المجلد الأول
المقدمات
تصدير
...
المقدمات:
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير:
هذا كتاب "المثل السائر" الذي ألفه ضياء الدين بن الأثير في أدب الكاتب والشاعر، نقدمه اليوم إلى الباحثين عن الفكرة العربية في مظانتها التي يعد "المثل السائر" في طليعة تلك المظان الأصيلة، بما حوى من الآراء والفكر التي تدور حول فنّ الأدب، والتي تتعمَّق إلى أصوله في عصر ابن الأثير، وفي العصور التي سبقته، وهي التي زخرت بكثير من أصول تلك الصناعة التي اهتدى إليها العلماء وكبار الأدباء والنقاد الذين يعرفهم تاريخ الأدب والنقد عند هذه الأمة العربية التي تعمل اليوم في جد ودأب لبناء قوميتها، وتبحث في إصرار عن المقومات الأصيلة لهذه القومية في السياسة والعلم والتفكير والأخلاق والفنون، لتبعثها من جديد مجارية ركب التقدم، ولتعيد إليها سالف مجدها في بناء الحضارة الإنسانية.
وعلى الرغم مما يمتاز به هذا الكتاب من الآراء المستنيرة التي أثرت عن أعلام التفكير الفني، والتي يعد هذا الكتاب سجلًا حافلًا لها، فإن فيه من معالم الأصالة وآثار الشخصية التي تميز صاحبها من غيره من الباحثين شيئًا كثيرًا.
وقد كان لنا من إخراج هذا الأثر وإعادة نشره غايات ثلاث:
أولاها: تقديم نسخة صحيحة من هذا الكتاب يستطيع الباحثون والدارسون الاعتماد عليها، بعد أن عزَّ على كثير من الطالبين اقتناء نسخة منه، بسبب تقادم العهد بينهم وبين عهود نشره، ونفاد هذا السفر الجليل من المكتبات العربية، مع الإحساس بالحاجة إليها، ليقوم بدوره بجانب ما بعث من آثار التراث العربي في الناحية التي يتصدى لها هذا الكتاب.
والثانية: إحياء ناحية لها أهميتها من نواحي التفكير الفنيّ عند العرب في هذا العهد الذي يمتاز ببعث نفائس التراث العربي، وإحياء مصادر الثقافة العربية ونشرها، تمهيدًا لدرسها، واستخراج كل صالح مفيد من الأفكار التي اشتملت عليها.
1 / 3
والثالثة: وصل تلك الآراء التي اشتمل عليها المثل السائر بغيرها من الآراء التي توافقها أو تخالفها. والغاية من ذلك الوقوف على أصالة مباحث هذا الكتاب ومداها فيما عرضت له من الدراسات، وكذلك معرفة حظ ابن الأثير من تلك الأصالة.
وهذه الغاية الأخيرة وحدها جديرة بأن يفرد لها بحث، بل بحوث مستقلة، ولذلك اكتفينا بالإشارة في هامش هذه الطبعة إلى الآراء التي توارد عليها ابن الأثير وغيره من الذين بحثوا في مثل ما بحث، والآراء التي نقلها عن غيره ناسبًا إياها إلى صاحبها الأصلي، أو التي ادعاها لنفسه، مما وجدنا ثمرة الإفادة منه واضحة، وأثر الاقتفاء بارزًا. ولم يخرج ذلك عن طبيعة ما وضع الهامش من أجله، بما لا يخرج عن حد الإشارة أو اللمحة الدالة.
أما ضروب الأصالة، ومنابع العقلية التي استقى منها هذا الكتاب، فإنا ذاكروها في هذه المقدمة، بما لا يخرج أيضًا عن طبيعة المقدمات.
وإذا كان لكل مؤلف في فن من فنون التأليف لون خاصٌّ من ألوان المعرفة يمتاز به عما سواه، وناحية يظهر تفوقه فيها، ويظهر تقصيره في غيرها، فإن ابن الأثير قد حلَّق في آفاق كثيرة من آفاق المعرفة، تجد صداها واضحًا في هذا السفر النفيس.
فأنت ترى فيه الكثير من الإشارات التاريخية التي لا يعرفها إلا الواقفون على أحداث الزمان، والعارفون بتقلباته وسير أبطاله وأعلامه.
وتقرأ فيه آثار معرفة واسعة بعلوم العربية لا يعرفها إلا المختصون بدراسة أصولها، والمتبحرون في فقه لغتها، والعاكفون على معرفة نحوها وصرفها، وأساليب التعبير بها.
وتطالع في المثل السائر آثار معرفة بكتاب الله، وحفظ لآياته، وقدرة عجيبة على استحضارها، والتمثل بها في كل موضع يريد أن يتمثل فيه بما يوافق آراءه في وسائل الإجادة، وأسباب الإتقان. وتجد فيه كثيرًا من أحاديث النبي ﷺ وفقه سنته، والوقوف على سيرته وأخبار صحابته.
كل ذلك إلى جانب ما وشيت به صفحات المثل السائر من حكم العرب وأمثالها، ومن مأثور منظومها، وجيد منثورها، مما يروقك الاطلاع عليه، ويأخذ بلبك ما ترى من القدرة على استحضارها، وإجادة التمثل به.
بهذه الألوان الكثيرة من المعرفة، وبهذه الثقافات المتنوعة كمَّل ابن الأثير لنفسه، حتى يحسن إعداد نفسه لما عرض له من علاج الأدب الذي كانوا يعرفون أنه الأخذ من كل فن بطرف.
