وتلقى الدعوة الإلهية بعد طول التدبر والرياضة، فعاد إلى مصر لإقناع قومه بدعوته ، وإقناع السادة الحاكمين بها إن تيسر له ذلك دفعا للخطر عن ملته وعقيدته، ولم يكن يرضيه فيما بدا من طوالع السيرة وخواتيمها أن يبقى شعب بني إسرائيل حيث استطاب البقاء؛ لأنه رأى لهم مصيرا في البادية أكرم من هذا المصير، ورأى أن العقيدة التي دعاهم إليها كفيلة بحمايتهم من الضياع بين العشائر والملل في أرض البادية أو أرض الحضارة.
وهذا هو حكم التوفيق بين النشأة والرسالة في حياة الكليم عليه السلام.
وقد عرضت لنا في خلال هذه السيرة قصة مدين ودعوتها النبوية التي أشارت إليها كتب إسرائيل من بعيد، ولم تذكر بشيء من التفصيل في غير القرآن الكريم، ولكنها جاءت بالنشأة والرسالة متوافقتين ذلك التوافق الذي يغني عن كل دليل على صحة الأصل الأصيل.
قلنا عن مدن القوافل في كتابنا عن أبي الأنبياء إبراهيم الخليل: «أما الأسباب السيئة التي أوجبت قيام الدعوات النبوية في تلك المدن، فهي أسباب كثيرة، لم تكن توجد يومئذ في غيرها بهذه القوة وبهذه الكثرة، وأقوى تلك الأسباب مساوئ الاحتكار والاستغلال؛ فإن تجارة العالم إذا توقفت على مدينة هنا ومدينة هناك صارت في كل مدينة إلى فئة قليلة من السادة وأصحاب اليسار، يحتكرون المقايضة والنقل، ويبرعون في أساليب المماكسة ورفع الأسعار، وزيادة الضرائب والأجور على الرحال والمطايا وجند الحراسة.
ويغتنم هؤلاء المحتكرون فرصتهم فيخدعون البسطاء، ويحتالون على الأصول والشرائع، ويأخذون باليمين والشمال من الوارد والصادر، والغادي والرائح، ولا حيلة للتجار فيهم ولا لناقلي التجارة؛ لأنهم قابضون على الزمام، وليس في قدرة دولة أن تحاربهم إلا بالاشتباك في حرب مع دولة أخرى، أو بإنفاق أموال في الغزو والحصار تزيد على الأموال التي يغتصبها المحتكرون أو يختلسونها. وقد يغلو هؤلاء المحتكرون في الجشع والتحكم حتى يدفعوا الدول إلى المجازفة بالغارة مرة تريحها من مرات.» «كذلك صنع أنتيجون خليفة الإسكندر مع أهم هذه المدن في زمانه، وهي سلع - أي البتراء - فجرد عليها حملتين، ولم يفلح في غزوها، وهاجمها تراجان بقوة كبيرة فدمرها وحول الطريق منها إلى بصرى ، ولم يبق من حولها غير مدن صغار.»
إن آفة مدين هي آفة هذه المدن على مدرجة الطرق، وإن قصتها في القرآن الكريم هي قصة التجارة المحتكرة، والعبث بالكيل والميزان، وبخس الأسعار، والتربص بكل منهج من مناهج الطريق، وليس أدل على حدوثها من التوافق بين النشأة والرسالة كما جاءت في مواضع مختلفة من السور، وإحداها سورة الأعراف.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين * ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين * وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين * قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين * وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون * فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين * فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين [الأعراف: 85-93]. •••
فرسالة شعيب - عليه السلام - إنما كانت رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة، التي تعرضت له بحكم موقعها من طريق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم. والأغلب على التقدير أن جزيرة العرب تعرضت لضروب من هذه الآفات، وجاءتها الرسالات التي تصلحها في إبان الحاجة إليها، ومنها رسالات هود وصالح وذي الكفل وإخوانهم من الرسل الصالحين الذين لم تقصص علينا أخبارهم في كتاب.
عيسى عليه السلام
وقد اختتم عهد النبوة والرسالة في بني إسرائيل بظهور عيسى - عليه السلام - ولا نعرف عن نشأته في طفولته غير القليل، ولا نعرف شيئا عن أيامه من الثانية عشرة إلى الثلاثين مبعثه إلى قومه من بني إسرائيل، ولكن نشأة العصر كله من وجهة الاستعداد للنبوة معروفة ببعض التفصيل، كما أشرنا إلى ذلك في كتاب حياة المسيح.
Unknown page