعمارهم منذ ولدوا ومنذ ضربوا ومنذ قرصوا، ومنذ لدغوا، ومنذ حرقت الأرض أقدامهم، وحرق الملح بطونهم، وكوى المر أكبادهم، وأخذ الموت صبيانهم وبناتهم. •••
لكن العفريت لم يغادر زكية، ظل راكبا جسدها جاثما فوق صدرها، تلهث وهي جالسة، وتراه راقدا على صدرها، وحين يرفع وجهه إليها ترى ابنها جلال؛ فتشد ثديها من فتحة ثوبها وتدس الحلمة السوداء في فمه، لكنها سرعان ما تكتشف أنه ليس ابنها، وإنما هو زوجها عبد المنعم؛ فتبعده عنها بحركة قوية من يدها، وحينما ينظر إليها ترى عيني كفراوي؛ فتشهق مذعورة، ويختفي لحظة وراء الباب أو النافذة الحديدية، ثم يعود يجر عربة اليد ومن فوقها الكوارع والرأس المذبوح يتساقط منه الدم. تنكمش في جلبابها وتبصق في فتحة جلبابها وتنادي على ابنة أخيها زينب، وتمسك يدها وهي تتلفت حولها بعينيها السوداوين المذعورتين: زينب يا بنتي لا تتركيني وحدي ... أنا خائفة. العفاريت تطاردني من وراء النافذة الحديدية.
وتنظر زينب حولها فلا ترى شيئا وتقول لعمتها: ليس هنا نافذة حديدية يا عمتي.
وتشير زكية بأصبع مرتجف ناحية الباب الحديدي الكبير قائلة: هي النافذة.
وتتبع عينا زينب أصبع عمتها وترى باب بيت العمدة الحديدي؛ فتقول لها وهي تربت على كتفها: إنه باب بيت العمدة يا عمتي. لا تخافي، وحاولي أن تنامي. سآخذ الجاموسة إلى الحقل وأعود إليك قبل المغرب.
وتتشبث زكية بجلباب زينب: لا يا زينب يا ابنتي، لا تتركيني وحدي.
وترد زينب: ومن سيذهب إلى الحقل يا عمتي؟ ومن سيطمعنا إذا بقيت إلى جوارك هنا في الدار؟
وتقول زكية: جلال أخذ الجاموسة وذهب إلى الحقل، وأنت يا زينب ابقي هنا معي، لا تتركيني وحدي. وتمسح زينب دموعها وهي تقول: جلال يا عمتي لم يذهب إلى الحقل، ولا بد أن أذهب أنا لأجمع المحصول وأسد دين الحكومة، وإلا أخذوا منا الأرض وأصبحنا نشحذ على أبواب الناس.
ورن صوت رجل من فوق عتبة الباب يقول: كيف تشحذ زينب وزكية ونحن في كفر الطين؟
واستدارت زينب لترى وجه الحاج إسماعيل، ينظر إليها بعين واحدة وعينه الأخرى تهرب في الاتجاه الآخر.
وقالت زينب: لا بد أن أذهب إلى الحقل يا حاج إسماعيل، وعمتي زكية كما ترى مريضة، ولم تعد تأكل ولا تشرب، ولا تنام، وترى من حولها خيالات وتسمع أصواتا وتخاف.
رد الحاج إسماعيل: زكية ركبها عفريت يا زينب، ولن يترك جسدها إلا إذا سمعت كلامي وعملت الوصفة التي سأدلك عليها.
ردت زينب وهي تمسح دموعها: أنا مستعدة أعمل أي شيء يا حاج إسماعيل من أجل أن تشفى عمتي زكية.
فتح الحاج إسماعيل حقيبته القديمة وأخرج ورقة طويلة كتب عليها بعض الآيات، فقرأ عليها بعض التعاويذ غير المفهومة ثم طواها وأدخلها في كيس قذر من الدمور وعلقها في عنق زكية، وهو يتلو الآيات والتعاويذ ويتمتم ويبسمل ويحوقل ويمسح رأسها ووجهها وصدرها بكفيه وظهر يديه.
مسح وجهه بيديه وقال لزينب التي جلست إلى جوار زكية: هذا الحجاب له فعل السحر، ثمنه فقط خمسة قروش. والآن اسمعي يا زينب كلامي جيدا، ونفذيه بالحرف الواحد من أجل أن تشفى زكية. يوم الخميس القادم تأخذين عمتك وتركبين الكافوري إلى باب الحديد، ومن باب الحديد تأخذين الترام إلى السيدة زينب ؛ ستجدين المولد والذكر وأهل الله الصالحين، وتبيتين ليلة الجمعة أنت وعمتك في حضن السيدة. صباح الجمعة ترفعين يديك لله وتقولين: يا رب! اسمعني يا رب! عمتي زكية تابت إليك من كل ذنوبها، فاغفر لها أنت الغفور الرحيم. سيسمع الله دعوتك، وترين وليا من أولياء الله يقبل نحو عمتك زكية، ويرفع عن عنقها هذا الحجاب ثم يعلقه مرة أخرى وهو يقول لها وصية معينة، بعد أن يقول الوصية لعمتك يجب أن تعطيه عشرة قروش فضية ثم تعودي بعمتك إلى هنا لتنفذي ما قاله بالحرف الواحد. احفظي كلامه جيدا لأن ما يقوله لك هو أمر الله، إذا لم تنفذيه ظل غضب الله على عمتك زكية باقيا والعفريت يظل راكبا جسدها.
ردت زينب بأمل وحماس: ربنا يطيل عمرك يا حاج إسماعيل. أنا مستعدة آخذ عمتي إلى السيدة (شي الله يا ست) ومستعدة أن أفعل أي شيء يأمر به الله.
ليلة الخميس جاءت أم صابر وحممت زكية بماء النيل الطاهر، وربطت زينب طرف طرحتها حول بضعة قروش جمعتها لها بعض الجارات، ثمن الكافوري وثمن الترام، وخمسة قروش ثمن الحجاب وبريزة (عشرة قروش) فضية الثمن الذي ستدفعه لتعرف أمر الله. همست زكية تكلم نفسها: «حتى الله يريد أن ندفع له يا زينب يا بنتي، وهو يعلم أننا لا نملك شيئا.»
وترد زينب: لا تحملي هم شيء يا عمتي، خير ربنا كثير، وأهل الخير كثيرون، المهم أن يغفر الله لك، ويطرد عنك هذه الروح الشريرة. •••
قبل أن يظهر ضوء الشفق الأحمر ناحية الشرق، وقبل أن يرتفع في الظلام صوت الديك أو أذان الشيخ حمزاوي لصلاة الفجر، انفتح الباب الخشبي الكبير، محدثا ذلك الصرير كصرير الساقية العتيقة، وظهر شبحان طويلان، تنسدل فوق رأسيهما وظهريهما الطرحة الطويلة السوداء. سقط ضوء الفجر على وجه زينب الطويل الشاحب وظهرت عيناها السوداوان الواسعتان مرفوعتين في غضب أشبه بالتحدي أو في تحد أشبه بالغضب، وإلى جوارها وجه زكية نحيلا هزيلا مليئا بالتجاعيد، وعيناها واسعتان شاخصتان إلى الأمام غير مستسلمتين.
تنقشع الظلمة قليلا عن وجه النيل؛ فتبدو أمواجه الهزيلة كتجاعيد وجه عجوز منكسرة وشبه مستسلمة للقضاء والقدر. يهب الهواء ويتطاير التراب من فوق الجسر إلى المنخفض حيث ترقد البيوت الطينية السوداء بأسطحها المتعرجة، تعلوها أكوام القش والحطب والجلة، ونوافذها الصغيرة كثقوب في الجدران، وأبوابها الخشبية، وجدرانها مدهونة بالطين، فيما عدا بيت العمدة الكبير، جدرانه حمراء بنيت بالطوب الأحمر، وبابه حديدي كبير، ونوافذه عالية واسعة، وسطحه مرتفع يزيد في ارتفاعه عن مئذنة الجامع، ولا يغطيه قش ولا حطب ولا جلة، أرضه نظيفة لامعة بنيت بالأسمنت المسلح.
سارت زينب وإلى جوارها زكية، تنظران إلى الأمام، ومن خلفهما يرتسم فوق الجسر الترابي أربعة أقدام كبيرة بأصابعها الخمس، أصابع زينب أصغر قليلا من أصابع زكية، تضغط على الأرض بقوة أكثر، وساقاها الطويلتان تضربان الجلباب من الخلف ضربات قوية منتظمة، وعيناها تمتدان بامتداد النيل وامتداد شريط الحقول الموازي للنيل، لا ترى لهما نهاية، ولا تكاد تعرف أين يمكن أن تكون السيدة، وأين يمكن أن يظهر الكافوري الذي سيحملهما إلى باب الحديد. زكية إلى جوارها أصبحت تلهث؛ أسندت ذراعها على كتف ابنة أخيها وواصلت السير صامتة.
عند المنحنى، كانت هناك شجرة جميز ورجل عجوز وامرأة شابة جالسان تحت الظل ومعهما قفص صغير. توقفت زينب وسألت عن الكافوري، فقال لها الرجل العجوز: نعم يا ابنتي، انتظري معنا هنا؛ نحن أيضا ذاهبان إلى السيدة.
جلست زينب وزكية على الأرض الترابية إلى جوارهما. أخذ الرجل العجوز ينقل عينيه من زينب إلى زكية، ثم سأل زينب: أمك مريضة يا ابنتي؟
ردت زينب: عمتي زكية، أمي ماتت من زمن يا عم.
رد الرجل: الله يرحمها يا بنتي، كلنا سنموت. الموت مكتوب علينا، ولكن المرض ربنا يكفيك شر المرض.
نظرت زينب إلى المرأة الشابة الجالسة إلى جواره، رأت عينيها تمتدان بعيدا نحو الأفق، ولا يبدو عليها أنها تتابع الحوار الدائر أو حتى تسمعه.
وسألت زينب: أهي ابنتك يا عم؟
رد الرجل: إنها زوجتي. كانت في أحسن صحة، ولكن لا أعرف ما الذي حدث لها، في يوم وليلة تغيرت وأصبحت لا تأكل ولا تشرب ولا تنام، تلكم نفسها، وترى خيالات وتصرخ بالليل، ذهبت بها إلى كل المشايخ وعملت لها زارا وأحجبة، وصرفت كل ما عندي ولم ينفع شيء. قال لي الشيخ عباس: خذها إلى الحجاز لتحج إلى بيت الله ويغفر الله ذنوبها ويطرد عنها الروح الشريرة. لكني قلت له: يا شيخ عباس أنا رجل فقير، وصرفت كل ما عندي على المشايخ، ولا أملك مصاريف السفر إلى الحجاز. فقال لي: خذها إلى السيدة، وادع السيدة زينب (شي الله يا ست) أن تتوسط لدى الله ليغفر ذنوبها، وخذ معك قفص تين برشومي للسيدة. والله يا بنتي شحذت على الأبواب مصاريف السفر واشتريت قفص التين، وها أنذا ذاهب معها إلى السيدة (شي الله يا ست) على أمل أن يشفيها الله.
ردت زينب: ربنا كبير يا عم.
نظر الرجل إلى زكية التي كانت تنظر بعينيها الواسعتين السوداوين نحو الأفق لا تتابع حوارهما ولا يبدو أنها تسمعه.
وقال الرجل لزينب: ستأخذينها إلى السيدة؟
ردت زينب: نعم يا عم.
سأل الرجل: ليس لها رجل يسافر معها؟ ليس لكما أحد يا ابنتي؟
قالت زينب: ليس لنا إلا الله، وجاموسة تركناها تشتغل في حقل جارتنا أم سليمان نظير أن تطعهما حتى نعود.
رد الرجل: ربنا معكما يا ابنتي. ربنا يساعدكما ويساعد كل محتاج.
رفعت زينب يديها للسماء وهمست: يا رب.
صعد قرص الشمس في السماء؛ وأصبحت الدنيا ملتهبة، والهواء توقف عن الحركة، وأسندت زينب رأسها إلى جذع الشجرة وأغمضت عينيها لتنام، لكنها صحت فجأة على صوت الكافوري الذي جاء محدثا من حوله زوبعة كبيرة من التراب، يميل على جانبه الأيسر كأنما سينقلب، ويخر الماء من جانبيه، ويندفع دخان أسود كثيف من مؤخرته السوداء كالهباب. استندت زكية على زينب وصعدت، واستندت الزوجة الشابة على الرجل العجوز وصعدت. دخل الجميع في جوف العربة المكدسة بالأجساد والأقفاص والأنفاس والتراب، جلست زكية على الأرض بين الأقدام بجوار السائق، وجلست إلى جوارها الزوجة الشابة. وقفت زينب والرجل العجوز مع الواقفين. تحرك الكافوري فجأة فسقطت زينب فوق الرجل وسقط الاثنان فوق الواقفين، وسقط الواقفون فوق الجالسين واختلط اللحم والأنفاس بالأنفاس ثم اعتدل الكافوري فوق الجسر واعتدلت الأجساد، وأصبحت زينب واقفة مرة أخرى فوق قدميها وإلى جوارها وقف الرجل العجوز.
سار الكافوري بحمله الثقيل يترنح، زجاج نوافذه المكسور يتطاير قطعة قطعة، وأبوابه ومقاعده مخلخلة انخلعت بعض أجزائها وراحت تهتز مع اهتزازات العربة فوق الأرض المتربة ذات الحفر والمطبات، ترتفع وتنخفض، والأجساد والأقفاص تهتز، ومفاصل الكافوري تطقطق بصوت عال كأنما ستنكسر، والماء يسيل من بين عجلاته كأنه يبول على نفسه، ويترنح كرجل سكير عربيد، ويملأ الجو بدخان أسود. وعند كل ثنية في الجسر يميل على أحد جانبيه ويوشك أن ينقلب في النيل، لولا أن السائق العجوز يهب واقفا وهو يلف عجلة القيادة بسرعة ومهارة فائقة، فتنحرف العربة إلى الناحية الأخرى وتكاد تسقط في بطن الجسر، لولا حركة أخرى مشابهة يقوم بها السائق المدرب، فتستقر العربة فوق عجلاتها الأربع وتعتدل بعض الشيء فوق الجسر سائرة في طريقها، ويعود السائق إلى وضعه الأول فوق مقعده، ويطل وجهه من بين الأجساد والأقفاص، شديد الشحوب كثير التجاعيد، وعيناه نصف مغلقتين كأنما على وشك النوم.
أغمضت زكية عينيها وهي جالسة على أرض العربة، لا تقوى على النظر إلى كل هذه الوجوه وكل هذه الأجساد المتلاصقة؛ لم تركب في حياتها عربة من قبل ولم تشهد في حياتها مثل هذا العدد من الأجساد المتكدسة، ولم يهتز جسدها مثل هذه الاهتزازات العنيفة. لكنها سرعان ما كانت تفتح عينيها مذعورة على هزة عنيفة، ويخيل إليها أن الأرض ستنقلب فوق العربة أو العربة ستنقلب فوق الأرض، وتبصق في فتحة جلبابها وهي تتشهد قبل أن تموت: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله»! وترن في أذنيها أصوات أخرى كثيرة تتشهد مثلها وكأنما يهتف الجميع في نفس واحد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
يخيل إليها أنها ماتت ثم صحت ولا تزال العربة تسير فوق الجسر بحذاء النيل. رفعت رأسها لترى النيل، لكن الأجساد من حولها كانت تسد النوافذ والأبواب، ولم تر إلا سقف الكافوري الأسود كهباب الفرن.