1 / 4
ولقد كان ابن الأثير أديبًا من كبار أدباء العرب، وكاتبًا من كتابهم المعدودين، والكاتب -كما يرى ابن الأثير- ينبغي أن يتعلق بكل علم، وفي رأيه أن كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال: فلان النحوي، وفلان الفقيه، وفلان المتكلم. ولا يسوغ له أن ينسب إلى الكتابة، فيقال: فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه الكاتب من الحوض في كل فن.
وبمثل هذه النظرة إلى الأديب الكاتب وما ينبغي له، نظر ابن الأثير إلى البلاغي أو صاحب البيان، وذهب إلى أنه لا ينبغي له أن يقدِّم على هذا العلم إلّا إذا اكتملت لديه ألوان ثمانية من المعارف، وهي:
١- معرفة علم العربية من النحو والتصريف.
٢- معرفة ما يحتاج إليه من اللغو، وهو المتداول المألوف استعماله في فصيح الكلام غير الوحشي الغريب، ولا المستكره المعيب.
٣- معرفة أمثال العرب وأيامهم، ومعرفة الوقائع التي جاءت في حوادث خاصة بأقوام، فإن ذلك جرى مجرى الأمثال أيضًا.
٤- الاطلاع على كلام المتقدمين من المنظوم والمنثور. فإن في ذلك فوائد جمة؛ لأنه يعلم منه أغراض الناس ونتائج أفكارهم، ويعرف به مقاصد كل فريق منهم، وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك، فإن هذه الأشياء مما تشحذ القريحة، وتذكي الفطنة، وإذا كان صاحب الصناعة عارفًا بها تصير المعاني التي ذكرت، وتعب في استخراجها، كالشيء الملقى بين يديه يأخذ منه ما أراد، ويترك ما أراد، وإذا كان مطلعًا على المعاني المسبوق إليها فإنه قد يتهيأ له من بينها معنًى غريب لم يسبق إليه.
٥- معرفة الأحكام السلطانية من الإمامة والإمارة والقضاء والحسبة وغير ذلك، لما يحتاج إليه الكاتب عارفًا بالحكم في الحوادث واختلاف أقوال العلماء فيها، وما هو رخصة في ذلك، وما ليس برخصة، فإنه لا يستطيع أن يكتب كتابًا ينتفع به.
٦- حفظ القرآن الكريم، فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفًا به؛ لأن فيه فوائد كثيرة؛ منها أن يضمِّن كلامه بالآيات في أمكانها اللائقة بها، واستعمالها في مواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق
1 / 5
وإذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودعة في تأليف القرآن اتخذه بحرًا يستخرج منه الدرر والجواهر، ويودعها مطاوي كلامه.
٧- حفظ الأخبار النبوية، مما يحتاج إلى استعماله، فإن الأمر في ذلك يجري مجرى القرآن الكريم.
٨- ما يختص بالناظم دون الناثر، وذلك معرفة العروض، وما يجوز فيه من الزحاف، وما لا يجوز، فإن الشاعر محتاج إليه، وإن كان النظم مبنيًّا على الذوق، ولكن الذوق قد ينبو عن الزحافات. ويكون ذلك جائزًا في العروض، وقد ورد للعرب مثله، فإذا كان الشاعر غير عالم به، لم يفرق بين ما يجوز من ذلك وما لا يجوز.
وكذلك يحتاج الشاعر أيضًا إلى معرفة علم القوافي، ليعلم الروي والردف، وما يصح من ذلك وما لا يصح.
وقد اشترط ابن الأثير قبل تحصل تلك المعارف جميعها أن يكون الله تعالى قد ركَّب في الأديب طبعًا قابلًا لهذا الفن، ورأى أن صاحب هذه الصناعة يحتاج إلى التشبث بكل فنٍّ من الفنون، حتى إنه يحتاج إلى معرفة ما تقوله النادبة بين النساء، والماشطة عند جلوة العروس، وإلى ما يقوله المنادي على السلعة في السوق، والسبب في ذلك أنه مؤهَّل لأن يهيم في كل واد، فيحتاج أن يتعلق بكل فن؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن، وقد يستفيدها أهلها من غير أهلها.
وهكذا يغالي ابن الأثير في ثقافة الأديب، ويرى أنها لا حصر لمواردها، ويذهب إلى أن البيان كالجمال، لا نهاية لكل منهما.
ولقد كان ضياء الدين على حظٍّ عظيم من تلك الثقافات، كما يشهد لذلك هذا الكتاب، وما أودع من فنونها الكثيرة التي حصلها بجده، والطبع الأصيل الذي منحه الله إياه، وكل ركن من الأركان التي ذكرها، وكل آلة من الآلات التي أوجب أن تكون طوع يمين الكاتب، فقد عني نفسه في البحث عنها في مظانِّها.
