«مثلى ومثلكم: كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذهبن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدى» .
هذه هى صلة الرسول ﷺ بربه، وهذه هى صلته بأمته.
لقد ارتفع- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء بل وتجاوزها إلى سدرة المنتهى، ورأى من آيات ربه الكبرى، لقد ارتفع إلى الأفق الأعلى فانغمس فى الأفق الأعلى وتلقى عن الله مباشرة كيفية الصلة به وهى الصلاة، ثم ... ثم انبسط إلى الأرض سراجا منيرا، رؤفا رحيما، هاديا، يدعو إلى الله على بصيرة هو ومن اتبعه.
يقول أحد الصالحين: «صعد رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إلى السماء وتجاوز بذلك النهايات الكونية ثم عاد إلى الأرض لقد كان فعلا أدنى من قاب قوسين، أقسم بالله لو صعدت إلى السماء لما حاولت العودة إلى الأرض مرة أخرى» .
بيد أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- نبى ورسول فهو متصل بالله دائما: إنه فى السماء على الدوام، وهو متصل بالبشر، يؤدى رسالة السماء كاملة غير منقوصة. إنه كان على حد تعبير القرآن: بَشَرًا رَسُولًا فهو ببشريته مع الناس، وهو بسره مع الله: إنه مع الناس بإرادة الله وتوجيهه وأمره، إنه مع الناس بكلمة الله ورسالته، إنه مع الناس رسول من قبل الله.
وبهذه المعانى كلها يمكننا أن نقول: إنه دائما مع الله ويمكننا أن نقول: إنه- منذ اللحظة الأولى للبعثة- لم ينزل إلى الأرض قط، وإنما كان دائما مع الله ﷾، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- يبيت عند ربه، يقول ﷺ:
«لست كهيئتكم، أبيت عند ربى ...» .
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «١» .
إنه- صلوات الله وسلامه عليه-: «بشر» وما يجول فى خلد مسلم قط أن يخرجه عن البشرية، ولكنه- صلوات الله وسلامه عليه- «بشر يوحى إليه» .
وما يتأتى قط أن يوحى الله إلى بشر إلا إذا أصبح وكأنه قطعة من النور: صفاء نفس، وطهارة قلب، وتزكية روح.
فمنتهى القول فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم
وبعض الناس حينما يقرأ القرآن الكريم، فتمر عليه الآية الكريمة: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ «٢» .
يقف عند كلمة: (بشر) فيحاول التركيز عليها وتوجيه الانتباه كله إليها، وتحويل الأنظار كلها نحوها، فيتحدث عن خصائص البشرية العادية ويبرزها، ويندفع فى هذا الاتجاه المنحرف اندفاعا لا يتناسب قط مع قوله تعالى: يُوحى إِلَيَّ* بل إنه فى اندفاعته الهوجاء ينسى يُوحى إِلَيَّ* ويهملها إهمالا.
_________
(١) سورة الكهف: ١١٠.
(٢) سورة الكهف: ١١٠.
المقدمة / 7