لم تعرف زكية أن الكافوري وقف إلا حينما شدتها زينب من يدها وهي تقول: انزلي يا عمتي.
استندت بيديها على زينب ونزلت. زاد وجهها شحوبا وزادت عيناها اتساعا وسوادا، وهي تتلفت حولها فلا ترى الجسر ولا النيل ولا البيوت الطينية الصغيرة، وإنما شوارع فسيحة لامعة وعمارات عالية شاهقة، وسيارات تجري وتتسابق في جنون، وترامات تصلصل بصوت عجيب، ونساء عاريات الأفخاذ والأثداء، يسرعن فوق كعوب عالية، ورجال أفندية بلا عدد، ودكاكين وأصوات عالية حادة وحركة سريعة مجنونة؛ أمسكت يد زينب بقوة والتصقت بها وهي تهمس: رأسي يدور يا زينب. امسكي يدي، لا تتركيني؛ لا أعرف هل رأسي يدور أم أن الدنيا هي التي تدور يا ابنتي.
كان رأس زينب هي الأخرى يدور، وعيناها السوداوان مفتوحتان واسعتان تتلفتان حولها في دهشة وعجب، والرجل العجوز أصبح هو الآخر يستند إلى زينب، والزوجة الشابة تستند إلى الرجل العجوز، وجميعهم الأربعة وقفوا متلاصقين يستند أحدهم على الآخر، وأفواههم مفتوحة كأنما تلهث وعيونهم تدور حول نفسها بحركة سريعة شبه مجنونة كتلك الحركة التي تدور من حولها.
التصقوا هم الأربعة بالجدار العالي وساروا بجوار الحائط ينقلون قدما وراء قدم في حذر، ينظرون أين تقع قدمهم، يخيل للواحد منهم أن قدمه ما إن تقع فوق الأرض حتى تلتهمها عجلة من تلك العجلات التي تجري بغير توقف. سألت زينب أحد الرجال عن الترام الذي يذهب إلى السيدة، فأشار الرجل إلى عمود طويل رشق في الأرض وقال لها: قفي هنا حتى يأتي الترام.
وقفوا هم الأربعة حيث أشار الرجل. كان المكان مزدحما بالناس الواقفين، ورفعت زينب عينيها فرأت الأسلاك الطويلة فوق رأسها بطول الشارع، ومن وراء الأسلاك رأت على البناء الضخم المواجه لمحطة الترام صورة كبيرة لامرأة عارية، ساقاها مفتوحتان وأمامها ثلاثة رجال يمسكون مسدسات.
أخفت وجهها بطرف طرحتها وهي تهمس لنفسها: يا عيب الشوم!
جاء الترام وتزاحمت الأجساد الصاعدة والهابطة فوق السلم الصغير المضغوط تحت الأقدام، أمسكت زينب بالحديد وصعدت ثم شدت من خلفها زكية، وصعدت الزوجة الشابة ثم صعد الرجل العجوز وشد من خلفه قفص التين البرشومي، لكن القفص سقط بين العجلات، فقفز الرجل خلف القفص، وانطلقت صرخة ثم صرخات، وتبعثر التين فوق السلم وعلى الأرض الأسفلت، سحقته الأحذية الجلدية، وصفر الكمساري وتوقف الترام.
لم تعرف زكية ما الذي حدث، وهل الترام يتحرك أم أنه واقف، لكنها أغمضت عينيها ليكف رأسها أو تكف الدنيا عن الدوران. حين فتحت عينيها مرة أخرى أحست أن جسدها يهتز مع اهتزازات الترام، وزينب إلى جوارها جالسة، وأمامها نافذة صغيرة ترى منها الشارع والزحام، والبيوت العالية رسمت على جدرانها نساء عاريات راقدات وواقفات وجالسات مفتوحات السيقان ورجال أفندية وجميعهم يحملون مسدسات. أمسكت يد زينب وهمست: إيه الحكاية يا بنتي؟
وردت زينب: الرجل العجوز يا عمتي وقع تحت الترام وذهب إلى القصر العيني ولم يذهب إلى السيدة (شي الله يا ست).
وأشارت زكية بيدها خارج نافذة الترام: لا حول الله يا رب، الدنيا هنا يا بنتي مجنونة أم أنا المجنونة؟
وردت زينب: ربنا يكملك بعقلك يا عمتي، أنت بخير والحمد لله، وسوف يشفيك الله بعد زيارة السيدة.
وهمست زكية لنفسها: «شي الله يا ست.» •••
ذاب جسد زينب ومن خلفه جسد زكية في كتلة اللحم البشرية الممتدة داخل السيدة وخارجها ومن حولها، الزاحفة إلى الشوارع الجانبية وإلى الشارع الرئيسي حتى قضبان الترام بل حتى الميدان، كتلة لحم بشرية جميعها بالجلاليب الطويلة والرءوس أو الطرح السوداء التي تفرق الإناث عن الذكور، والأقدام حافية، أصابعها غليظة مفلطحة، والكعاب مسودة مشققة، والكفوف خشنة حفر عليها مقبض الفأس أو المحراث أو الطنبور، والوجوه طويلة نحيلة شاحبة، والعيون واسعة سوداء مفتوحة عن آخرها في شبه ذهول، أو نصف مغمضة في شبه نعاس أو غيبوبة، والأفواه فاغرة أيضا عن آخرها كأنما في شهقة كبيرة واحدة أو شهيق دائم لا يتبعه زفير.
كانت أصابع زكية تلتف بقوة حول أصابع زينب، وجسدها يلتصق بجسد زينب، تخشى الانفصال عنها والضياع تماما وسط ذلك الخضم، لكن سرعان ما اندفعت بعض الأجساد بينهما، فانفصلت الأصابع وأصبحت زكية عاجزة عن أن ترى زينب ... غير أنها لم تعد خائفة، ولم تعد وحيدة؛ كل شيء من حولها مألوف، والجلاليب تشبه جلبابها، والأجساد لها الرائحة نفسها التي تشمها في جسدها، والأقدام والوجوه والأصابع وكل شيء يشبهها تماما، فكأنما هي جزء منها. وهي لم تعد خائفة، ولم تعد تبحث بعينيها عن وجه زينب، فالوجوه كلها تشبه وجه زينب، والغريب أيضا أن الأصوات تشبه صوتها، والكلمات وطريقة النطق، وطريقة رفع الكفين نحو السماء، والدعاء نفسه: «يا رب، ساعدنا يا رب.»
مرضى وعميان وعجائز وشباب وأطفال ومشايخ طرق وأهل ذكر وشحاذون ونشالون، وصانعو أحجبة وأولياء الله والوسطاء بين الناس والله والحارسون الباب بين الدنيا والآخرة، جميعهم ومعهم زكية وزينب يرفعون أكفهم الخشنة نحو السماء ويهتفون بصوت واحد ونفس واحدة: «يا رب.»
لم تكن زينب هي الأخرى تبحث بعينيها عن وجه زكية، كان وجهها قد ذاب في الوجوه، وجلبابها ذاب في الجلابيب، وأصبحت جزءا من الكون المحيط بها، وأصبحت كفاها مرفوعتين نحو السماء مع الأكف وصوتها يهتف مع الأصوات: «يا رب.» صراخ أكثر مما هو هتاف، وصوت زكية وهي تنطق «يا رب» يخرج كالصرخة الحادة الممدودة من صدرها إلى السماء، مبحوحة وحادة في الوقت نفسه، كأنفاس من عنق مذبوح، أو شهيق من صدر يختلط فيه الهواء بالدم.
وقلب زينب أصبح يخفق وهي تهتف يا رب، دقاته تهز صدرها ويهتز نهداها الصغيران المدببان تحت الجلباب، وعيناها تلمعان بضوء غريب، وينتفض جسدها انتفاضة كقشعريرة الحمى، والدم يصعد إلى وجهها في حمرة عذراء يعرف قلبها لأول مرة الخفقان: «يا رب.»
أحست زينب من حيث لا تدري أن الله سمع صوتها، وهي سمعت صوته، وأحس أنفاسها، وهي أحست أنفاسه، وأن جسدها أصبح متصلا بجسد الله وأنها ترتعد من خوف أشبه بالحزن، وتشعر براحة أشبه باللذة، وأنها تريد أن تبكي وتريد أن تزغرد، وتريد أن تغمض عينيها وتنام في حضن الله من شدة الراحة واللذة، لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن أن تغمض عينيها أو تنام من شدة الخوف وشدة التعب وشدة الحزن.
في تلك اللحظة سمعت صوتا يناديها: «يا زينب!» فأدركت على الفور أنه صوت الله يناديها كما نادته. قالت له: «يا رب.» فرد عليها: «يا زينب!» اقتربت من الصوت وهي لا تدري أتسير على قدميها أم تطير على أجنحة، وتلاشت من حولها الأجساد والأصوات ولم يعد أمامها إلا ذلك الصوت: «يا زينب!» ثم برز لها الوجه كأنما من ضباب أو دخان كثيف، ليس وجه رجل ولا وجه امرأة ولا وجه طفل ولا وجه عجوز، بل وجه بغير جنس وبغير عمر، كوجه أم صابر، لكن الرأس لا تغطيه طرحة سوداء، وإنما عمامة بيضاء كبيرة تخفي نصف الجبهة السمراء ذات البقع السوداء، والوجه تنتشر فوقه البقع والحفر كآثار مرض الجدري القديم، والعينان صغيرتان بغير رموش أو بغير جفون كأنما هما ثقبان صغيران ثابتان فوق وجه زينب لا يتحركان: أنت زينب بنت كفراوي؟
شهقت بدهشة: «نعم»، وصوت داخلها يهمس: «كيف عرفني من بين هؤلاء الآلاف أو الملايين؟» لكن صوتا آخر رد بسرعة: «سبحانه يعلم كل شيء.»
قال الرجل: أين عمتك زكية؟
وهمس الصوت داخلها مرة أخرى: «ويعرف أيضا أن عمتي اسمها زكية ... يا للعجب!»
تلتفت حولها تبحث عن وجه عمتها بين الوجوه فلم تجده، لكنها أدركت بعد لحظة أن يد زكية تمسك بيدها، وجسدها المرتعد ملتصق بجسدها وصوتها المرتجف يتمتم بآيات وكلمات غير مسموعة.
اقترب الرجل من زكية، مد يده السمراء المعروفة في فتحة جلبابها وأمسك الحجاب، خلعه عن عنقها وقرأ عليها بعض الآيات، ثم أعاده إلى عنقها. عينا زكية تتابعان حركته في شبه خشوع تكاد تخر فوق ركبتيها وتركع، وحينما توقفت يده عن الحركة انكفأت فوقها وقبلتها ولثمتها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة. ترك الرجل يده السمراء المعروفة تحت شفتيها، وقال موجها الكلام لزينب: عمتك زكية مريضة يا زينب. وسبب مرضها أنك عصيت الله كثيرا وهي شجعتك على هذا العصيان، لكن الله غفور رحيم، وسوف يغفر لك ولها إذا أطعتما أمره، ويشفيها من مرضها بإذنه تعالى.
رفعت زكية وزينب عينيهما وكفيهما للسماء هاتفتين في نفس واحد: نحمدك يا رب! يا من أنت كريم يا رب!
وقال الرجل: عليكما بالمبيت الليلة في حضن السيدة (شي الله يا ست)، وغدا قبل شروق الشمس تعودان إلى كفر الطين، تستحمان قبل النوم وأنتما تتشهدان بماء نظيف من النيل وتنامان بعد أن تصليا أربع ركعات الفرض وأربع ركعات السنة، وتقرأ كل واحدة منكما آية الكرسي عشر مرات. في الصباح الباكر تستحم زينب مرة أخرى بماء النيل النظيف وتتشهد وهي تستحم ثلاث مرات وتصلي الفجر حاضرا، ثم تفتح باب البيت قبل أن تشرق الشمس، وتقف على عتبة الباب، وجهها ناحية الشمس، وتقرأ الفاتحة عشر مرات. سترى أمامها بابا حديديا كبيرا، تسير إلى هذا الباب وتفتحه وتدخل. لا تخرج زينب من الباب الحديدي مرة أخرى إلا حينما يأمرها صاحب البيت، وهو عظيم ابن عظيم، من سلالة صالحة طيبة يرضى عنها الله ورسوله! أما زكية فتأخذ الجاموسة إلى الحقل، تربط الجاموسة في الساقية، وتمسك الفأس وتشتغل في الحقل حتى تسمع أذان الظهر، فتترك الفأس وتصلي أربع ركعات الفرض وأربع ركعات السنة. بعد الصلاة تظل راكعة وتقرأ الفاتحة عشر مرات. بعد المرة العاشرة ترفع يديها للسماء وتقول «اغفر لي يا رب» ثلاثين مرة، بعد المرة الثلاثين تنهض وتمسح وجهها بكفيها فإذا بها قد شفيت بإذن الله.
انكفأت زكية بوجهها على يده السمراء المعروقة مرة أخرى وراحت تقبلها وتلثمها وهي تهمس: أحمدك يا رب! أحمدك يا رب!
وانفرجت شفتا زينب وهي تتمتم بآيات الحمد لله! ونسيت من فرط خشوعها أن تعطي الرجل القطعة الفضية ذات العشرة قروش كما أوصاها الحاج إسماعيل، لكن الرجل طلبها منها، فارتفعت يدها تفك طرف طرحتها بأصابع لا تزال مرتجفة، وقدمت له البريزة الفضية وهي تقبل يده كأنما تقدم قربانا للإله، والصوت داخلها يهمس في تعجب: «يا إلهي! إنه يعرف كفر الطين، ويعرف بيتنا ، ويعرف أن أمامه بابا حديديا كبيرا.»
اختفى الرجل بين الأجساد كما ظهر، وظلت زكية وزينب واقفتين في مكانهما متلاصقتين خاشعتين ومشدوهتين، كل منهما تنظر إلى الأخرى من حين إلى حين، لتؤكد لها أو تتأكد منها أن ما حدث كان حقيقة ولم يكن خيالا، وأنهما سمعتا صوت الله، أو ربما رأتاه أيضا أو رأتا أحد رسله أو أوليائه الصالحين الذين كشف الله عنهم الحجاب، وشعرت زكية أن جسدها أصبح أخف مما كان، وأن القبضة الحديدية التي كانت تخنقها خفت قليلا ولم تعد تستند بيدها على ابنة أخيها زينب، وقدماها لم تعودا ضعيفتين كما كانتا.
اتسعت عينا زينب في دهشة أكثر وأكثر حين رأت عمتها زكية تسير إلى جوارها دون أن تستند إليها، وهمست في خشوع: عمتي! لقد تحسنت! انظري كيف تسيرين؟!
وهمست زكية وهي مشدوهة: جسمي يا زينب لم يعد ثقيلا كما كان. يا من أنت كريم يا رب!