والواقع أن أكثر ما ذكر ضياء الدين من أصول فن الأدب، وما يسمو به وما ينحط
1 / 6
لم يكن من أثر النظر وضروب التخيُّل لمثل الفن الأدبي، كما كان ذلك شأن أكثر الآراء التي أثرت عن الذين قننوا لهذا الفن، ووضعوا قواعده، وقد كان جهد أكثرهم أهمية، وأجدرهم بالاعتبار، الموازنة بين الأعمال الأدبية، واستخلاص مظاهر القوة والجمال التي تمتاز بها بعض تلك الأعمال على بعض، وكان أكثر تلك الأعمال من صنع غيرهم، على حين أن ابن الأثير كانت صفته الأساسية البارزة اشتغاله بالأدب، واحترافه فنّ الكتابة الذي عد علمًا من أعلامه، وارتقى به هذا الفن حتى وصل به إلى مرتبة الوزارة، وتصريف شئون المملكة، بصرف النظر عن مدى توفيقه في ذلك المنصب الخطير، وسوء تدبيره للأمور، مما كانت عاقبته نكالًا عليه وعلى من ولاه.
لذلك كانت آراؤه في الأدب والنقد صادرة عن الفن الذي أعدَّ نفسه له، وعن التجربة التي عاش فيها حياته. ولذلك قرأ ضياء الدين آثار الكُتَّاب الذين ذاع صيتهم وحلَّق نجمهم في سماء صناعة الكتابة، ليقف على مناهجهم فيها، وينقد منها ما لا يراه جاريًا وفق مقاييسه التي يرتضيها، وهي المقاييس التي رأى أنها أكثر دلالة على إتقان الصنعة، ولم يقف في سبيل ذلك عند آثار القدماء من فحول هذه الصناعة، بل إنه نقد معاصريه منهم، وهم الذين كان يشار إليهم في عصره في هذه الصناعة بالبنان.
وكان ابن الأثير لا يقنع بما يوجهه إلى أولئك الأعلام من النقد لآثارهم، ولكنه كان يتبع هذا النقد بنماذج من آثاره، ويوقف على الفرق بين أسلوبه وأسلوب غيره، حتى يستدرج قارئه إلى الإذعان لنبوغه، والتسليم بتفوقه، ثم يثني على نفسه وفنه بما استطاع. والأدلة على ذلك كثيرة منها:
١- نقده للقاضي الفاضل في قوله١: "وعرض عليّ كتاب كتبه عبد الرحيم بن علي البيساني ﵀ عن الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب ﵀ إلى ديوان الخلافة ببغداد في ستة إحدى وسبعين وخمسمائة، وضمَّنه ما أبلاه في خدمة الدولة من فتح الديار المصرية، ومحو الدولة العلوية، وإقامة الدعوة العباسية، وشرح فيه ما قاساه في الفتح من الأهوال".
_________
١ انظر صفحة ٥٤ وما بعدها من هذه الطبعة.
1 / 7
قال: ولما تأملته وجدته كتابًا حسنًا قد وفَّى فيه الخطابة حقَّها، إلا أنه أخلَّ بشيء واحد، وهو أن مصر لم تفتح إلّا بعد أن قصدت من الشام ثلاث مرات، وكان الفتح في المرة الثالثة، وهذا له نظير في فتح النبي ﷺ مكة، فإنه قصدها عام الحديبية، ثم سار إليها في عمرة القضاء، ثم سار إليها عام الفتح، ففتحها.
ثم يقول: وقد سألني بعض الإخوان أن أنشئ في ذلك كتابًا إلى ديوان الخلافة معارضًا للكتاب الذي أنشأه عبد الرحيم بن علي ﵀، فأجبته إلى سؤاله، وعدَّدت مساعي صلاح الدين يوسف بن أيوب ﵀ فقلت ... إلخ.
إلى أن يقول: وعجب من عبد الرحيم بن علي البيساني، مع تقدُّمه في فن الكتابة، كيف فاته أن يأتي به في الكتاب الذي كتبه!؟
٢- قوله في ابن زياد الكاتب البغدادي: "وجدت لابن زياد البغدادي كتابًا كتبه إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف المقدَّم ذكره في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وضمَّنه فصولًا تشتمل على أمور أنكرت عليه من ديوان الخلافة، فمن تلك الأمور التي أنكرت عليه أنه تلقَّب بالملك الناصر، وذلك اللقب هو لأمير المؤمنين خاصة، فإنه الإمام الناصر لدين الله. فلمَّا وقفت على ذلك الكتاب وجدته كتابًا حسنًا، قد أجاد فيه كل الإجادة، ولم أجد فيه مغمزًا إلّا في هذا الفصل الذي يتضمَّن حديث اللقب، فإنه لم يأت بكلام يناسب باقي الفصول المذكورة، بل أتى بكلام فيه غثاثة كقوله: "ما يستصلحه المولى فهو على عبده حرام"، وشيئًا من هذا النسق، وكان الأليق والأحسن أن يحتج بحجة فيها روح، ويذكر كلامًا فيه ذلاقة ورشاقة".
قال: وحضر عندي في بعض الأيام بعض إخواني، وجرى حديث ذلك، فسألني عمَّا كان ينبغي أن يكتب في هذا الفصل، فذكرت ما عندي، وهو: ... إلخ.
إلى أن يقول منبهًا القارئ إلى ما وفِّق إليه، وموازنًا بين نفسه وابن زياد: "فانظر أيها المتأمِّل كيف جئت بالخبر النبوي، وجعلته شاهدًا على هذا الموضع، ولا يمكن أن يحتج في مثل ذلك إلّا بمثل هذا الاحتجاج، وما أعلم كيف شذَّ عن ابن زياد أن
1 / 8
يأتي به، مع أنه كان كاتبًا مفلقًا ارتضى كتابته، ولم أجد في متأخري العراقيين من يماثله في هذا الفن"١.
