لم يكن من أثر النظر وضروب التخيُّل لمثل الفن الأدبي، كما كان ذلك شأن أكثر الآراء التي أثرت عن الذين قننوا لهذا الفن، ووضعوا قواعده، وقد كان جهد أكثرهم أهمية، وأجدرهم بالاعتبار، الموازنة بين الأعمال الأدبية، واستخلاص مظاهر القوة والجمال التي تمتاز بها بعض تلك الأعمال على بعض، وكان أكثر تلك الأعمال من صنع غيرهم، على حين أن ابن الأثير كانت صفته الأساسية البارزة اشتغاله بالأدب، واحترافه فنّ الكتابة الذي عد علمًا من أعلامه، وارتقى به هذا الفن حتى وصل به إلى مرتبة الوزارة، وتصريف شئون المملكة، بصرف النظر عن مدى توفيقه في ذلك المنصب الخطير، وسوء تدبيره للأمور، مما كانت عاقبته نكالًا عليه وعلى من ولاه.
لذلك كانت آراؤه في الأدب والنقد صادرة عن الفن الذي أعدَّ نفسه له، وعن التجربة التي عاش فيها حياته. ولذلك قرأ ضياء الدين آثار الكُتَّاب الذين ذاع صيتهم وحلَّق نجمهم في سماء صناعة الكتابة، ليقف على مناهجهم فيها، وينقد منها ما لا يراه جاريًا وفق مقاييسه التي يرتضيها، وهي المقاييس التي رأى أنها أكثر دلالة على إتقان الصنعة، ولم يقف في سبيل ذلك عند آثار القدماء من فحول هذه الصناعة، بل إنه نقد معاصريه منهم، وهم الذين كان يشار إليهم في عصره في هذه الصناعة بالبنان.
وكان ابن الأثير لا يقنع بما يوجهه إلى أولئك الأعلام من النقد لآثارهم، ولكنه كان يتبع هذا النقد بنماذج من آثاره، ويوقف على الفرق بين أسلوبه وأسلوب غيره، حتى يستدرج قارئه إلى الإذعان لنبوغه، والتسليم بتفوقه، ثم يثني على نفسه وفنه بما استطاع. والأدلة على ذلك كثيرة منها:
١- نقده للقاضي الفاضل في قوله١: "وعرض عليّ كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني ﵀ عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ﵀ إلى ديوان الخلافة ببغداد في ستة إحدى وسبعين وخمسمائة، وضمَّنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية، ومحو الدولة العلوية، وإقامة الدعوة العباسية، وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال".
_________
١ انظر صفحة ٥٤ وما بعدها من هذه الطبعة.
1 / 7