ردت زينب: ربنا كبير يا عمتي. ألم أقل لك مرارا أن الله سيساعدنا، وأن عليك أن تصلي له وتصبري؟
قالت زكية: نعم يا ابنتي، قلت لي كثيرا.
ردت زينب: أنا عصيت الله، وأنت أيضا عصيت الله ورفضت الصلاة يا عمتي.
قالت زكية: أنا لم أرفض الصلاة يا ابنتي. العفريت الشرير الذي ركبني هو الذي رفض الصلاة ولست أنا.
ردت زينب: سوف يغادرك العفريت بإذن الله حين ننفذ ما أمرنا الله به.
سألت زكية: هل حفظت يا ابنتي ما قاله الشيخ؟ جسدي كان يرتعد ولم أحفظ ما قاله. أخشى أن يفوتنا شيء مما قاله.
ردت زينب: لا تحملي هم أي شيء يا عمتي، لقد حفظت كل كلمة وكل حرف عن ظهر قلب.
هتفت زكية: ربنا يبارك فيك يا ابنتي! •••
سكبت زينب ماء النيل النظيف من الزلعة فوق رأسها وصدرها، ودعكت ثدييها بالماء وهي تتشهد «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» ثلاث مرات. هبط الماء فوق بطنها وفخذيها فدعكتهما وهي تتشهد مرة أخرى ثلاث مرات. جففت شعرها الأسود الطويل، وضفرته ، ثم ارتدت الجلباب النظيف والطرحة وسارت بخطوات وجلة نحو الباب.
كان الشفق الأحمر قد ظهر في الأفق ولم يبرز بعد قرص الشمس، فوقفت على عتبة الباب، وجهها ناحية الشمس، وقرأت الفاتحة عشر مرات، سارت نحو الباب الحديدي بخطوات وجلة، لكنها ثابتة واثقة شديدة الثقة. عند الباب أحست فوق جسدها رعدة ليست هي رعدة تردد أو تشكك بقدر ما هي رعدة الإيمان والثقة. حين دخلت من الباب الحديدي أصبح قلبها يدق تحت ضلوعها وصدرها يعلو ويهبط، شفتاها منفرجتان تلهثان، وساقاها ترتعدان تحت الجلباب الواسع الطويل، وعيناها السوداوان واسعتان مرفوعتان، تترقبان حدوث ذلك الأمر الجلل، أمر الله.
اتسعت عينا العمدة الزرقاوان فيما يشبه الدهشة حين رآها؛ عرف على الفور أنها زينب من وجهها وعينها وشفتيها ونهديها وساقيها.
هتف بدهشة وهو يفرك عينيه: من أرسلك يا زينب؟
انفرجت شفتاها وظلت عيناها مرفوعتين وقالت: الله!
لم يصدق العمدة أذنيه، فسألها مرة أخرى: لماذا جئت الآن يا زينب؟
همست كأنما تكلم نفسها: أمر الله.
ابتسم العمدة ونهض من سريره وسار إلى الحمام. غسل وجهه ودعك أسنانه بالفرشاة والمعجون، ثم نظر إلى وجهه في المرآة. ابتسم مرة أخرى وكاد أن يضحك وهمس لنفسه: «عفريت ابن عفريتة، الله يلعنك يا حاج إسماعيل!»
خرج من الحمام وبحث عن ساعته حتى وجدها على إحدى المناضد الصغيرة. نظر في الساعة، وجدها السادسة، ابتسم وهو يهمس لنفسه: «لم يحدث أن أتت امرأة إلي في مثل هذا الوقت المبكر من الصباح، ولا بد أن أشرب أولا فنجانا من الشاي لأفيق قليلا.»
كانت زينب لا تزال واقفة حيث تركها، فاقترب منها وقال لها كأنما يكلم طفلة صغيرة: اسمعي يا زينب، أريد فنجانا من الشاي. أتعرفين كيف تعملين الشاي؟
قالت بحماس من هي مستعدة لعمل أي شيء: نعم يا سيدي.
وقال العمدة: تعالي معي لأدلك على طريق المطبخ، وعليك أن تصنعي لي الشاي حتى آخذ حماما.
شهقت زينب وهي ترى الأحواض البيضاء وصنابير المياه الفضية اللامعة، والجدران الملونة، والستائر والموقد الذي يشتعل وحده، وغلاية الماء التي تصفر حين يغلي الماء، والفناجين ذات النقوش والألوان، وملاعق الفضة، وكل شيء من حولها كانت تراه لأول مرة، فكأنما هي انتقلت إلى العالم الآخر، ولم تعد في الدنيا التي تعرفها، وإنما أصبحت الآن في ملكوت الله سبحانه وتعالى، وارتجفت أصابعها وهي تمسك الأشياء، وقلبها يخفق، وصدرها يعلو ويهبط، وساقاها لا تزال فوقهما الرعدة.
انزلق فنجان الشاي من بين أصابعها وسقط على الأرض، فانطلقت من بين شفتيها شهقة وضربت كفها فوق صدرها: «يا خبر!» والتصقت بالجدار تحتمي فيه شاخصة بعينيها المذعورتين إلى الفنجان الثمين الذي أصبح قطعا صغيرة بلورية فوق البلاط الأبيض اللامع. سمع العمدة وهو يقف في الحمام تحت رذاذ الماء الدافئ صوت ارتطام الفنجان بالأرض ثم الشهقة العالية، فابتسم وهو يدلك صدره وبطنه بالصابون المعطر هامسا لنفسه: «كم تثيرني مثل هؤلاء البنات الساذجات! وكم هو لذيذ أن أغزو جسد العذراء منهن، فكأنما يقطف الواحدة زهرة يانعة تتفتح لأول مرة.» «وكم أكره هؤلاء النساء القاهريات المتعلمات المتحذلقات، من أمثال زوجتي التي انكشف وجهها بغير حياء ولم يعد يخجلها شيء ولم يعد يثيرها شيء، ولم يعد جسدها البارد يرتجف تحت أية لمسة أو ضغطة أو حتى عضة!»
خرج من الحمام مرتديا منامة حريرية وردية، وسار إلى المطبخ فرأى زينب لا تزال واقفة ملتصقة بالجدار، شفتاها منفرجتان بالشهقة، وكفها فوق صدرها، وعيناها شاخصتان نحو القطع البلورية الصغيرة فوق الأرض، التي كانت منذ لحظات فنجانا ثمينا لا تستطيع أن تقدر ثمنه بالقروش أو الجنيهات.
تأملها طويلا بعينيه الزرقاوين اللامعتين بالصحة والراحة، تأملها ببطء كما يتأمل المرء تحفة مثيرة؛ شعرها أسود غزير على شكل ضفيرتين فوق عنقها وظهرها، وجهها طويل أسمر ملوح بالشمس فيه رجفة العذراء، شفتاها ممتلئتان نديتان ورديتان بلون طبيعي وليس بأحمر الشفاه، نهداها مدببان نافران بحدة طبيعية وليس بسبب مشد من المطاط، يعلوان ويهبطان ويعلوان ويهبطان بغير توقف، كان القلب تحتهما لا يكف عن الخفقان بعنف، وعيناها السوداوان واسعتان ومرفوعتان تجري فوقهما دمعة كدموع طفلة خائفة.
اقترب منها وهو يبتسم: أتبكين يا زينب؟!
أطرقت رأسها وهي تهمس: وقع من يدي. سامحني يا سيدي!
مسحت دموعها بكفها وأحس بتيار ساخن من الدم يمشي في صدره، فاقترب منها أكثر، ومد يده برفق حتى لامست عينيها ومسح بأصبعه الناعمة دموعها وهو يهمس: لا تخافي يا زينب، فداك الفنجان وصاحب الفنجان أيضا!
كاد أن يضمها ويضغط نهديها في صدره، لكنه خشي أن يفزعها أكثر، ورأى أن ينتظر عليها بعض الوقت حتى تألف الأشياء الجديدة التي تراها لأول مرة.
كانت زكية في ذلك الوقت قد سحبت الجاموسة إلى الحقل، وربطتها في الساقية، ثم أمسكت الفأس وراحت تشتغل في الحقل، وأذناها مرهفتان تلتقط أي صوت يشبه الأذان. حينما رن في أذنيها أذان الشيخ حمزاوي لصلاة الظهر كان قرص الشمس قد أصبح ملتهبا فوق رأسها، والعرق يتصبب من جذور شعرها ويهبط غزيرا فوق عنقها وصدرها وظهرها، ويسيل بين فخذيها، ولا تكاد تعرف أهو العرق أم البول ... بعد أن انقطع الأذان تركت الفأس وسارت إلى الترعة فغسلت وجهها وعنقها وتوضأت ثم صلت على حافة الترعة أربع ركعات الفرض وأربع ركعات السنة. بعد الصلاة ظلت راكعة، وقرأت الفاتحة عشر مرات، ثم رفعت يديها للسماء وقالت: «اغفر لي يا رب!» ثلاثين مرة. بعد المرة الثلاثين مسحت وجهها بكفيها، فإذا بها تشعر براحة غريبة تشبه الرغبة في النوم، وثقل جفناها وسقط فوق عينيها، فنامت حيث كانت على حافة الترعة.
لم يكن قرص الشمس الملتهب في مثل هذا الوقت من الظهيرة يستطيع أن يخترق جدران بيت العمدة السميكة المبنية بالأسمنت المسلح، لكن العمدة كان يشعر بحرارة تسري في جسده ساخنة وملتهبة كأنه يقف عاريا تحت قرص الشمس، كان لا يزال بالمنامة الحريرية الوردية مسترخيا في مقعد وثير يقرأ الجريدة، ولمح صورة أخيه فوق الصفحة، فقلب الصفحة بسرعة وقرأ أخبار المجتمع. عرف أن توحة الرقاصة طلقت من زوجها، وأن نوسة الممثلة تزوجت للمرة الرابعة، وأن عبد الرحمن المغني دخل المستشفى ليستأصلوا له الزائدة الدودية. وقلب الصفحة ليقرأ أخبار الرياضة، لكن الصفحة انقلبت إلى الناحية الأخرى ورأى صورة أخيه مرة أخرى، فعرف أن الوزارة تغيرت وأن أخاه أصبح في مركز أقوى. مصمص شفتيه وهو يهمس لنفسه: «لا أحد يعرفه كما أعرفه أنا؛ فهو أخي، كم هو غبي، بطيء الفهم! ولكنه حمار شغل، تربطه بأي ساقية فيدور كبقرة غميت عيناها!»
ألقى الجريدة إلى جواره، وأغمض عينيه قليلا وتذكر فجأة أنه كان ينوي الاتصال بزوجته تليفونيا ليسأل عن نتيجة امتحان ابنه الأصغر، وكادت يده تمتد إلى التليفون، لكنه سمع صوت ماء ينسكب فوق أرض الحمام، وتذكر فجأة أن زينب جاءت إلى بيته فجر اليوم، وأنها كنست ومسحت البيت ولم يعد أمامها إلا الحمام. خطرت له فكرة سريعة، وهي أن ينهض ويدخل إليها في الحمام ويحاول، لكنه طرد الفكرة. إنه يشعر أن زينب ليست مثل أختها نفيسة، نفيسة كانت سهلة وبسيطة لا تسبب له هذا التردد والحذر. لم يعرف لماذا هو متردد مع زينب، أو حذر، بل شبه خائف. ربما لأنها أخت نفيسة، وحكاية نفيسة لم تنكشف، ولكن هذه المرة من يدري ربما تنكشف. وهمس لنفسه ليطرد خوف: «من ذا الذي يمكن أن يكتشف؟» إنه فوق الشبهات وفوق القانون وفوق الأخلاق، ولا أحد في كفر الطين يمكن أن يشك فيه. إنهم قد يشكون في الله ولا يشكون فيه.
وتذكر أن ثلاثة رجال في كفر الطين يعرفون سره، شيخ الخفر وشيخ الجامع وحلاق الصحة، بدونهم هم الثلاثة لا يستطيع أن يحكم كفر الطين؛ فهم أدواته وأجهزته ومساعدوه، ولا يمكن أن يحكم بدونهم، ولكنهم يعرفون سره، وهم أمناء على السر، وإن شعر في أعماقه أنهم غير أمناء على شيء، وأنه لو أغمض عينيه لحظة لخانوه أو نهبوه، لكنه لا يغمض عينيه عنهم، ويعرف كيف يشعرهم دائما أنه يستطيع أن يسمع أنفاس الواحد منهم وهو نائم، وأنه لو لاح لأحد منهم أن يلعب بذيله فهو قادر على قطع الذيل بل الرأس أيضا.
ابتلع لعابه وأدرك أنه مر، وأنه يريد أن يبصق، وأن يتخفف من تلك الكراهية التي تضغط على صدره؛ فهؤلاء الرجال الثلاثة هو يمقتهم ويزدريهم، ويزيد من كراهيته لهم أنه يحتاج إليهم ولا يستطيع أن يعيش بدونهم، فيضطر في كثير من الأحيان إلى السهر معهم والسمر وإقناع نفسه بأنهم أصدقاؤه، بل ليس له من أصدقاء سواهم.
نهض من مقعده الوثير وسار إلى الحمام وبصق في الحوض، وغرغر فمه وحلقه بالماء، ثم بصق مرة أخرى طاردا من فمه المرارة. رفع عينيه إلى المرآة فرأى صورة زينب وهي تغسل البانيو وتدعكه كما لو كان صحنا من البلور، جلبابها الواسع كان قد ابتل بالماء والتصق من الأمام بنهديها ومن الخلف التصق بردفيها وفخذيها، وأصبحت أمام عينيه كالعارية تماما. أحس تيار الدم الساخن يمشي في صدره ويهبط إلى بطنه وفخذيه، ولم يعد قادرا على أن يحرك عينيه بعيدا عنها.
رفعت زينب رأسها من فوق البانيو ورأت العينين الزرقاوين تحملقان فيها بنظرة ثابتة غريبة، ارتعدت متراجعة إلى الوراء لتلتصق بالجدار وتحتمي به، لكن قدمها انزلقت فوق البلاط المبلل الناعم، فشهقت فيما جسدها يهوي على الأرض.
وقبل أن تسند كفيها على البلاط لترفع جسدها وتنهض، كانت ذراعه قد أصبحت حول خصرها تسند جسدها، ولامست أطراف أصابعه استدارة ثديها الناعمة، فارتعدت يده وهي تزحف برهبة، وأصبحت كفه فوق الثدي كله ضاغطة عليه بكل قوتها.
انطلقت منها الشهقة كصرخة مكتومة، بعضها ألم بسبب الضغطة القوية على ثدي ما زال برعما صغيرا حساسا، وبعضها خوف لا يزال يسري فوق جسدها كالرعدة، وبعضها لذة غريبة جديدة أشبه بالسعادة، سعادة الخلاص من عبء ثقيل تريد أن تلقي به بين يدي الله، وتترك له جسدها ونفسها وتفي بالعهد وتستريح.
امتدت يده فوق ساقيها، ورفع الجلباب المبلل عن فخذيها وهمس في أذنها بصوت حان رقيق: اخلعي جلبابك المبتل يا زينب حتى لا تأخذي بردا.