٣- وقد نقد أبا إسحاق الصابيّ في كثير من المواضع، وأورد له الرسائل الطويلة، والنتف اليسيرة، وأتبعها بكتابته، ليرى الفرق بين الكتابتين؛ فمن ذلك ما أورده من قول الصابيّ في صفة النبي ﷺ: "لم ير للكفر أثرًا إلّا طمسه ومحاه، ولا رسمًا إلّا أزاله وعفاه"، وقد عابه ابن الأثير بأنه لا فرق بين مرور العصور وكرور الدهور، وكذلك لا فرق بين محو الأثر وعفاء الرسم.
وأورد للصابي أيضًا قوله في بعض كتبه "وقد علمت أن الدولة العباسية لم تزل على سالف الأيام، ومتعاقب الأعوام، تعتلّ تارة، وتصح أطوارًا، وتلتاث مرة، وتستقل مرارًا، من حيث أصلها راسخ لا يتزعزع، وبنياتها ثابت لا يتضعضع"، وعابه ابن الأثير بأن هذه الأسجاع كلها متساوية المعاني، فإن الاعتلال والالتباث، والطور والمرة، والرسوخ والثبات، كل ذلك سواء، وساق على هذا النحو من النثر الصابي أمثله أخرى.
٤- وعاب على الصاحب بن عبَّاد ما كتبه في وصف مهزومين "طاروا واقين بظهورهم صدورهم، وبأصلابهم نحورهم" بقوله: إن كلا المعنيين سواء..
وكذلك نقد قول الصاحب في وصف ضيق مجال الحرب "مكان ضنك على الفارس والراجل، ضيق على الرامح والنابل"، وقوله في كتابه "لا تتوجّه همته إلى أعظم مرقوب إلا طاع ودان، ولا تمتد عزيمته إلى أفخم مطلوب إلّا كان واستكان"، فإن كل هذا الذي ذكره الصاحب في نظر ابن الأثير شيء واحد؛ لأنها ألفاظ متعددة تؤدي معاني واحدة.
وقول الصاحب من كتاب "وصل كتابه جامعًا من الفوائد، أشدها للشكر استحقاقًا، وأتمها للحمد استغراقًا، وتعرفّت من إحسان الله فيما وفر من سلامته، وهنأه من كرامته، أنفس موهوب ومطلوب، وأحمد مرقوب ومخطوب" نقده ابن الأثير بأنَّ هذا كله متماثل المعاني متشابه الألفاظ٢.
_________
١ انظر صفحة ٥٧ وما بعدها من هذه الطبعة.
٢ انظر صفحة ٢١٤ وما بعدها من هذه الطبعة.
1 / 9
وقد أراد ابن الأثير أن ينفي عن نفسه مظنَّة التحامل على هذين الكاتبين الكبيرين والتعصب عليهما، فيما قدمه من الأمثلة المسجوعة للصابيّ والصاحب ابن عبَّاد، فقد يذهب بعض الناس إلى أن المآخذ فيها يسيرة لأنها جمل قصيرة، قد يقال: إنه التقطها التقاطًا من جملة رسائلهما الطويلة.
وقد حاول أن يخرج نفسه من هذه التهمة، بأنه وجد للصابيّ تقليدًا بنقابة الأشراف العلويين ببغداد، وكان ابن الأثير قد أنشأ تقليدًا بنقابة الأشراف العلويين بالموصل، وقد أورد التقليدين في كتابه١، ليتأملهما الناظر، ويحكم بينهما إن كان عارفًا، أو يسأل عنهما العارف إن كان مقلدًا.
وعلى الرغم من أن كلام ابن الأثير هنا غاية الوضوح؛ إذ أنه يحاول أن يقود القارئ إلى الحكم الذي يريد، وهو الحكم بتفوقه، أو تفوق كتابته على الصابي أو كتابته، فإنه يحاول أن يستر ما أظهر من انتقاصه، ولا يجد سبيلًا إلى ذلك إلّا أن يورد تقليد الصابي أولًا، لأنه كما يقول: "المقدَّم زمانًا وفضلًا! ".
ومعنى ذلك أنه يريد أن يقول: إنه إذا كان قد بَذَّ المقدَّم زمانًا وفضلًا في نظر الناس، فهو أحق بالفضل والتقدمة، وإن تأخَّر به زمانه!
وحين يرى وضوح الغاية من كلامه، يحاول أن يسترها بأنه لم يقصد بما أورد من كتابة الصابي وكتابته الوضع من منزلة الرجل: أو التهوين من خطر فنه.
وقد يكون ذلك حقًّا، وقد يكون الوضع من شأن الصابي في حد ذاته لم يكن هدف ابن الأثير من هذه الكلمات وتلك الموازنات، وإنما كان القصد الحقيقيّ هو إثبات تفوقه عليه، وتمكُّنه من صناعة الكتابة في على درجة لم يستطع أن يصل إليها الصابي، أو غيره من أعلام الكُتَّاب، الذين اعترف لهم الناس بالإجادة والسبق.
ولذلك تراه يعترف بمنزلة الصابي، وبأن علم الكتابة قد رفعه، وأنه إمام هذا الفن، والواحد فيه، وأنه أجاد في السلطانيات كل الإجادة، وأحسن كل الإحسان، ولكنه في الإخوانيات مقصِّر، وكذلك في كتب التعازي، مع أن
_________
١ تقليد الصابي في صفحة ٢٨٧-٢٥٩، وتقليد ابن الأثير في صفحة ٢٩٥-٣٠١.
