في كتابه عن بلاد العرب قبل محمد: «أن بني النضير وبني قريظة كانوا يسمون أنفسهم بالكاهنيين، ويزعمون من ثم أنهم من نسل هارون، وأما ياقوت فإنه يقول: إن يهود يثرب عرب تهودوا. وقد يخطر لنا أن بني قينقاع كانوا من عرب الشمال الأدوميين، أو أشباههم الذين هاجروا إلى بلاد العرب بعد هدم الهيكل سنة سبعين، أو بعد تشريد اليهود على عهد هادريان سنة مائة واثنتين وثلاثين.»
على أن الصبغة اليهودية التي بقيت مع يهود يثرب في معيشتهم وصناعاتهم ومعاملاتهم ، ومعرفة بعضهم بالكتب العبرية القديمة، ولياذهم بالآطام أدل عليهم من تقديرات المؤرخين على الفرض والتخمين، وما أشبه قينقاع أن ترجع في أصلها إلى كوهنكا! وما أبعد اسم النضير من أسماء العرب الأقدمين! لقد قيل: إنهم بطن من بطون جذام من أبناء عم اللخميين، فهل كان في جذام من يعرف العبرية كما عرفها يهود يثرب؟ وهل كان في وسعهم أن ينشئوا المدرسة العبرية التي ظلت إلى عصر الدعوة المحمدية، يسميها العرب بيت المدارس، ويسميها اليهود (بيت هام مدراس)؟
وقد كان يحسب لهؤلاء اليهود أثر في مقدمات الدعوة الدينية، أو مقدمات النهضة القومية الإنسانية، بعبارة أخرى لو أنهم أفادوا العرب من حولهم دروسا في التفكير والأخلاق تكشف لهم عن سخف الجاهلية، وتهيئ ضمائرهم لما هو أصح منها، وأقرب إلى التقدم والهداية. هذا، أو تكون حياتهم بين العرب قدوة صالحة يقتدون بها في معاملاتهم، وعلاقة بعضهم ببعض في السلم والحرب والمحالفة والمخالفة.
ولكنهم لم يصنعوا هذا ولا ذاك، وصنعوا في أكثر الأحيان نقيض هذا وذاك؛ لأنهم لم يكترثوا لأمر المتهودين من قبائل العرب إلا لينتفعوا بولائهم وحراستهم لتجارتهم في الطريق، فلم يكن بين الجاهليين المتهودين والجاهليين الوثنيين فرق في العادات والأخلاق، إلا أن يكون فرق الشجاعة والرجولة في جانب الوثنيين يمتازون به على الذين تعودوا اللياذ بالآطام، والتعلق في حربهم وسلمهم بذرائع المساومة والنفاق.
وقد كان يهود يثرب قدوة سيئة في كل علاقة بينهم وبين العرب، أو بينهم وبين أنفسهم في جوار المدينة؛ فقد كانت سياستهم مع قبائل العرب قائمة على الإيقاع بينها، وإثارة الأحقاد في المتخاصمين منهم كلما جنحوا إلى النسيان، وتعاهدوا على الصلح والأمان. ولزم اليهود أنفسهم داؤهم القديم من الشقاق والمشاكسة حيثما اجتمعوا في مكان واحد؛ فدبت الخصومة بين بني قينقاع من جانب، وبين بني النضير وبني قريظة من الجانب الآخر.
ولم يتفق بنو النضير وبنو قريظة على شيء غير حسدهم لبني قينقاع، وعملهم على الوقيعة بين قبائل الأوس والخزرج، وهي كثيرة في جوار المدينة، وقد كانوا ينفسون على بني قينقاع أنهم كانوا يقيمون في قصورهم داخل المدينة، ولا مأوى لبني قريظة غير ضاحية المشرق، ولا لبني النضير غير ضاحية المغرب. فلما نشبت الحرب بين الأوس والخزرج تفرق اليهود بين الحزبين، فكان بنو قينقاع مع الخزرج، وكان بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس.
ولم يتحرك أحد من النضيريين والقرظيين لنصرة بني قينقاع حين أجلاهم المسلمون عن المدينة، ولا تحرك أحد من القرظيين لنصرة النضيريين حين قضي عليهم بالجلاء؛ لغدرهم بالنبي - عليه السلام - وصعود أحدهم؛ عمر بن جحاش، على جدار يجلس النبي تحته؛ ليلقى عليه بصخرة من أعلاه ... وإنما وصفتهم الآية بوصفهم هذا، حيث جاء في القرآن الكريم من سورة «الحشر» أنهم
لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [سورة الحشر: 14].
وليس في خليقة من هذه الخلائق قدوة صالحة تعلم الجاهليين ما يحسن بهم أن يتعلموه، ويهتدوا به إلى طريق مستقيم.
ولقد عاش يهود يثرب ما عاشوا في جزيرة العرب ولم يؤثر عنهم قط سعي في سبيل مطلب من المطالب العامة والخاصة، غير الاستكثار من الربح المشروع وغير المشروع بكل ما استطاعوا من حول وحيلة، فلما جهر النبي بدعوته خذلوه من مبدأ الأمر، وأوفدوا وفودهم إلى كفار قريش يعرضون عليهم المؤازرة والمحالفة، واتخذوا خطتهم التي ثابروا عليها بعد ذلك، ولم يعدلوا عنها إلى حين إجلائهم عن حدود الجزيرة، وخلاصة هذه الخطة تثبيت الوثنية الجاهلية، وإيثارها على دعوة التوحيد والتنزيه، التي جاءت بها رسالة الإسلام، وشملت بها تعظيم العقائد الكتابية وعقائد التوحيد جملة منذ عهد إبراهيم الخليل.
Unknown page