زحفت يداه فوق فخذيها وبطنها، محاولا أن يخلع عنها الجلباب، لكن الجلباب كان باليا ومبللا ملتصقا بجسدها، حاول أن يشده فإذا به يتمزق تحت يده إلى نصفين. شهقت بفزع: الجلباب، ليس عندي غيره!
فهمس في أذنها وهو ينزع عنها بقايا الثوب ويلف ذراعه حولها: سأشتري لك بدل الجلباب عشرة!
مد يده وفتح صنبور الماء الدافئ، فهبط رذاذ الماء فوق جسدها العاري. غسل بيديه تراب الكنس وبلولة مسح الأرض من فوق شعرها وكتفيها ونهديها وبطنها وفخذيها.
جففها ببشكير كبير معطر كما تجفف الأم طفلها، ثم حملها بين ذراعيه الكبيرتين إلى السرير. •••
قبل أن يرتفع في الجو أذان الديك، كان الشيخ حمزاوي قد فتح عينيه، أو أن عينيه كانتا مفتوحتين من قبل، ثابتتين على ذلك المنظر الذي يراه كل يوم ويدهش، ليست الدهشة العادية النقية من أي شوائب أخرى، ولكنها دهشة أقرب ما تكون إلى الشك، أو هو شك أقرب ما يكون إلى اليقين والإيمان بأن ما يراه شيء حقيقي، وحقيقته ثابتة مائة بالمائة كحقيقة وجود الله.
شريط رفيع من ضوء الفجر كان يسقط من شق النافذة على وجه فتحية، يضيء نصف وجهها بشعاع رمادي، كانت عيناها نصف مغمضتين كأنما ترى وهي نائمة، وكان أنفها مرتفعا حادا، وشفتاها مطبقتين مزمومتين كأنما على شيء لا تريد أن يفلت منها أثناء النوم، ويكشف الضوء الرمادي عن عنقها الناعم الأبيض الذي يهبط إلى ثدي ناعم أبيض خرج من فتحة جلبابها وقبض الطفل عليه بفمه وأسنانه ويديه الاثنتين، ومن حول كتفيه الصغيرتين تلتف ذراع فتحية متقلصة العضلات تشد الطفل إليها بكل قوتها، كأن هناك قوة أخرى تنتزع منها الطفل.
ثبتت عينا الشيخ حمزاوي على نصف وجهها من الجانب مندهشا ومتحيرا، أيكون هذا النصف مختلفا إلى هذا الحد عن النصف الآخر الذي لا يكشفه الضوء الآن، والذي يحمل ملامح فتحية زوجته التي يعرفها؟ لم يكن يعرف إلى أي حد يختلف هذا النصف عن النصف الآخر، أو ما وجه الخلاف تماما، لكن الملامح التي يراها الآن ليست بالتأكيد ملامح زوجته فتحية ولا تشبهها في شيء، وإن كان الأنف هو الأنف، والفم هو الفم، والعنق هو العنق، والثدي هو الثدي ... ويزيد من دهشته وحيرته أنه واثق تمام الثقة أنها ليست سوى فتحية، وأنها زوجته، وأنه متأكد من هذه الحقيقة مائة بالمائة كتأكده من حقيقة وجود الله.
من ير وجهه في تلك اللحظة يرى أنه غير متأكد من شيء؛ عيناه رغم أنهما مفتوحتان ثابتتان، إلا أن عضلة حولهما ترتعش، وضوء الفجر قد سقط من النافذة فوق وجهه فأصبح شاحبا، وصنع من تحته ظلا طويلا فكأنما أصبح وجهه وجهين؛ وجها أعلى هو وجهه الحقيقي الذي يعرفه كل أهل كفر الطين، ومن تحته وجه آخر لا يعرفه أحد ولا يمكن أن يتعرف عليه أحد؛ فهو لا يشبه أي أحد في كفر الطين، ولا يشبه أي أحد من الإنس أو الجن، وقد يكون وجه شيطان أو ملاك، بل قد يكون وجه الله ذاته إذا عرف أحد كيف يكون وجه الله.
لكن الشيخ حمزاوي كان يشعر في تلك اللحظة أنه أبعد ما يكون عن الله. أحيانا كان يشعر بقرب شديد من الله، وبالذات ظهر الجمعة أثناء الصلاة حين يصطف من خلفه جميع رجال البلد وعلى رأسهم العمدة ذاته، يقفون جميعهم من ورائه، لا يستطيع الواحد منهم أن يحرك ذراعه أو يده أو حتى أصبعه إلا بعد أن يبدأ الشيخ حمزاوي، ولا يستطيع الواحد منهم أن يفتح فمه أو يهمس لنفسه بآية من الآيات إلا بعد أن يبدأ الشيخ حمزاوي.
في تلك اللحظات يدرك الشيخ حمزاوي أنه أقرب إلى الله من أي رجل منهم، وإن كان هو العمدة، وتسري فوق جسده قشعريرة أشبه باللذة أو السعادة النادرة التي لم يعرفها إلا وهو طفل صغير حين كان يضرب أطفال الجيران بالطوب، فيجرون بعيدا عنه خائفين. يتعمد أن يتلكأ في قيامه وقعوده وركوعه، وينظر من حين إلى حين بطرف عينيه إلى الخلف ليرى العمدة وصفوف الرجال وهم ينتظرون في خشوع أية حركة من رأسه أو يده أو حتى أصبع يده الصغير.
على أن الصلاة مهما تلكأ وأبطأ كانت تنقضي بعد دقائق، وينفض الرجال عنه، بل إن بعضهم قد يدوس على قدمه وهم يهرولون خلف العمدة وفي أيديهم التظلمات والرجوات مكتوبة على «عرض الحال» أو ورقة طويلة بيضاء ألصقت عليها الدمغة؛ يلعن في سره هؤلاء القوم الكفرة الذين لا يعرفون ربنا ولا يجرون إلا وراء متاع الدنيا الزائل، ويسير بخطواته البطيئة وحيدا إلى بيته، عصاه تدق الأرض وسبحته الصفراء تهتز بين أصابعه المرتجفة. تدق رجفة أصابعه حين يرى زوجته فتحية، لكنه يخفي الرجفة بصوت عال غليظ يحاول أن يجعله أغلظ مما هو، ويسعل ويتنحنح بصوت الرجال المعهود ليؤكد لها وللجيران أنه عاد إلى البيت وأنه الزوج ورجل البيت.
حين لا تسمعه فتحية يلكزها في كتفها قائلا: أصبحت عمياء وطرشاء منذ جاء هذا الطفل المعلون إلى بيتنا. ليس لك من شاغل في الحياة إلا هو، مع أنه ليس إلا ابن حرام، مددت له يدي الرحيمة، ويا ليتني تركته يموت في العراء. منذ دخل بيتنا هذا الملعون، ثمرة الزنا والخطيئة، والمصائب تنهال علي، والناس تلومني لأنني فتحت بيتي لابن حرام، والألسنة تلوكني، وهيبتي ضاعت في كفر الطين، وانفض عني الأصدقاء، والعمدة لم يعد يطلبني للسهر معه، وقد نصحني مرارا أن أرسل هذا الولد إلى بيت اللقطاء، وقد وعدته بذلك، لكنك ترفضين. لا أدري لماذا تتعلقين بهذا الطفل كل هذا التعلق؟!
ينقطع صوته بعد هذا السؤال، الذي يجهل جوابه، ويجهل سبب تعلق فتحية الشديد بالطفل. لكن رجفة السبحة بين أصابعه تزداد، وكأنما يعرف السبب، ليست تلك المعرفة اليقينية، وإنما هو نوع من الشك الغامض الذي يسري في جسده كقشعريرة باردة، كريح تنفذ إليه من شق النافذة مع ضوء الفجر، يسقط الضوء على وجه فتحية وعنقها وثديها الذي يقبض عليه الطفل. ويزحف السؤال في رأسه بطيئا بارد الملمس كبطن ثعبان: «كيف يدر ثديها اللبن وهي لم تحمل ولم تلد؟» لم يكن هو الذي يسأل السؤال، لكنه سمعه من أحد، لا يذكر من هو الذي سأله، لكنه سمعه من أحد، بل لا يذكر أنه كان سؤالا، بل مجرد خبر بسيط، يلقى بصوت خافت، وهذا الخفوت هو الذي جعله أشبه بسكين يغمد في صدره: فتحية ترضعه؟ حاول أن ينكر، فهو لم يرها ترضعه، لم ير ثديها في فمه. كانت تشتري له لبن الجاموسة كل صباح، لكن الصوت الخافت كان مصرا على ما يقول، متأكدا منه تأكدا لا يقبل الشك.
ويسمع الشيخ حمزاوي الصوت الخافت حين يمشي، ويرى رءوس الرجال تتقارب حين يمر بهم ويبدأ الهمس. يقرئهم السلام قائلا: «السلام عليكم»، فيتلكئون في الرد عليه، ويقولون بصوت خافت بارد: «وعليكم السلام»، وبعضهم لا يرد. وحين يمر بدكان الحاج إسماعيل يرى العمدة جالسا ومن حوله شيخ الخفر وحلاق الصحة والرجال، فيرفع صوته بالتحية والسلام قائلا: «السلام عليكم.» ويدب الصمت لحظة، ثم يأتيه الرد خافتا باردا: «وعليكم السلام!» لا يلتقط فيه صوت العمدة، ولا صوت شيخ الخفر، ولا صوت الحاج إسماعيل، وإنما هو صوت رجل آخر، ولا يدعوه أحد للجلوس معهم. ويسير الشيخ حمزاوي منكس الرأس عائدا إلى بيته، ويرى فتحية تحتضن الطفل، فيكاد ينتزعه من بين ذراعيها ويلقيه من النافذة، لكنه يكتفي بأن يرمقه بنظرة حادة كما ينظر إلى غريم أقوى منه لا يعرف كيف ينتصر عليه.
في ليلة من الليالي ظل ساهرا حتى نامت فتحية، فتسلل على أطراف أصابعه وحاول أن يحمل الطفل، لكن ذراعها كانت ملفوفة حوله متقلصة العضلات، تمسكه بقوة، رغم أنها تغط في النوم، وأصابع يديه الصغيرة وفمه وأسنانه تمسك ثديها لا تتركه. حاول أن يشده منها بالقوة فصرخت: عيب عليك يا شيخ حمزاوي، أنت رجل تعرف ربنا، إنه طفل صغير لا يعرف شيئا.
ويرد الشيخ حمزاوي وهو ينتفض غضبا: لا أريد ابن الحرام في بيتي.
وترد فتحية: وأنا أيضا سأذهب معه.
يرتجف الشيخ حمزاوي: أنت لست أمه، ولن تذهبي معه.
تقول فتحية: لن أتركه للناس يا شيخ حمزاوي، الناس ليس في قلوبها رحمة، وهو طفل لا ذنب له.
ويرد الشيخ حمزاوي: لن يجر لنا ابن الحرام إلا المصائب، ومنذ جاء هذا الطفل والمصائب تتوالى علينا وعلى كل البلد. الدودة أكلت المحصول، وسمعتهم يهمسون أن ابن الحرام هو السبب. لم يعد أحد يقرئني السلام يا فتحية، وأخشى أن يصدر العمدة قرارا بفصلي من الجامع ويعين شيخا للجامع غيري. أحدهم همس له بأن الرجال يستاءون حين أتقدمهم في الصلاة، وأن صلاتهم قد تكون باطلة إذا كان الإمام يؤوي في بيته أولاد الزنا والإثم. سنموت من الجوع يا فتحية لو أصدر العمدة قرارا بفصلي.
وتقول فتحية: الله يتولانا يا شيخ حمزاوي إذا فصلك العمدة.
ويرد حمزاوي: إن الله لا ينزل من السماء خبزا.
وتصيح فتحية: أأنت الذي تقول هذا الكلام عن ربنا يا شيخ حمزاوي؟ ألا تقول دائما إن الله يتولى عباده من الفقراء؟ لماذا لا يتولانا نحن أيضا إذا فصلك العمدة؟ هل تلقي طفلا بريئا في الشارع يا شيخ حمزاوي لأنك خائف من أن يفصلك العمدة؟ ألا تثق في الله يا شيخ؟! هل تيئس من رحمة الله، أنت الذي تعلم الناس كيف لا ييئسون من رحمة الله! قم يا شيخ وتوضأ وصل وادع الله أن يغفر لك ولي وللناس.
ويتوضأ الشيخ حمزاوي ويصلي، وبعد الصلاة يظل جالسا فوق سجادة يقرأ القرآن، ويزحف الطفل الصغير إلى جواره ويجلس أمامه ينظر إليه بعينيه الصغيرتين المستطلعتين، لكن عيني الشيخ حمزاوي الغاضبتين المليئتين بالكراهية تفزعانه فيبتعد عنه بسرعة وهو يصرخ، وتجري إليه فتحية تحمله بين ذراعيها وتهدهده: «ما لك يا حبيبي ما لك؟ أبوك وهو يحبك، وحين تكبر قليلا سوف يعلمك قراءة القرآن وتصبح مثله شيخا للجامع تتقدم الناس في الصلاة وتخطب فيهم.»
ويرد: أنت تحلمين يا فتحية! أتتصورين أن الناس هنا يمكن أن يوافقوا على أن يكون شيخ جامعهم ابن حرام؟
وترد فتحية بإصرار: وما ذنب الطفل؟
ويقول الشيخ حمزاوي: لا ذنب للطفل يا فتحية، ولكن الناس هنا لا يفكرون كما نحن نفكر.
وتتساءل فتحية: لماذا؟ ألسنا مثل الناس هنا؟
ويرد الشيخ حمزاوي: نعم، ولكن الناس مثل موج البحر، لا أحد يعرف متى تهيج أو لماذا. ما من أحد إلا ويقول لي: «ما ذنب الطفل؟» لكنهم حين يتجمعون يقولون شيئا آخر. هؤلاء الناس يا فتحية قوم كفرة لا يعرفون ربنا، ولا يهمهم دين أو آخرة، ولا يخافون من الله، لكنهم يخافون من العمدة؛ فهو الذي يمسك رزقهم في يده، وهو الذي يستطيع أن يمنع عنهم لقمة العيش، وهو الذي إذا غضب تضاعفت ديونهم وجاءتهم الإنذارات الحكومية المتتالية، إما الدفع وإما الاستيلاء على الأرض. أنت لا تعرفين العمدة يا فتحية؛ إنه رجل خطير، لا يخاف الله، ولا يخاف أحدا، ويمكن أن يظلم، ويحبس بدون وجه حق، بل يقتل أبرياء.