1 / 10
التقليدين الذين سجلهما ابن الأثير، ووزانهما بتقليديه، إنما يدخلان في باب السلطانيات، ولا علاقة لهما بالرسائل الإخوانية أو بكتب التعازي!
وهذا من أهم مظاهر اضطراب ابن الأثير، في تقدير الصابي بين الغاية والوسيلة، ففي هذا الكلام مدح جاري به المشهور الذي لا ينكره أحد، وذم أشبع به ما في نفسه من الزهو والغرور، فوصف الرجل بأن عقله في كتابته زائد على فصاحته وبلاغته، وزيادة العلم على المنطق هجنة، وزيادة المنطق على العلم خدعة!
وقد يكون ابن الأثير على حقٍّ في كل ما قال، أو في أكثر ما قال مما نقد به أولئك الكُتَّاب من الناحية الفنية، وقد لا يكون كذلك، وإنما الغاية من سوق هذه الشواهد أن ابن الأثير قد عاش في جو الكتابة والكُتَّاب كاتبًا يقرأ كثيرًا، ويتعمَّق فيما يقرأ، ويبحث عن أسباب القوة وأسباب الضعف، ثم يعرض ذلك على ذهنه وبصيرته الفنية الواعية، ثم يكتب ما شاء أن يكتب مجردًا كتابته من أسباب الضعف، ومضيفًا إليها من أسباب القوة ما رآه يزيد في قدره، ويرفع من شأن كتابته، ومحققًا المثل التي تصورها لفن الكتابة.
وكذلك كان ابن الأثير شاعرًا، وإن غلبت صناعة الكتابة على فنه الأدبي، ولذلك كان ما رُوِيَ له من الشعر قليلًا، وإنما ذكرنا ذلك لندلَّ على أن ابن الأثير كان يعبِّر عن تجربته شعرًا، كما عبَّر عنها نثرًا، وأنه فيما كتب في المثل السائر كان يستوحي طبيعته الفنية، قبل أن يتخيل الرسوم والقواعد التي تخيلها من قبله علماء البلاغة والنقد.
وقد أقدم ابن الأثير على صناعة الأدب بعامَّة، وصناعة الكتابة بخاصة، بعد أن زود نفسه بآلاتها، وثقفها بألوان الثقافات التي عددها، وقد أحسَّ بالحاجة إليها كلَّما أوغل فيها، وأحسَّ أن خطورة هذا الفن، وبعد أثره لا تقلّ عن خطورة المناصب الرفيعة التي يتولاها صاحبه في قربه من الحكام، وفي تصريفه لأمور الدولة.
1 / 11
وما رأيك في رجل كان يحفظ القرآن، والحديث النبوي، ودواوين الشعراء، ويعرف من اللغة شاردها وواردها، ومن النحو أصوله وفروعه، ومن الصرف دقائقه، ومن الأخبار والأمثال ما يعيا بوعيه المختصون في كل لون من تلك الألوان، وهذه صورة من تلك الجهود المضنية التي بذلها في تكميل نفسه، يقول عن نفسه: وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابًا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر، كلها تدخل في الاستعمال، وما زلت أواظب على مطالعته مدة تزيد على عشر سنين، فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة، حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة، وصار محفوظًا لا يشذَّ عني منه شيء.. "ص١٥٠".
ويقول في موضع آخر: واعلم أن المتصدي لحل معاني القرآن يحتاج إلى كثرة الدرس، فإنه كلما ديم على درسه ظهر من معانيه مالم يظهر من قبل، وهذا شيء جرَّبته وخَبَرْتُه، فإني كنت آخذ سورة من السور وأتلوها، وكلما مرَّ بي معنًى أثبته في ورقة مفردة، حتى أنتهي إلى آخرها، ثم آخذ في حل تلك المعاني التي أثبتها واحدًا بعد واحد، ولا أقنع بذلك حتى أعاود تلاوة تلك السورة، وأفعل ما فعلته أولًا، وكلما صقلتها التلاوة مرةً بعد مرةٍ ظهر في كل مرة من المعاني ما لم يظهر في التي قبلها.. "ص١٣٥".
وأما معرفة ابن الأثير بالشعراء وحفظه الشعر فحدّث عنهما ما شئت، ولقد برزت آثار تلك المعرفة وذلك الحفظ واضحة في المثل السائر وغيره من آثار ضياء الدين، يقول في المثل: "إني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها، حتى لم أترك ديوانًا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحك إلا وعرضته على نظري"، ويقول: "ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وأنفدت شطرًا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرًا لا يوقف على ساحله، وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله". ثم يقول: "ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير، ولم أقل ما أقول فيه إلّا عن تنقيب وتنقير، فمن حفظ شعر الرجل، وكشف عن غامضه، وراض فكره برائضه، أطاعته أعنَّة الكلام، وكان قوله في البلاغة ما قالت حذام".
1 / 12
وبعد أن حصل ضياء الدين هذه الثروة الضخمة من فنِّ المنظوم، اقتصر منها على ما تكثر فوائده، وتتشعّب مقاصده، ويقول عن نفسه: "لم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة، ولا أكثر استخراجًا منهما للطيف الأغراض والمقاصد، ولم أجد أحسن تهذيبًا للألفاظ من أبي عبادة، ولا أنقش ديباجة، ولا أبهج سبكًا، فاخترت حينئذ دواوينهم، لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ، ولما حفظتها ألغيت ما سواها، مع ما بقي على خاطري من غيرها.