وصاحت فتحية: لا حول الله، ولماذا كنت تقول إنه رجل مؤمن بالله يحب الخير؟ كل يوم جمعة كنت أسمع صوتك يجلجل من الجامع وأنت تخطب في الناس، وتدعو للعمدة بطول العمر وتقول عنه إنه أفضل عمدة جاء إلى كفر الطين، وأن عهده أحسن عهد، وأنه يسعى دائما إلى الحق والعدل. أكنت تضحك على عقول الناس يا شيخ حمزاوي؟
سكت الشيخ حمزاوي طويلا ثم قال: أنت لا تعرفين شيئا يا فتحية عن الدنيا خارج هذا البيت. إن الحياة وسط الرجال وفي دنياهم ليست سهلة، وقد قال الرسول: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا»، وخطبة الجمعة يا فتحية لا يمكن أن تكون كلها لوجه الله، لا بد من تخصيص جزء منها للدنيا، والدنيا التي نعيش فيها هي ملك العمدة، ولا يمكن نعيش فيها إلا إذا رضي عنا العمدة. أما الآخرة فلست أشك في أنني ذاهب إلى الجنة مائة بالمائة؛ يكفي أنني أتحمل عداء العمدة وعداء أهل البلد من أجل حماية طفل بريء، أليس كذلك يا فتحية؟
ردت فتحية بسرعة: نعم يا شيخ حمزاوي، سوف يجازيك الله خيرا على تبني هذا الطفل البريء، وعلى حمايتك وحنانك ورعايتك له.
وانتهزت فتحية الفرصة وجلست إلى جوار الشيخ حمزاوي وأجلست الطفل في حجره وهي تقول: انظر إلى عينيه يا شيخ حمزاوي، انظر كم هو يحبك كما يحب الطفل أباه. امسك يده يا شيخ حمزاوي، انظر كم هي ناعمة وصغيرة، وكيف تلتف أصابعه الصغيرة حول يدك كأنما يقول لك: «لا تتركني يا أبي؛ فأنا صغير وضعيف وأحتاج إليك.»
ويمد الطفل يده ويلمس وجه الشيخ حمزاوي، وينكس الشيخ حمزاوي رأسه مستسلما لمداعبات الطفل، مستمتعا بنعومة أصابعه الصغيرة وهي تعبث بشاربه ولحيته.
وذات مرة شد الطفل شعرة من شاربه، فضربه على يده قائلا: «عيب.» وحينما بدأ الطفل ينطق الحروف كانت أول كلمة قالها: «إيب.» لكن الشيخ حمزاوي أصبح يجلسه إلى جواره على سجادة الصلاة ويعلمه القرآن. ومرة أمسك الطفل القرآن بكلتا يديه ونظر فيه بعينيه الصغيرتين المستطلعتين، لكن الكتاب كان ثقيلا فسقط من بين يديه على الأرض، وانتفض الشيخ حمزاوي غاضبا، رفع القرآن بسرعة من فوق الأرض وقبل ظهره وبطنه، ثم ضرب الطفل على يده قائلا: «أتلقي كتاب الله على الأرض يا ابن الحرام؟» جاءت فتحية تجري على صوت صراخ الطفل، وحينما حكى لها الشيخ حمزاوي ما حدث قالت: وهل يفهم الطفل شيئا يا شيخ حمزاوي؟
ورد: لا بد أن يتعلم من الآن يا فتحية كيف يحترم كتاب الله.
ومرة أخرى، كان الجو حارا وقت الظهيرة، وكان الشيخ حمزاوي كعادته جالسا وفي يده القرآن يقرأ، لكن النوم غلبه والقرآن في يده، وزحف الطفل إليه وجلس في حجره فوق الكتاب. وما هي إلا لحظات حتى أحس الشيخ حمزاوي بالبول الدافئ يجري بين فخذيه، ففتح عينيه مفزوعا متصورا أول الأمر أنه يبول على نفسه، لكنه سرعان ما رأى الطفل جالسا في حجره متربعا فوق كتاب الله الذي أصبح مبللا. وانتفض الشيخ حمزاوي واقفا ملقيا الطفل على الأرض، ثم ركله بقدمه في بطنه صائحا في غضب: أتبول على كتاب الله المقدس يا ابن الزنا؟
وشحب وجه الطفل وعجز عن التنفس لحظة كأنما اختنق أو مات، لكنه سرعان ما شهق شهقة عالية حادة وجاءت إليه فتحية تجري فزعة: ماذا حدث يا شيخ حمزاوي؟ ماذا فعلت بالطفل؟
وحكى لها الشيخ حمزاوي ما حدث وهو يلهث من الغضب، فحملت الطفل بين ذراعيها وصاحت في غضب: وهل يفهم الطفل شيئا يا شيخ؟ كيف تضربه بقدمك الكبيرة في بطنه بهذا الشكل؟ كان من الممكن أن يموت لولا عناية الله.
ورد حمزاوي: يا ليته يموت ويريحني من هذا العذاب! لم أعد أستطيع أن أعيش في هذه الدنيا وهذا الملعون يعيش فيها. أصبحت أعيش بين أربعة جدران كالنسوان، لا أحد يزورني ولا أزور أحدا، وحين أسير في الشارع يتجنب الناس طريقي حتى لا أقرئهم السلام.
يوم الجمعة التالي خرج الشيخ حمزاوي من بيته كعادته متجها إلى الجامع ليؤم صلاة الجماعة، لكنه ما إن اقترب من باب الجامع حتى اعترض طريقه ثلاثة رجال ومنعوه من دخول الجامع. غضب الشيخ حمزاوي وصاح بصوت عال: أنا شيخ الجامع، كيف تمنعونني من الدخول؟
ورد أحدهم: لم تعد شيخ الجامع يا حمزاوي؛ لقد أصدر العمدة قرارا بفصلك وعين شيخا آخر.
وصاح حمزاوي في غضب: لن يمنعني أحد من الدخول، الله وحده هو الذي يستطيع أن يمنعني.
واتجه نحو الباب ليدخل، لكن أحد الرجال شده من قفطانه فرفع الشيخ حمزاوي عصاه وضرب الرجل على رأسه فسقط على الأرض. انقض الرجلان الآخران على حمزاوي؛ فسدد أحدهما قبضة يده القوية وضربه على رأسه كأنه يضرب رأس الشيطان، أما الآخر فقد انهال على وجهه بالصفعات متصورا أنه يصفع وجه أبيه الذي كثيرا ما صفعه وهو طفل قائلا له: «سيحرقك الله في نار جهنم لأنك لا تطيع أباك.» في إحدى الصفعات ارتجفت يده، فقد خيل إليه أن الوجه الذي يصفعه ليس وجه أبيه، وإنما هو وجه الله ذاته، الذي أفزعه وهو طفل باللهب ونار جهنم تكويه حتى يذوب جلده فيصنع له جلدا آخر ليحرقه ثانية وثالثة وعشرا وعشرين حتى يتعلم الطاعة العمياء والخضوع الأبدي. وانهالت الصفعات على وجه الشيخ حمزاوي عشرا وعشرين، وكلما اشتد فزع الرجل اشتدت صفعاته.
تجمع الرجال الذين جاءوا لصلاة الجماعة يتفرجون على العراك؛ حاول أحدهم أن يخلص الشيخ حمزاوي، لكن قبضة قوية دفعته إلى الخلف وكادت تهشم أسنانه؛ فتراجع إلى الوراء هامسا لنفسه: «لا ينوب المخلص إلا تمزيق ملابسه.»
همس أحدهم في أذن الآخر: العمدة فصل الشيخ حمزاوي وعين شيخا آخر للجامع. هيا بنا قبل أن تفوتنا الصلاة.
دخل الاثنان الجامع ، ودخل خلفهما عدد من الرجال، وقفوا خلف الإمام الجديد، وبعض منهم يهمس لنفسه: «ليس لي أن أعترض ما دام القرار قد صدر من الجهات العليا.» والبعض الآخر يقول لنفسه: «جميعهم سواء وليس لي إلا أن أصلي خلف أحدهم.»
لم يبق خارج الجامع إلا بعض الرجال، نسوا الصلاة ونسوا كل شيء، ووقفوا يستمتعون بالفرجة على الضارب والمضروب سواء بسواء، لا يهمهم من هو الضارب أو من هو المضروب، وإنما هي تلك المتعة الإنسانية الغريبة لأي صراع بين قوتين، كصراع الثيران، أو سباق الخيول؛ متعة يدفع البعض من أجلها الكثير، يتلهون بمشاهدة الصراع في العالم الخارجي عن الصراع الداخلي في أنفسهم.
سقطت عمامة الشيخ حمزاوي على الأرض، داستها الأقدام، وتمزق قفطانه، وسال الدم من أنفه وفمه، وهو يصيح بغضب: يا كفرة! يا من لا تعرفون الله! أتضربون رجل الله الذي كرس حياته لخدمة بيت الله؟!
قال واحد من المتفرجين: إذا كان هو رجل الله، فلماذا لا يدافع عنه الله ويتركه يضرب بهذا الشكل؟
رد آخر: ومن قال إنه رجل الله؟ إنه ليس رجل الله!
تساءل واحد آخر في غضب مدافعا عن الشيخ: وكيف عرفت أنه ليس رجل الله؟ إنه رجل الله!
ورد الرجل في غضب: وكيف عرفت أنه رجل الله؟ إنه ليس رجل الله!
واشتبك الرجلان بالأيدي في عراك: لكن أحد الرجال وقف بينهما وهو يقول: لا أنت ولا هو الذي يعرف أنه رجل الله أو ليس رجل الله.
وتساءل الرجل: ومن هو الذي يعرف؟
رد واحد: العمدة هو الذي يعرف!
دب الصمت بين الرجال. لم يستطع أحدهم أن يعترض، لكن صبيا صغيرا كان بينهم فصاح بصوت حاد رفيع يشبه صوت البنات: وكيف يعرف العمدة؟!
وأحس الصبي بكف أبيه فوق فمه وسمعه يقول له: اخرس يا ولد. لا تتكلم في حضرة الرجال!
لكن السؤال كان قد رن في رأس أحدهم فهمس لنفسه: «لا بد أن الله يقول للعمدة. ولكن هل يكلم الله العمدة كما كلم سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام؟ ربما ... إن الله يكلم أولياءه الصالحين، والعمدة رجل صالح ...»
وهنا أصبح الرجل يلهث كأنه يجري. ولم يعرف لماذا هو يلهث مع أنه واقف على قدميه يتفرج على العراك. لكن الصوت داخله كان غريبا، وكان مفزعا مع أنه يقول له: «العمدة رجل صالح»، لكن كلمة «صالح» رنت في أعماقه بصوت غريب أشبه بصوت الشيطان، فأصبحت كلمة «صالح» فجأة أشبه بكلمة «فاسق»، وأفزعه أن يسب العمدة بينه وبين نفسه، وزاد من فزعه أنه لم يعد متأكدا أن الصوت كان همسا، وأن أحد الرجال إنما سمعه وهو يقول إن العمدة رجل فاسق. وهز الرجل رأسه ويده طاردا الشيطان وقال بصوت عال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ورد رجل بغضب: نعم إنه الشيطان، هذا الذي يضرب الشيخ حمزاوي شيخ جامعنا.
وقال رجل: إنه لم يعد شيخ جامعنا يا أخ.
ورد آخر: إن الله بريء منه ومن أمثاله.
وتساءل رجل: لماذا يا أخ؟! ما الذي فعله الشيخ حمزاوي؟!
ورد رجل في غضب: ألا تعرف يا أخ؟ ألست من البلد؟ الدودة أكلت المحصول والمصائب توالت علينا منذ آوى الشيخ حمزاوي في بيته ابن الحرام. نحن لا نقبل أن يؤمنا في الصلاة رجل يؤوي أولاد الزنا والخطيئة.
كاد الرجل أن يقول: «ما ذنب طفل صغير بريء؟» لكنه لم يستطع. وقفت الكلمة في حلقه وابتلعها حين رأى العيون من حوله ترمقه في غضب، وتذكر على الفور صوت أبيه الذي سمعه مرارا يقول: «أولاد الحرام لا يجلبون إلا المصائب.» فإذا به يرد على الرجل بصوت يشبه صوت أبيه قائلا: معك حق يا أخ، أولاد الحرام لا يجلبون إلا المصائب.
وابتلع ريقه وأسرع إلى حقله وهو يهمس لنفسه: «أنا جبان.» لكنه سرعان ما مط عنقه وسحب الكلمة قائلا: «معه حق، أولاد الحرام لا يجلبون إلا المصائب، وإلا فلماذا توالت المصائب علينا منذ آوى الشيخ حمزاوي في بيته ابن الحرام؟!»
عاد الشيخ حمزاوي إلى فتحية عاري الرأس بغير عمامة، ممزق الملابس، ينزف من أنفه وفمه. أدركت فتحية بالغريزة أن حياة طفلها أصبحت مهددة ، فضمته إلى صدرها تخفيه تحت طرحتها وهمست: لم يعد لنا عيش في هذا البلد.
ورد حمزاوي في إعياء: لا أعرف بلدا آخر، وأنا أفضل الموت في فراشي على الموت في أرض غريبة؛ في الأرض الغريبة؛ لن يمد لنا أحد يد العون.
قالت فتحية: الله يتولانا يا حمزاوي. أتظن أن الله سيتخلى عنا؟
رد حمزاوي في يأس: لا أدري. لقد تخلى الله عني منذ آويت هذا الطفل.
قالت فتحية: أتقول ما يقوله الناس يا حمزاوي؟
رد حمزاوي: نعم يا فتحية. ألست واحدا من الناس، ألست بشرا؟
أنا لم أدع في يوم من الأيام أني ملاك أو إله!
تساءلت فتحية: ماذا تعني يا حمزاوي؟ إذا كنت لا تريد الطفل بعد اليوم، فلن تراه في بيتك من صباح الغد، ولكنني سأذهب معه يا حمزاوي.
رد حمزاوي في ضعف: أنت حرة يا فتحية. اذهبي معه أو ابقي هنا. أنا لم أعد أريد شيئا من حياتي سوى أن يتركني الناس وحدي.
قالت فتحية وهي تمسح دموعها: لا أريد أن أتركك وحدك يا حمزاوي، لكن الناس لن تسكت عنا. كل مصيبة تقع في البلد يتصورون أن سببها هذا الطفل الصغير البريء. مال الطفل ومال الدودة يا حمزاوي؟ هل الطفل هو الذي قال للدودة كلي المحصول؟ إن عقل الجواميس أفضل من عقل الناس هنا في كفر الطين. ولكن إلى أين أذهب وأنا لا أعرف بلدا آخر غير كفر الطين؟
نسيت فتحية هذا التساؤل بعد بضعة أيام. سكت عنهم الناس، فظنت أنهم نسوا كل شيء عنهم، أو اكتفوا بما فعلوه بالشيخ حمزاوي. وربما كان من الممكن أن ينساهم الناس تماما لولا أن الهواء اشتد في يوم من الأيام، مطيرا إحدى الشرارات من أحد الأفران حيث جلست إحدى النساء تخبز؛ طارت الشرارة الصغيرة، بحجم رأس عود الكبريت أو أصغر قليلا، وكان من الممكن أن تنطفئ وحدها لو أنها سقطت على الأرض الترابية، لكنها لم تسقط على الأرض، طيرها الهواء فوق أحد السطوح، واستقرت قبل أن تنطفئ تماما بين أعواد القش الجافة. لو هب الهواء في تلك اللحظة لأطفأها قبل أن تمسك بالقش، لكن الهواء سكت لحظة، وفي هذه اللحظة أمسكت الشرارة بعود القش، وحينما هب الهواء مرة أخرى لم يطفئ الشرارة؛ لأنها لم تعد شرارة، وإنما أصبحت عودا طويلا مشتعلا، سرعان ما أمسك بالأعواد الأخرى المجاورة. وزحفت النار إلى أقراص الجلة ثم إلى الحطب ثم إلى أطراف القش المتدلية من الأسطح المجاورة.
رأى الناس النار فوق الأسطح، فلطمت النساء وصرخ الأطفال وجرى الرجال بعضهم حول البعض لا يعرفون ماذا يفعلون. صرخ فيهم حلاق الصحة قائلا: «جرادل ماء يا بهائم!» وراح يلقيها على النار، لكنها كانت تفرغ ماءها قبل أن تصل إلى النار؛ أخذ كل منهم يعد عياله، أو يخرج من بيته جاموسته أو حمارته، أو تحويشة العمر من حفرة في الجدار.
شيخ الخفر جرى إلى بيت العمدة الذي كان قد أبلغ عن الحريق بالتليفون. وجاءت سيارة الحريق الحمراء بأجراسها ومن خلفها سيارة الإسعاف، وكان الأطفال قد شبعوا من منظر النار الحمراء فوق الأسطح، وانجذبت عيونهم إلى سيارة الحريق الحمراء الضخمة، وذلك السلم الطويل الذي يمكن أن يصعد إلى السماء. وما إن استقرت السيارة على الأرض حتى حوطها الأطفال من كل جانب، أردافهم عارية، وأقدامهم حافية، وأنوفهم تسيل، والذباب فوق وجوههم الشاحبة النحيلة كالدمامل السوداء بغير عدد.
قبل أن يهبط قرص الشمس ناحية الغرب وراء رءوس الأشجار من خلف النيل، كان كل شيء في كفر الطين يعود إلى ما كان عليه، فيما عدا أن بضعة أسطح أصبحت عارية يغطيها رماد أسود، وطفل رضيع اختنق بالدخان وهو نائم، وأطراف بعض النوافذ الخشبية احترقت أو اسودت. والسيارة الضخمة الحمراء لم تترك إلا آثار عجلاتها على الأرض المتربة؛ تلك الآثار التي سرعان ما تلاشت هي الأخرى تحت أقدام الجاموس والبقر والفلاحين العائدين من الحقول.
لم تغمض فتحية عينيها ولم تفك ذراعيها من حول الطفل؛ أدركت بالغريزة الخطر المحدق بهما، وألصقت أذنها من وراء الجدار تتسمع ما يقوله الناس، تكاد تعرف ما الذي سيقولونه ، والتقطت أذنها الكلمات، تماما كما توقعت: «النار كانت ستأكل البلد لولا ستر الله. منذ جاء ابن الحرام والمصائب تتوالى علينا! لن نسكت بعد الآن.»
دق قلبها تحت قلب الطفل الذي تخفيه في صدرها تحت الطرحة، وفتحت الباب بهدوء حتى لا يسمع صريره أحد من الجيران. جرت على أطراف أصابعها وكادت تصل إلى الجسر. لكن العيون لمحتها، وحاصرتها من كل ناحية. توقفت لحظة تلتقط أنفاسها. سمعت الصوت يقول بغضب: أين الطفل يا فتحية؟
خبأت الطفل في صدرها وقالت: ليس معي. إنه نائم في الدار.
استدارت بسرعة لتسير في طريقها، لكن الأصوات اقتربت منها، ووقع الأقدام الكثيرة أصبح خلفها.
وسمعت الصوت الغاضب: الطفل معك يا فتحية، وأنت تكذبين!
ردت بفزع: لا، ليس معي!
حاولت أن تجري مسرعة، لكن إحدى الأيادي امتدت إليها وشدت عنها الطرحة السوداء، فظهر الطفل فوق صدرها قابضا بفمه وأسنانه على ثديها.
صرخت فتحية في هلع: إنه ابني! لا تأخذوه!
رد الصوت الغاضب: إنه ابن حرام يا فتحية، ونحن قوم لا نحب الحرام!
وامتدت اليد الخشنة القوية تنزع منها الطفل، لكن فتحية أصبحت هي والطفل جسدا واحدا. تكاثرت الأيادي الخشنة تحاول أن تفصل الطفل عن ثديها، لكنها لم تستطع، أصبح الطفل وثديها جزءا واحدا.
تحول المشهد فوق جسر النيل إلى عراك غريب. كان قرص الشمس قد اختفى تماما في بطن الأرض ناحية الغرب من وراء رءوس الأشجار خلف النيل، وهبطت الظلمة فوق بيوت كفر الطين السوداء ثقيلة كأنفاس أخيرة، وأصبح الرجال المتجمعون فوق الجسر كأشباح الليل خرجت من قاع النيل، وجسد فتحية الأبيض العاري بعد أن مزقوا جلبابها عن آخره أشبه ما يكون بجسد جنية النيل التي تخرج من الماء في منتصف الليل. وجهها أبيض شاحب وعيناها واسعتان مملوءتان بإصرار أشبه بالجنون، أو جنون أشبه بالإصرار، وجسدها رغم نعومته واستدارته الأنثوية أصبح كجسد جنيات الليل، قويا رهيبا ومجنونا، تضرب الرجال بقدميها وركبتيها وفخذيها وكتفيها على حين تظل ذراعاها ملفوفتين حول ثديها حيث يرقد الطفل.
تزاحمت على جسدها الأيدي الخشنة ذات الأصابع الغليظة، حفر عليها مقبض الفأس، والأظافر الطويلة السوداء كحوافر الجاموس والبقر نشبت في ثديها، تمزق اللحم عن اللحم، وعيون ذكور تلمع بشرر الحرمان والجوع تلتهم الثدي الناعم الأبيض ... من يراهم من فوق الجسر يظن أنهم جمع من الرجال التفوا حول صحن كبير من اللحم، وكل منهم يحاول أن يلتهم نصيبه قبل أن يلتهمه الآخر. الأيادي تتحرك بسرعة، والعيون تلمع بنهم، وجسد فتحية أصبح ممزقا تنزف منه الدماء الحمراء الساخنة، أما جسد الطفل فقد تناثر في الجو كذرات من الرماد الناعم.
على أن الجسر أصبح بعد قليل كما كان يصبح كل ليلة، جزءا من الظلمة الساكنة الجاثمة فوق النيل، وفوق شريط الحقوق الممتد بامتداد النيل، وفوق البيوت الطينية السوداء، والأزقة المتعرجة بأكوام السباخ. وأصبح رجال كفر الطين داخل بيوتهم، راقدين فوق الأرض بجوار بهائمهم وزوجاتهم كالجثث الهامدة، إلا رجلا واحدا هو الشيخ حمزاوي، لم يرقد ولم يغمض له جفن؛ ظل ملتصقا أذنه بالجدار حتى انقطعت الأصوات ودب الصمت فوق القرية ثقيلا مخيفا كما يدب الموت؛ فدفع الشيخ حمزاوي بابه الخشبي برفق حتى لا يحدث الصرير المعهود، وسار بخطواته البطيئة وعصاه تسبق قدميه تكتشف الطريق، وتلقى من حين إلى حين قطعة طوب أو زلط، أو أرنبا أو جروا ميتا.
وارتطمت عصا الشيخ حمزاوي بشيء أدرك أنه ليس جروا ميتا ولا أرنبا، وإنما هو جسد لا يزال حيا، ولا تزال دماؤه ساخنة؛ توقف الشيخ كالشبح فوق الجسر، لا شيء فيه يتحرك، حتى السبحة الصفراء كفت عن الحركة بين أصابعه، وعيناه أصبحتا جامدتين ثابتتين فوق جسد زوجته العاري الممدود فوق الجسر.
كانت فتحية لا تزال تئن بصوت خافت، وصدرها لا يزال يعلو ويهبط في أنفاس بطيئة متقطعة.
جلس الشيخ حمزاوي إلى جوارها وأمسك بيدها: فتحية ... فتحية ... أنا حمزاوي.
فتحت عينين حمراوين بلون الدم، وانفرجت شفتاها كأنما تحاول النطق، لكن صوتها لم يطلع. رأى الشيخ حمزاوي رجلا قادما من بعيد؛ فخلع قفطانه وغطى جسدها العاري. وحينما اقترب الرجل تعرف الشيخ حمزاوي عليه؛ هو الشيخ متولي. وقال له حمزاوي: إنها تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ هل يمكن أن تحملها معي إلى البيت لتموت في فراشها؟
وأسرع الشيخ متولي يعاونه على حمل جسد فتحية النازف، وقبل أن يحركاها من مكانها فوق الجسر فتحت عينيها وتلفتت حولها كأنما تبحث عن شيء.
وهمس الشيخ متولي: إنها تبحث عن شيء.
ورد الشيخ حمزاوي: إنها فاقدة الوعي، فلنحملها معا إلى البيت.
لكن جسد فتحية ظل ملتصقا بالأرض، وكلما حاول الرجلان رفعها إلى فوق فتحت عينيها وتلفتت حولها كأنما تبحث عن شيء.
وقال الشيخ متولي: إنها ترفض التحرك يا شيخ حمزاوي، ولا بد أنها تبحث عن شيء.
وتلفت متولي حوله؛ فالتقطت عيناه شيئا صغيرا ملقى فوق الجسر على مسافة غير بعيدة؛ ذهب إليه، ثم عاد به؛ فإذا به جسد الطفل الصغير الممزق. ووضع الشيخ متولي الطفل فوق صدر فتحية، فالتفت ذراعاها حوله بشدة، ثم أغمضت عينيها وأصبح جسدها خفيفا قابلا لأن يحمل إلى أي مكان.
حملها الشيخ حمزاوي والشيخ متولي إلى البيت. وفي صباح اليوم التالي دفناها كما هي بالطفل بين ذراعيها بعد أن اشترى لها حمزاوي كفنا حريريا أخضر. وبعد أن أهال حمزاوي ومتولي التراب على جسد فتحية وطفلها، مسح متولي عينيه بكفه فإذا هما مبللتان بدموع لم تبلل عينيه منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما. وكان كفن فتحية هو الكفن الوحيد الذي لم يسرقه متولي، وكانت جثتها هي الجثة الوحيدة في كفر الطين التي لم يقربها. •••
اتكأ على الأرض المتربة بكفيه الكبيرتين الساخنتين، ثم جلس مسندا ظهره إلى جذع شجرة، ممدا ساقيه المنهوكتين من طول السير، وظهرت قدماه الكبيرتان في ضوء الشمس الغاربة وارمتين مشققتين ملتهبتين.
أغمض عينيه لينام لكنه لم يستطع، وظلت عيناه مفتوحتين شاخصتين إلى شريط النيل الطويل ممتدا بغير نهاية، يوازيه شريط الحقول ممتدا أيضا بغير نهاية. امتدت عيناه بين الشريطين اللانهائيين تبحثان عن أول معالم كفر الطين؛ شجرة الجميز الكبيرة في بطن الجسر، والرائحة التي يستطيع أن يميزها من كل شيء في العالم، تشبه رائحة التراب حين يرش بماء الترعة، أو ثمرة الجميز حينما يعلوها تراب الجسر، أو الروث الممزوج مع خبيز الفرن، أو طرحة أمه زكية حينما يحركها الهواء، وهي تسير إلى جواره أو صدرها حينما كان يرقد عليه وهو طفل.
رائحة غابت عن أنفه أربع سنوات، منذ ترك كفر الطين وأخذوه إلى الجيش. قبل أن يأخذوه وقبل أن تغيب عنه الرائحة لم يكن يعرفها، بل إنه لم يعرفها بعد أن أخذوه وبعد أن أصبح يعيش في خيمة صغيرة على بعد أميال قليلة من السويس؛ أصبح يشم البارود والجلد المحروق والصفيح الصدئ، ورمال سيناء حينما تهب الغارة أو العاصفة. لكنه فتح عينيه مرة في منتصف إحدى الليالي، فإذا بالرائحة تملأ أنفه! لم يعرفها أول الأمر لكنه أحس بسعادة غامضة تسري فوق جسده كالمخدر، وود لو أنه أغمض عينيه ونام على صدر أمه. لكنه فتح عينيه واكتشف أن رأسه ليس على صدر أمه، وإنما فوق صرة صغيرة أرسلتها له أمه مع أحد زملائه الجنود. قبل أن يفتح «الصرة» قربها من أنفه، ولأول مرة أيضا يعرف الرائحة التي عاشت معه سنين وسنين منذ ولد وعاش في كفر الطين وغادرها دون أن يعرفها.
مد أنفه بين شريط الماء وشريط الحقول يحاول التقاط الرائحة، التراب الممزوج بماء الترعة الطيني، لكن أنفه لم يلتقط الرائحة، وعيناه بين الشريطين اللانهائيين لم تصلهما إلى أول معالم كفر الطين.
أدرك أن المسافة ما زالت طويلة، وأن أمامه مسيرة طويلة قد تستغرق ساعات أو أياما. انغلقت عيناه وحدهما، فتحهما بعد قليل فوجد الشمس عالية في السماء؛ فأدرك أنه نام يومين متصلين. اتكأ على الأرض بكفيه الكبيرتين انحفر عليهما مقبض البندقية، ومن تحته مقبض الفأس القديمة. نهض يجر جسده الطويل النحيل فوق قدمين كخفي الجمل تورمتا من طول المسير، أصبح الدم والصديد ينز من شقوقهما السوداء الطينية. أصبح قرص الشمس الملتهب فوق رأسه، وتراب الجسر الساخن يلسع قدميه كرمل الصحراء الملتهب، وشريط الماء الرفيع هو قناة السويس.
أسرعت أنفاسه، وبدأت الدوائر الحمراء تتراقص أمامه، وأغمض عينيه ليكف رأسه عن الدوار، دب في أذنيه الصوت الرهيب الذي لا يخطئه؛ صوت يشبه الرعد، يشبه الزلزال، أو انقضاض السماء على الأرض أو الأرض على السماء؛ قفز في أقل من اللحظة متكورا حول نفسه حاميا رأسه بذراعيه، زاحفا فوق الأرض حتى عثر على حفرة دخل فيها، وسكنت حركته تماما كأنما تجمد أو مات.
اختفى الصوت ودب السكون من حوله، ففتح عينيه بحذر، مختلسا نظرات فزعة نحو السماء كأنما يبحث عن شيء؛ لم ير في الجو شيئا، لا طائرة، ولا نارا، ولا دخانا، ولا رمادا، ولا أي شيء سوى قرص الشمس الملتهب، وهبطت عيناه إلى الأرض، وحينما رأى النيل والحقول أدرك أنه ليس في الصحراء، وأن الحرب انتهت، وأنه عائد إلى كفر الطين سيرا على قدميه. رأى أيضا مجموعة من الأطفال تجمعوا حوله، وكانوا قد رأوه وهو يقفز فجأة ويختفي في بطن الجسر. عيونهم المتسعة من تحت الذباب كانت تتطلع إليه في دهشة واستغراب. وسار بضع خطوات مبتعدا عنهم متأرجحا فوق قدميه الوارمتين الداميتين. سمع من خلفه صوت الأطفال يضحكون ويتغامزون، وسمع أحدهم يهتف وراءه: «العبيط أهه!» وسرعان ما انضم إليه بقية الأطفال، يهتفون في نفس واحد: «العبيط أهه!» وأخذوا يقذفونه بالحجارة.