ثم يؤكد هذا القول، وبفصل أسباب إيثاره لشعر أولئك الثلاثة الفحول، فيقول: "ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم في اتِّباع من قصر نظره على الشعر القديم؛ إذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل. وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس، وأبي عبادة الوليد، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء:
أما أبو تمام، فإنه رب معان، وصيقل ألباب وأذهان، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، لم يمش فيه على أثر، فهو غير مدافع عن مقام الإغراب، الذي برز فيه على الأضراب.
وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك الألفاظ على المعنى، وأراد أن يشعر فغنى، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق، فبينا هو في شظف نجد؛ إذ تشبَّث بريف العراق. وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه، فقال: "أنا وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري" ولعمري إنه أنصف في حكمه، وأغرب بقوله هذا عن متانة علمه، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء، في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء، فأدرك بذلك بعد المرام، مع قربه إلى الأفهام، وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاطه الغالية، ورقي في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية.
1 / 13
وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام، فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولًا لست فيه متأثمًَا، ولا منه متلثمًا، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها، وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها، حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك تضل بسالكه، وتقوم بعذر تاركه، ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة بن حمدان، فيصف لسانه ما أدّى إليه عيانه".
ولا شكّ في أن ضياء الدين كان صادقًا في كل وصف من تلك الأوصاف، التي آثر بها كل شاعر من أولئك الفحول، ولا يكاد يشك ناقد من النقاد في صحة ما ذكر من نعوت الشعر عند كل واحد منهم، ولكن مجال القول إنما هو في سعة اطلاع ابن الأثير على الشعر العربي قديمه ومحدثه، وإيثاره دواوين أولئك الثلاثة بالحفظ والاستظهار.
ولقد كان اطلاع ابن الأثير على هذا الشعر الكثير، وحفظه ما استطاع من نصوصه سببًا من أهم الأسباب في توسيع مجال دراسته البيانية، وكثرة ما اهتدى إليه من أحكام، أكثرها سديد مصيب، تظهر فيه شخصية الواثق بعلمه، المطمئن إلى حسن رأيه.
وتطالعنا في ثنايا المثل السائر أسماء كثير من الكتب التي قرأها ابن الأثير، وفقه ما فيها، فأعانته على ما تعرض له من دراسة الأدب في فنونه المشهورة، وفي كل جزئية من جزئيات العمل الأدبي.
فأنت تقرأ في هذا الكتاب كلامًا في النحو العربي، وفي علم التصريف، وفي فقه اللغة، فلا يسعك إلا أن تستجيد ما تقرأ، وإلّا أن تعترف بأنك أمام عالم من صفوة العلماء الثقات المختصين في كل فنِّ من تلك الفنون.
وتقرأ كلامًا في التأويل وفي التفسير وفي الحديث النبوي، فيأخذك ما ترى من كثرة الاطلاع وسعة الباع في الفهم والتحصيل، وكأنك أمام عَلَمٍ من أعلام المفسرين والمحدثين.
1 / 14
وتقرأ أمثالًا وأخبارًا وشعرًا ونثرًا، فتعجب من هذا المحصول الذي عني ابن الأثير نفسه في تحصيله، وتعترف أنك أمام ثقافة لا تكاد تقف عند حد، أو تتوقف عند غاية من الغايات.
وقد اعتمد ابن الأثير نفسه على كثر من أمهات، الكتب في كل فنٍّ من الفنون التي تعرَّض لها، وقد أشار إلى هذه المراجع في أثناء دراسته.
١- فقد ذكر أن مما قرأ في التفسير تفسير البلاذري، وتفسير النقاش المسمَّى "شفاء الصدور".
٢- وقرأ في الحديث النبوي كتاب "الشهاب"، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، والموطأ، والترمذي؛ وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وغيرها من كتب الحديث.
٣- وقرأ في الدين وأصوله "إحياء علوم الدين" وكتاب "الأربعين" للإمام أبي حامد الغزالي.
٤- وقرأ في اللغة والتصريف كتاب "الخصائص" لأبي الفتح بن جني، وكتاب "التصريف" لأبي عثمان المازني، وكتاب "الفصيح" للإمام ثعلب، وكتاب "إصلاح ما تغلط فيه العامة" لأبي منصور الجواليقي، و"مجمع الأمثال" للميداني.
٥- وكان مما قرأ من كتب الأدب وموسوعاته ودواوين الشعراء وشروحها: كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب "الروضة" لمحمد بن يزيد المبرد، الذي وصفه بأنه كتاب جمعه، واختار فيه أشعار شعراء، بدأ فيه بأبي نواس، ثم بمن كان في زمانه، وانحسب على ذيله.
كما قرأ كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه، و"ديوان الحماسة" لأبي تمام، و"البيان والتبيين" لأبي عثمان الجاحظ، وقرأ "مقامات الحريري"، ورسائل أبي إسحاق الصابي، ورسائل الصاحب بن عبَّاد، وشرح ديوان المتنبي لأبي الفتح ابن جني، و"لزوم ما لا يلزم" لأبي العلاء المعري، ومعجز أحمد له، وكما قرأ كتاب "النقائض"، وديوان الفرزدق، وأبي تمام، والمتنبي، وأبو نواس،
1 / 15
والبحتري، وابن الرومي، وكشاجم، وديك الجن، وأبي العتاهية، والعباس بن الأحنف ... إلخ.