حين أصبح فوق جسر كفر الطين، كان قرص الشمس قد اختفى وراء رءوس الأشجار ناحية الغرب خلف النيل، والظلمة تزحف ببطء فوق البيوت المنخفضة السوداء، وأسراب الجاموس والبقر تزحف ببطء فوق الجسر عائدة من الحقول، ومن خلفها رجال تشققت أقدامهم وانحنت ظهورهم يسيرون نحو بيوتهم الطينية بخطوات بطيئة ثقيلة.
وكانت زكية قد عادت من الحقل هي والجاموسة، وجلست كعادتها كل ليلة في مدخل الدار الترابي صامتة ساكنة، عيناها السوداوان الواسعتان تحملقان في الظلمة، مفتوحتين عن آخرهما أو مغلقتين، فالظلمة واحدة، لا تكاد تعرف أهي يقظة أم نائمة، وما تراه أهو حلم أم حقيقة، أهو كفراوي أم جلال. لم يكن ابنها جلال يشبه أخاها كفراوي. آخر صورة في ذاكرتها لابنها جلال كانت في ذلك اليوم حين أخذوه إلى الجيش ؛ رأته يسير بين الرجلين شابا قويا مرفوع الظهر مرفوع العينين، وآخر صورة في ذاكرتها لكفراوي كانت في ذلك اليوم حين أخذوه إلى السجن؛ رأته يسير بين الرجلين كهلا عجوزا محني الظهر منكسر العينين. لا يمكن لها أن تخلط بين جلال وكفراوي، لكنها الآن لا تعرف من منهما الذي تراه أمام عينيها؛ فالوجه هو وجه جلال ابنها، لكن الظهر محني والعينين منكسرتان كعيني كفراوي.
سمعت صوتا يشبه صوت جلال ابنها يهمس بنبرة ضعيفة خافتة: أمي! ألا تعرفينني؟ أنا جلال، عدت من سيناء.
ظلت زكية تنظر إليه بعينيها السوداوين المفتوحتين أو المغلقتين، لا تدري أحلم أم حقيقة؟ مدت يدها في الظلمة لتلمسه؛ كان يتبدد كل ليلة حين تمد يدها ولا تقبض أصابعها إلا على الظلمة، لكن يدها هذه المرة أمسكت يدا من لحم ودم، يدا كبيرة ساخنة تشبه يد جلال. قربت اليد من وجهها، فدخلت أنفها رائحة ابنها التي لا تخطئها، رائحة تشبه رائحة ثديها أو لبنها قبل أن يجف الثدي ويجف اللبن.
هتفت بصوت ضعيف مبحوح وهي تضع وجهها في كفه: جلال ابني! أهو أنت؟!
دفن رأسه في صدرها: نعم يا أمي. أنا جلال.
مرت بكفها الكبيرة الخشنة فوق رأسه وعنقه وكتفيه وذراعيه وساقيه وقدميه تبحث عن جرح أو جزء مفقود.
همست: أنت بخير يا ابني؟
رد هامسا: نعم يا أمي أنا بخير، وأنت؟ هل أنت بخير؟!
ردت هامسة: نعم يا ابني، أنا بخير.
سأل وهو ينظر إليها بعينين قلقتين: ولكنك لست كما تركتك منذ أربع سنين.
قالت وهي تتنهد: الزمن يا بني. وأنت يا جلال لم تعد كما كنت، ماذا حدث يا بني؟
قال: لا شيء يا أمي، أنا متعب من السير الطويل، أريد أن أستريح.
تمدد إلى جوارها فوق الأرض الترابية، دلكت قدميه بالماء الدافئ والملح ولفتهما بطرحتها. ظلت عيناه مفتوحتين شاخصتين إلى السقف الطيني، جلست إلى جواره، شفتاها مطبقتان في صمت. انفرجت شفتاها مرة لتحكي له ما حدث، لكنها أطبقتهما وآثرت الصمت، لكنها سمعت صوته بعد فترة يسألها : كيف حال خالي كفراوي؟
ظلت صامتة، ثم انفرجت شفتاها الجافتان عن كلمة خافتة: بخير.
وسمعته يسأل مرة أخرى: ونفيسة، وزينب؟
ترددت لحظة ثم قالت بصوت خافت نصف مسموع: بخير. أتريد أن تأكل؟ لا بد أنك لم تأكل منذ أيام.
ونهضت لتحضر له مشنة الخبز وقطعة جبن قديمة وقطعة مخلل. قالت وهي تسير إلى الباب: سأشتري لك بقرش حلاوة طحينية من عند الحاج إسماعيل.
أدرك أنها تخفي شيئا، فرمقها بعينين قلقتين، ثم قال: لا أريد أن آكل. تعالي اجلسي إلى جواري واحكي لي. أنت تخفين شيئا عني؛ لست كما تركتك. ما الذي حدث؟!
هربت عيناها من عينيه، وظلت صامتة، وعيناها مفتوحتان شاخصتان في الظلمة، ثم انفرجت شفتاها الجافتان عن كلمة خافتة غير مسموعة: نفيسة هربت.
دب الصمت ثقيلا كالظلمة، وأطبقت شفتاها طويلا، ثم تحركت شفتاها ببطء، منفرجتين عن كلمة خافتة وغير مسموعة: وكفراوي في السجن.
وانغلقت شفتاها تماما، وظلت عيناها بعيدتين عن عينيه. سمعت صوته الخافت بعد فترة طويلة يأتيها من الظلمة كأنما من بئر عميق: وزينب؟!
ارتعش صوته وهو ينطق كلمة «زينب»، رعشة الصوت المتردد الخائف الذي يريد أن يسأل ولا يريد أن يسأل، الذي يريد أن يعرف ولا يريد أن يعرف. إحساس غريب عميق استولى عليه حين رأى وجه أمه أنبأه بأن شيئا خطيرا حدث في غيابه؛ كفراوي خاله ونفيسة ابنة خاله، لكن زينب شيء آخر؛ شيء فيه كان يرتعش إذا سمع صوتها وهي تنادي على عمتها زكية، أو حين تلتقي عيناها بعينيه، يشعر بخدر في ساقيه، ورعشة تشبه ضعف العضلات المرهقة حين تنشد الراحة، يود لو وضع رأسه المرهق فوق نهديها الصغيرين وأغمض عينيه طويلا. لكنه ما إن يلمح ساقيها وهي جالسة إلى جوار أمه تخبز أمام الفرن، أو حين يتعرى جزء من فخذها وهي جالسة القرفصاء تعجن؛ حتى تتحول الرعشة إلى تيار ساخن من الدم يصعد في رأسه ثم يهبط إلى صدره وبطنه وفخذيه، يود لو انتزعها من أمام الفرن بعيدا عن عيني أمه وأغلق عليها الباب واحتواها بين ذراعيه.
كانت أمه زكية تحس به حين يرتعش صوته وهو ينادي زينب، وترى عينيه وهما تبحثان عنها حين تغيب في الحقل، وتلمعان باللهب حين يلتقط صوتها قبل أن تدخل، والدم الساخن يصعد إلى رأسه بعد أن تدخل وتجلس إلى جوارها في المدخل الترابي أو أمام الفرن.
ذات ليلة، وهو راقد إلى جوارها فوق الحصيرة، سمعته يئن أنينا خافتا؛ همست في أذنه: ما لك يا جلال يا ابني؟!
همس في أذنيها دون أن يفتح عينيه: أريد زينب ابنة خالي يا أمي.
ردت وهي تغطيه وتربت على رأسه: سنزوجها لك يا بني حين تعود من الجيش.
ظلت زكية صامتة. رفع رأسه ونظر في عينيها رغم الظلمة الكثيفة التي تفصل بين جسديهما. رأى عينيها مفتوحتين وشاخصتين في الظلمة إلى الباب الحديدي البعيد المواجه لبابها. سأل مرة ثانية بصوت أخفى منه الرعشة: وزينب؟ ماذا فعلت بعد غياب كفراوي ونفيسة؟!
ردت أمه: زينب تشتغل الآن عند العمدة.
ارتعش صوته: ماذا تشتغل؟
ردت أمه: تكنس وتمسح وتغسل.
سرت الرعشة فوق ذراعيه وساقيه: وأين تبيت؟!
ردت زكية: تبيت معي هنا يا بني. إنها هنا، نائمة فوق الفرن. ابتلع ريقه، هدأت رعشة جسده. ضغط بكفيه على الأرض كأنما سينهض، لكنه ظل في مكانه. سأل أمه بعد صمت طويل: أعندك جلباب لي نظيف؟
ردت زكية: نعم يا بني. جلبابك الجديد كما هو منذ تركته قبل أن تذهب إلى الجيش.
سرى فوق جسده شيء من النشاط: سخني لي صفيحة ماء. أريد أن أستحم. •••
ما إن دخل شيخ الخفر ورأى وجه العمدة حتى أدرك على الفور لماذا أرسل إليه على هذا النحو العاجل؛ منذ أن تزوج جلال زينب والشيخ زهران يستعد لهذا اليوم حين يرسل إليه العمدة. همس إلى الحاج إسماعيل بمخاوفه، لكن إسماعيل طمأنه قائلا: لا تقلق يا شيخ زهران. جلال عاد من الحرب منكسرا، ولن يجرؤ على أن يخالف العمدة؛ إنه سيشعر بالفخر لأن زوجته تشتغل عند أكبر رأس في البلد.
ورد الشيخ زهران: أنت لا تعرف جلال يا حاج إسماعيل كما أعرفه أنا. إنه من هذا النوع الغبي من الرجال الذي يغار على زوجته، وهو يحب زينب منذ كانت طفلة.
قال الحاج إسماعيل: ما دام هو غبيا، فلن يشك في شيء، الأذكياء فقط هم الذين يعرفون الشك.
رد الشيخ زهران: ولكنه رفض أن يرسل زوجته إلى بيت العمدة.
قال الحاج إسماعيل: هذا النوع الغبي من الرجال يفضل أن يأكل الخبز المقدد بالملح على أن يرسل زوجته لتشتغل خادمة في بيت. إنه يتصور أن الخدمة في البيوت عيب كبير.
رد شيخ الخفر: ولكنه ليس أي بيت، إنه بيت العمدة.
قال حلاق الصحة: الأغبياء من الرجال لا يفرقون كثيرا بين البيوت يا شيخ زهران.
سأل الشيخ زهران: وما العمل لو أنه منع زينب من الذهاب؟
رد الحاج إسماعيل: لا تقلق من الآن. ربما يكون العمدة نفسه مل زينب ولا يرسل في طلبها. أنت تعرف أن العمدة سريع الملل، لا تستمر معه الواحدة منهن طويلا.
لكن مخاوف الشيخ زهران تحققت، وجاء اليوم الذي قال له العمدة آمرا: اذهب، ثم عد ومعك زينب.
وجلس الشيخ زهران مع الحاج إسماعيل أمام الدكان يفكران ويشربان الشيشة.
قال الشيخ زهران: أنت لا تعرف جلال يا حاج إسماعيل كما أعرفه أنا. صحيح أنه غبي ككل رجال كفر الطين، ولكنا لا نعرف مدى تنوره بعد أن سافر إلى مصر وعاش وسط جنود الجيش هذه السنين. لا أظن أنه يمكن أن يخدع بالأحجبة الآن، وعلينا أن نفكر في طريقة أخرى.
قال الحاج إسماعيل: الرجال هنا في هذا البلد يخافون ولا يختشون؛ خوفه يا شيخ زهران وأنت تملك القدرة على تخويفه.
رد الشيخ زهران: نعم، ولكنني أفضل مع أمثال جلال الطرق الودية. أنت لا تعرفه، إنه ليس كفراوي. ومن يدري؟ فقد يسبب لنا مشاكل كثيرة في البلد، والناس هنا قد بدءوا يفتحون عيونهم بعد أن ساءت الحالة وارتفعت الأسعار وتراكمت على الفلاحين ديون الحكومة، والعمدة لم يعد محبوبا كما كان.
قال الحاج إسماعيل: ولكنك سبق أن جربت معه الطرق الودية، وليس أمامك الآن إلا الطرق الأخرى.
سكت الشيخ زهران طويلا كالغارق في تفكير عميق.
سأله الحاج إسماعيل بعد فترة: فيم تفكر يا شيخ زهران؟
قال: أفكر في أخف الطرق؛ لا أريد أن أستعمل الضغط.
تأمله الحاج إسماعيل قليلا ثم قال: أنت تخاف من جلال يا شيخ زهران.
رد وهو يدلك شاربه بأصبعه: جلال لا يخوفني، ولكني أحس هذه المرة بأن شيئا سيحدث. لا أدري ما هو، ولكني لست مطمئنا. الناس تغيرت يا حاج إسماعيل؛ الفلاح الذي لم يكن يستطيع أن يرفع عينيه في عيني أصبح يرفع عينيه، وبعضهم أصبح يرفع صوته. بالأمس فقط رفض أحد الفلاحين أن يدفع شيئا مما عليه للحكومة، وقال لي غاضبا: «يا شيخ زهران، نحن نعمل ليل نهار طول العام ولا نخرج إلا بديون للحكومة.» مثل هذا الكلام لم أكن أسمعه من قبل من أي رجل منهم. الفلاحون جوعى لا يجدون إلا الخبز المقدد بالمش والدود، والجوع يجعل الناس لا تعرف أحدا، وتتجرأ علينا بل على ربنا أيضا؛ الجوع كافر يا حاج إسماعيل.
رد الحاج إسماعيل: طول عمرهم جوعى بهذا الشكل، طول عمرهم يأكلون المش والدود، ولا يعرفون شيئا آخر.
سكت الحاج إسماعيل لحظة كأنما خطرت له فكرة، ثم قال:
بدلا من التخويف يا شيخ زهران، هل جربت الإغراء؟ زكية وجلال تراكمت عليهما ديون الحكومة وأنت الذي تطالبهما بالسداد. لو لمحت لجلال بأنك قد تتساهل معه بعض الشيء ربما لان قليلا.
رد الشيخ زهران: أنت لا تعرف يا حاج إسماعيل، ماذا فعلت منذ علمت أن جلال تزوج زينب. لو استطعت أن أمنع الزواج لمنعته لكني فوجئت به وقد تزوجها، كنت أعرف أن اليوم سيأتي حين يرسل إلي العمدة في طلب زينب، وحاولت مع جلال لأقنعه بألا يجعل زينب تنقطع عن الخدمة في بيت العمدة، لكنه قال لي إن زينب ترفض الذهاب.
تساءل الحاج إسماعيل: أهي التي ترفض أم هو؟
رد الشيخ زهران: أغلب الظن أنه هو الذي يؤثر عليها لأنها كانت تذهب قبل زواجها منه.
قال الحاج إسماعيل: لا بد أنها أحبت زوجها، أو أنها تشعر بالإثم لو أنها ذهبت إلى العمدة وهي متزوجة.
قال الشيخ زهران: على أية حال، إن وجود جلال إلى جانبها يشجعها على الرفض.
تساءل الحاج إسماعيل: وماذا فعلت بعد ذلك؟
رد الشيخ زهران: جربت الإغراء، ولمحت لجلال بأنني سأتساهل معه بشأنه ديونه للحكومة، لكنه لم يظهر أي تجاوب، وليس أمامي الآن إلا أن أستخدم سلطتي.