٦- أما كتب البلاغة والبيان فقد قرأ أمهاتها، وأفاد منها، ونقدها، قال في خطبة المثل السائر: وقد ألف الناس فيه -علم البيان- كتبًا، وجلبوا ذهبًا، وحطبوا حطبًا، وما من تأليف إلّا وقد تصفحت شينه وسينه، وعلمت غثَّه وسمينه، فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلّا كتاب "الموازنة" لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وكتاب "سر الفصاحة" لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي١.
وقال في خطبة: "الجامع الكبير" بعد كلامه في أهمية علم البيان، وصعوبة مرامه: "فشرعت عند ذلك في تطلبه، والبحث عن تصانيفه وكتبه، فلم أترك في تحصيله سبيلًا إلّا نهجته، ولا غادرت في إدراكه بابًا إلا ولجته، حتى اتَّضح عندي باديه وخافيه، وانكشفت لي أقوال الأئمة المشهورين فيه، كأبي الحسن علي بن عيسى الرماني، وأبي القاسم بن بشر الآمدي، وأبي عثمان الجاحظ، وقدامة بن جعفر الكاتب، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانميّ، وأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجي، وغيرهم ممن له كتاب يشار إليه، وقول تعقد الخناصر عليه٢.
وأشهر كتب هؤلاء الأعلام التي تَتَّصل بهذا الفن هي النكت في إعجاز القرآن للرماني، والموازنة بين أبي تمام والبحتري للآمدي، والبيان والتبيين للجاحظ، وكتاب نقد الشعر، وكتاب الخراج وصناعة الكتابة، وكتاب جواهر الألفاظ، ثلاثتها لقدامة بن جعفر، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، وكتاب صناعة الشعر للغانميّ، وكتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي.
كما قرأ وأفاد من كتاب البديع الذي ألَّفه عبد الله بن المعتز، وكتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكتاب حلية المحاضرة للحاتميّ، وكتاب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني،
_________
١ انظر صفحة "٣٢" من هذه الطبعة.
٢ الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، تحقيق الدكتور مصطفى جواد والدكتور جميل سعيد: ص٢، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد ١٣٧٥هـ.
1 / 16
ومقدمة ابن أفلح البغدادي التي ذكر ابن الأثير أنه قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة.
بهذه الثقافة بل بتلك الثقافات التي حصلها، والعقول التي سبر أغوارها، اقتحم ابن الأثير ميدان البحث البلاغي، فكان كتابه مجموعة من الأفكار المأثورة عن أولئك العلماء الأعلام مزجها بأفكاره، وبدت شخصيته واضحة مستقلة بين سمات تلك الشخصيات، ولم يكتف بأن يكون جامعًا أو ناقلًا، بل أراد أن يكون مؤلفًا في البلاغة، ورائدًا من روَّاد علم البيان، بما أضاف وصحَّحَ، وعاب ونقد.
ومن هنا كان المثل السائر لونًا متميزًا من ألوان التأليف في البيان العربي، واستطاع على الرغم من كثرة الآثار فيه، ووفرة الدراسات المتباينة في هذا الكتاب أن يكون مرجعًا من مراجع البلاغة العربية، ولا يستغني عنه باحث من الباحثين فيها.
وقد تأثَّر ابن الأثير في تلك الدراسة الخصبة التي نجدها في المثل السائر بعاملين مهمين؛ هما: العصر الذي عاش فيه، والفن الذي اشتغل به، ووصل به ما كان يشتهي من المنصب والجاه.
١- فقد وصل ابن الأثير إلى قمة مجده، وذروة نضجه، أخريات القرن السادس الهجري وشطرًا كبيرًا من القرن السابع، فجاء بعد ازدهار البحوث البيانية ونضجها، واختلاف مناهج البحث، وتعدد الآراء في البيان، من رأى ينادي بتحكيم الذوق، إلى آخر يدعو إلى التقليد في النظر إلى الأدب، والحكم عليه إلى رأي ينادي بالموضوعية والمنهج العلمي، ويعنى بالتعريف والتنظيم وحصر الأقسام، إلى ذلك الأسلوب النقدي التحليلي النفسي الذي نراه في كتابي عبد القاهر: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، وما تميزا به من فكرة النظم التي تبناها عبد القاهر، وأرسى قواعدها في النقد والنظر إلى البيان، وما نادى به من النظرة الكلية للأدب والانتصار للمعنى.
بل رأينا ما هو أكثر من ذلك: رأينا الصورة النهائية للبلاغة العربية قد تَمَّ وضعها
1 / 17
على يد السكاكي في كتابه المشهور، مفتاح العلوم، الذي نظَّم دراسة البلاغة، وقنَّنَ لها، وقسمها إلى علومها، وحدَّد مباحث كل فنٍّ منها.
٢- وكذلك كان ابن الأثير كاتبًا من كتاب الدواوين، كتب للقاضي الفاضل في دولة صلاح الدين، كما كتب لأولاد صلاح الدين من بعده، والذي يعرف أساليب الكتابة في ذلك العصر الذي عمل فيه ابن الأثير يعرف أنها كانت تمتاز امتيازًا ظاهرًا بلزوم السجع واستعمال الجناس وبعض أنواع البديع واستخدام معاني الشعر وألفاظه في كتابه الرسائل، بحلِّ الأبيات السائرة والحكم المأثورة، حتى كادت الرسائل تكون شعرًا منثورًا، والاقتباس من كلام البلغاء، وتضمين الأفذاذ من أبيات الشعراء، ولما نبَّه شأن القاضي الفاضل أراد أن يحاكي كتاب المشارقة في البديع، فزاد عليهم وأربى، وجاراهم في التزام السجع والجناس والطباق، وزاد عليهم أن استعمل في رسالة كل أنواع البديع التي كانت فاشية وقتئذ في الشعر، كالتورية والاستخدام والتلميح وغيرها، وأكثر من حل المنظوم، والاقتباس من الآيات، وتضمين الأمثال ومشهور الأقوال، وأمعن في التشبيه والاستعارة حتى جاءت معاني رسائله منقادة لألفاظها وأساليبها.