سأل الحاج إسماعيل: وماذا تستطيع أن تفعل؟
رد الشيخ زهران: إما الدفع فورا، وإما أن آخذ منهم الأرض.
قال الحاج إسماعيل: الأرض حياتهم، وإذا أخذتها منهم فقد قتلتهم، وربما ينكشف الأمر لأن كل الفلاحين عليهم ديون للحكومة، فلماذا تهدد جلال بالذات؟ عليك أن تفكر في شيء آخر يا شيخ زهران.
ظل الشيخ زهران صامتا. لم يكن أمامه حل سوى أن يتخلص من جلال كما تخلص من كفراوي. ولكن كيف له أن يزج بجلال في السجن؟!
لم يسمع الحاج إسماعيل هذا السؤال، لكنه فهمه حين نظر في عيني زهران، وصمت الرجلان طويلا، ولم يسمع إلا كركعة الشيشة، ونحنحة من حين إلى حين عندما يسعل الحاج إسماعيل أو يتمخط. وكانت الظلمة قد هبطت على كفر الطين ثقيلة، وهواء النيل لا يكاد يتحرك فوق الجسر، والبيوت الطينية السوداء والأزقة المسدودة بأكوام السباخ أصبحت كلها صامتة ساكنة سكون الموت. •••
كانت زكية كعادتها جالسة في المدخل الترابي، عيناها السوداوان مرفوعتان، حينما سمعت الضجة ورأت الرجال يتقدمهم شيخ الخفر يدخلون من الباب. رن صوت شيخ الخفر في أذنيها قائلا: ادخلوا فتشوا البيت!
قبل أن تسأل أو تفهم شيئا كان الرجال قد انتشروا في البيت الطيني الصغير، يفتشون وراء الأبواب وفوق الفرن وفي فتحات الجدران وفوق السطح. لم تعرف عم يبحثون، وظلت واقفة تنظر إليهم بعينين مفتوحتين متسعتين، ظهر أحد الرجال وهو يحمل صرة صغيرة وقال مخاطبا شيخ الخفر: وجدناها يا شيخ زهران. كان يخبئها تحت الفرن.
صاح شيخ الخفر في غضب: اللص! اقبضوا عليه! أين ابنك يا زكية؟
ردت زكية في هلع: إنه في الحقل. لماذا تريده؟ ماذا فعل؟
رد الشيخ زهران في غضب: ابنك جلال لص كبير يا زكية! لقد سرق هذه الصرة من بيت العمدة، وهي مليئة بقطع النقود الفضية. انظري!
فتح لها الصرة ودهشت حين رأت قطع النقود الفضية الكثيرة وصاحت: ابني جلال لا يسرق يا شيخ زهران. إنه لم يدخل بيت العمدة أبدا!
ضحك الشيخ زهران في سخرية: أنت لا تعرفين شيئا عن ابنك يا زكية، أو أنك تعرفين وتتجاهلين. ألم يخبرك بمسألة هذه الصرة؟
ردت بسرعة: لا يا شيخ زهران، أقسم لك إنني لا أعرف عنها شيئا، وابني جلال لا يمكن أن يكون السارق.
رد الشيخ زهران في سخرية: ومن إذن الذي سرقها يا زكية؟ من إذن الذي خبأها في بيتكم تحت الفرن؟ عفريت؟
لطمت زكية على خديها وهي تقول: أبدا أبدا، ابني جلال ليس لصا، لن تأخذوه كما أخذتم كفراوي!
لكنهم أخذوه. لم يعرف جلال ما الموضوع، ساقوه بجلبابه إلى القسم، من حجرة إلى حجرة، ومن تحقيق إلى تحقيق. كان مذهولا وعيناه مفتوحتان متسعتان لا يكاد يعرف شيئا مما يدور حوله. خيل إليه أنه كابوس ثقيل أو حلم غريب، ولم يكن يعرف بماذا يجيب على الأسئلة سوى أن يقول: «لا أعرف شيئا، لا أعرف لماذا أنا هنا، لا أعرف شيئا عن هذه الصرة، لم أدخل بيت العمدة أبدا.»
وجاء الشهود، ومنهم شيخ الخفر، أحدهم رآه خارجا يجري من الباب الخلفي لبيت العمدة، والآخر رآه يحمل شيئا في يده كالصرة، وواحد حاول أن ينادي عليه فلم يرد، وظل يجري حتى دخل بيته المواجه لبيت العمدة. وتكلم شيخ الخفر في نهاية الشهود قائلا إنه كان يحترم جلال كأحد الجنود الذين يدافعون عن أرض الوطن، وكان يثق به، لكنه اضطر إزاء كلام الرجال أن يذهب إلى تفتيش بيت جلال حيث عثروا على الصرة. وقال إن هذه هي المرة الأولى لجلال أن يسرق، وإنه لا يعرف ما الذي دعاه إلى السرقة سوى أن الديون تراكمت عليه، وأنه كان يضطر إلى دفع جزء من الدين وإلا تعرض لإجراءات الحكومة التي تتخذ فورا حين يرفض الفلاح الدفع.
كان شيخ الخفر مدربا على الكلام أمام رجال البوليس، يعرف لغتهم ويعرفون لغته. وما إن أنهى الشيخ زهران شهادته حتى اتجه المحقق إلى جلال وسأله: ألديك أقوال أخرى؟
ورد جلال والعرق يتصبب منه والكلمات تتعثر على شفتيه والذهول يملأ عينيه: أنا لا أعرف شيئا عن هذه الصرة. أنا لم أسرق ولم أدخل بيت العمدة.
لكنهم ساقوه إلى السجن؛ ووجد جلال نفسه داخل حجرة مظلمة، مليئة بالأنفاس والأجساد. وما إن تعودت عيناه الظلمة حتى استطاع أن يرى وجوها سمراء نحيلة وطويلة، والعيون السوداء واسعة تنظر إليه في مذلة وانكسار. وخيل إليه أنه رأى وجها يشبه وجه خاله كفراوي، فهتف كأنه في حلم: خالي كفراوي؟!
رد عليه الصوت: من هو كفراوي يا بني؟ •••
كانت زينب قد تشبثت بذراع زوجها تصرخ: «لا تأخذوا زوجي، خذوني معه.» لكن أذرع الرجال القوية الخشنة شدت زينب بعيدا عن جلال وأدخلوه في العربة الصغيرة المغلقة.
ظلت زينب صامتة ثلاثة أيام متتالية، لا تذهب إلى الحقل، ولا تسحب الجاموسة، ولا تملأ الجرة من النيل، ولا تطبخ. ظلت جالسة إلى جوار عمتها زكية في مدخل البيت الترابي، عيناها شاخصة صامتة ثابتة على الطريق الذي اختفى فيه جلال.
في اليوم الثالث نهضت زينب، سارت إلى الزريبة، سحبت الجاموسة إلى الخارج، ثم عادت بغير الجاموسة، وبين ثدييها كانت تخفي صرة صغيرة بها بعض النقود، ثم عادت وجلست إلى جوار عمتها زكية صامتة.
فجر اليوم الرابع نهضت زينب مرة أخرى، وخرجت وحدها، وسارت إلى محطة الكافوري، ركبت الكافوري حتى باب الحديد. في باب الحديد سألت عن السجن، وظلت تسأل إلى أن عرفت الطريق، وركبت القطار، ثم سارت حتى باب السجن، لكن الرجل الواقف على الباب قال لها إن الزيارة ممنوعة إلا بتصريح.
سألت: «كيف أحصل على تصريح بالزيارة؟» وصف لها الرجل الطريق؛ فعادت أدراجها إلى باب الحديد، ثم ركبت الترام وسارت نحو بناء ضخم مزدحم بالناس والمكاتب والأوراق. دخلت من الباب الحديدي الكبير وابتلعها البناء، ودخلت من مكتب إلى مكتب، وأصبحت كالتي تدور حول نفسها عدة أيام، حتى نفدت النقود معها، وأخذها أحد الرجال الطيبين الذين يهوون مساعدة النساء لتبيت في السيدة (شي الله يا ست)، وبدلا من يأخذها إلى السيدة أخذها إلى البيت لتبيت هناك.
ولم يعرف أحد من كفر الطين شيئا عنها بعد ذلك. •••
منذ أخذوا جلال وذهبت زينب وراءه وزكية جالسة في المدخل الترابي وحدها، صامتة، عيناها السوداوان مفتوحتان وشاخصتان في الظلمة، فيهما غضب غريب، أشبه بغضب الحيوانات الكاسرة. في رأسها شيء بطيء جدا يحدث، أشبه بالتفكير، أشبه بالضوء الخافت، يظهر كنجم صغير مضيء في سماء مظلمة، يظهر لحظة ثم يختفي. تحاول أن تمسك به كأنما تمسك بأول الخيط، لكنه سرعان ما يفلت منها ويصبح رأسها مظلما.
على أن الظلمة داخل رأسها لم تعد هي الظلمة السابقة، وهذا الضوء الخافت رغم أنه خافت ورغم أنه يختفي بعد قليل، فإن رأسها لم يعد هو رأسها. شيء في عقلها بدأ يتحرك؛ سؤال لم يكن يخطر على بالها أصبح يرن تحت عظام رأسها: ليس هو جلال بالتأكيد، من هو إذن؟
تذكرت فجأة اليوم حينما أرسل العمدة في طلب زينب، كانت زينب منذ تزوجت قد عاهدت الله على ألا تذهب إلى العمدة. ركعت فوق سجادة الصلاة، وخاطبت الله قائلة: «لقد نفذت أمرك يا رب وأحمدك لأنك شفيت عمتي، والآن أنا زوجة على سنة الله ورسوله، ولن أذهب إلى هناك مرة أخرى.» وفي تلك الليلة سمعت زينب صوتا يأتيها من السماء يقول لها: «نعم يا زينب، أنت زوجة الآن، وقد حرم الله ذهابك إلى هناك.»
وكأنما منحها هذا الإدراك الجديد قوة جديدة؛ فلم تعد هناك قوة فوق الأرض تستطيع أن تقنعها بالذهاب. وحينما جاءها شيخ الخفر قالت في إصرار: لا، لن أذهب! لن أعصي الله يا شيخ زهران.
ورد شيخ الخفر: من قال لك إن هذا عصيان الله؟ بالعكس، لقد أمرك الله بالذهاب، أليس كذلك؟
صاحت زينب: كان ذلك قبل أن أتزوج، ولكني الآن زوجة، وقد حرم الله ذهابي إلى هناك.
كانت زكية جالسة في مكانها المعتاد تنصت إلى الحوار.
وفجأة أضاء نجم آخر صغير في رأسها المظلم. لم تفهم شيئا أول الأمر، لكن الحركة البطيئة كانت مستمرة في رأسها، حركة التفكير التي إذا بدأت لا يمكن أن تتوقف، كخيط فوق بكرة، ما إن يشد طرفه حتى يستمر في الحركة إلى نهايته.
لم يكن النجم الصغير إلا سؤالا آخر رن في رأسها: «كيف عرف شيخ الخفر بحكاية أمر الله؟»
في منتصف الليلة، بعد غياب جلال، أحست زينب بلكزة قوية من يد عمتها زكية، وحينما نظرت في عينيها سرت فوق جسدها رعدة. كانت عيناها واسعتين فيهما نظرة مخيفة، وسمعت صوتها يهمس بحشرجة غريبة: زينب! يا زينب!
همست زينب بفزع: ماذا حدث يا عمتي؟
ردت زكية هامسة: كنت عمياء وفتحت.
قالت زينب وهي لا تزال ترتعد من منظر عينيها: لم تكوني عمياء يا عمتي، عيناك كانتا بخير. ما الذي حدث؟
خيل لزينب أن المرض عاد إلى عمتها زكية، فأمسكت يدها وهي تقول: استريحي يا عمتي، أنت متعبة، لم تنامي منذ أخذوا جلال.
ظلت النظرة شبه المجنونة في عيني زكية، وظل صوتها يهمس: عرفته! عرفته يا زينب!
همست زينب وهي لا تزال ترتعد: من هو الذي عرفته يا عمتي؟
رددت زكية كالشاردة: الله يا زينب.
زادت الرعدة فوق جسد زينب، وأمسكت يد عمتها فوجدتها باردة كالثلج، فقالت: استغفري الله يا عمتي وتوضئي وصلي، لعل الله يرحمك ويرحمني.
ردت زكية بغضب مفاجئ: اسكتي يا زينب، أنت لا تعرفين شيئا، أنا التي أعرف. •••
لم تغمض زكية عينيها، ظلت جالسة في مكانها المعتاد في المدخل الترابي؛ عيناها الواسعتان السوداوان شاخصتان في الظلمة، تخترقان الظلمة وتصلان إلى الباب ذي الأعمدة الحديدية، لم تكن تعرف بالضبط ماذا تنتظر، لكنها ما إن رأت العينين الزرقاوين تظهران من خلف الباب حتى نهضت. لم تكن تعرف ما الذي تنوي أن تفعله، لكنها دخلت الزريبة حيث كانت الفأس ملقاة في الركن. انثنى جسدها الطويل النحيل وقبضت يدها الكبيرة الخشنة على مقبض الفأس، سارت قدماها الكبيرتان الحافيتان وحدهما خارج الزريبة، ثم خارج البيت، اجتازت الحارة الصغيرة التي تفصل بين بابهم والباب الحديدي، رآها العمدة قادمة نحوه؛ فظن أنها إحدى العاملات في أرضه، ولكنه ما إن اقترب منها حتى رأى ذراعها الطويلة ترتفع في الهواء وفي نهايتها الفأس. قبل أن يسقط الفأس فوق رأسه ليهشمه، كان قد رأى عينيها وفقد الوعي من شدة الذعر. •••
تحركت العربة وزكية داخلها جالسة صامتة كما كانت تجلس في المدخل الترابي، والعربة تسير في شوارع لم ترها ولم تعرفها؛ دنيا أخرى غير الدنيا، رأت من خلال شق في النافذة نيلا يشبه نيل كفر الطين، لكنه ليس هو النيل الذي عرفته. توقفت العربة أمام بوابة ضخمة؛ سارت مع الرجال ومن حول يديها الحديد، عيناها السوداوان الواسعتان شاخصتان إلى الأمام، وشفتاها الجافتان مطبقتان ملتصقتان، كمن نسي الكلام أو رفض النطق، لكنهم كانوا يرون شفتيها تنفرجان من حين إلى حين عن شق صغير، وصوتها الهامس يسمع كأنما تكلم نفسها قائلة: «عرفته! أنا عرفته!» وفي منتصف الليل وهي نائمة إلى جوار المسجونات، تظل عيناها مفتوحتين شاخصتين في الظلمة وشفتاها مطبقتين في صمت. سمعتها إحدى المسجونات في ليلة من الليالي تهمس لنفسها قائلة: «عرفته!» فسألتها في استطلاع: عرفت من يا خالة؟!
ردت زكية كأنما في حلم: الله يا بنتي.
تنهدت السجينة في أسى، وهي تقول: أين هو يا خالة، ليرحمنا من هذا العذاب؟
وردت زكية بصوت هادئ، وابتسامة واهنة: إنه هناك يا بنتي، يرقد في حضن النيل.
Unknown page