وقد كانت هاتان الناحيتان عظيمتا الأثر في ابن الأثير، وفي إدركه لمعنى البيان، كما تصوره في المثل السائر.
تكلم ابن الأثير في خطبة كتابه عن أهمية علم البيان، وذكر أن منزلته في تأليف النَّظْمِ والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام.
ويبدو من أول كلامه أنه رجل كثير الاعتداد بنفسه، والتباهي بعلمه، وكثيرًا ما جرَّه هذا الاعتداد إلى انتقاص غيره من الباحثين فيما بحث فيه، فقد ذكر أن الذين ألفوا في البيان من قبله ألفوا كتبًا، وجلبوا ذهبًا، وحطبوا حطبًا، وما من تأليف إلّا وقد تصفَّحه، وعلم غثَّه وسمينه، ثم لم يجد ما ينتفع به في ذلك إلا كتاب "الموازنة" للآمدي، وكتاب "سر الفصاحة" للخفاجي، والكتاب الأول هو الذي حظي بإعجابه، لأنه -كما يقول: أجمع أصولًا وأجدى محصولًا، مع أن المناسبة بين
1 / 18
الكتابين بعيدة، لأن كتاب الآمدي يعرض للشاعرين أبي تمام والبحتري، ويعرض شعرهما، ويوازن بينهما، ويعرض أقوال الأنصار والخصوم فيهما.
أما كتاب الخفاجيّ فإنه يبحث بحثًا عامًّا في أصول الفصاحة والبلاغة والبيان، بما بحث عن أسرارها ودرس من فنونها.
وقد عاب ابن الأثير كتاب سر الفصاحة بأن صاحبه أكثر مما قلَّ به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها، ومن الكلام على اللفظة المقررة، وصفاتها مما لا حاجة إلى ذكره.
ولا يقنع من ذلك إلّا بأن يعود فيعيب الكتابين معًا، فيصفهما بأنهما قد أهملا من علم البيان أبوابًا، وربما ذكرا في بعض المواضع قشورًا أو تركا لبابًا!
وشبيه بهذا الانتقاص وصفه لمقدمة ابن أفلح البغدادي في قوله: ووقعت على كتاب يقال له: "مقدمة ابن أفلح البغدادي" قد قصرها على تفصيل أقسام علم الفصاحة والبلاغة، وللعراقيين بها عناية، وهم واصفون لها، ومكبول عليها، ولما تأمَّلتها وجدتها قشورًا لا لبَّ تحتها؛ لأن غاية ما عند الرجل أن يقول: وأما الفصاحة فإنها كقول النابغة مثلًا، أو كقول الأعشى، أو غيرهما، ثم يذكر بيتًا من الشعر أو أبياتًا، وما بهذا نعرف حقيقة الفصاحة، حتى إذا وردت في كلام عرفنا أنه فصيح، بما عرفنا من حقيقتها الموجودة فيه، وكذلك يقول في غير الفصاحة.
ويذكر في موضع آخر أنه عثر على ضروب كثيرة من البيان في القرآن الكريم، وأنه لم يجد أحد تقدمه تعرض لذكر شيء منها، وهي إن عدت كانت في علم البيان بمقدار شطره، وإذا نظر إلى فوائد وجدت محتوية عليه بأسره، وأن الله هداه لابتداع أشياء لم تكن من قبله مبتدعة، ومنحه درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة، وإنما هي متبعة.
وأمثال هذا كثير في ثنايا المثل السائر الذي زيَّف فيه كثيرًا من آراء العلماء والبلاغيين والنقاد، وقد سبقت إشارات إلى حملاته على الأدباء والكُتَّاب ليبني على هذا الانتقاص إعجابه بنفسه، وزهوه بفنه، وإن كان في هذا الزهو شيء من الصدق، إلّا أن أخلاق العلماء وما اختصوا به من فضيلة التواضع يأبى إقراره على كل ما ذهب إليه في هذا الموضع وغيره.
1 / 19
ولقد عرف كتاب "المثل السائر" في بيئات الثقافة العربية على أنه كتاب أدب، وعُرِفَ كذلك على أنه كتاب في أصول البلاغة العربية أحيانًا، وعلى أنه كتاب في النقد الأدبي أيضًا.
وكان الذين عدَّوا المثل السائر كتاب أدب على حقٍّ، لأنهم وجدوا أنفسهم أمام دراسة خصبة في صناعة الأدب، وفي أشهر فنونه، وهي فنّ الشعر وفن الكتابة، ووجدوا فيه أصول للأدب تجمع صفاته، وتعرف بأركانه، وإشارات إلى عدد كبير من الأدباء الذين عرفهم تاريخ الأمة العربية، ونصوصًا من المنظوم والمنثور تمثل عصوره المختلفة، واتجاهاته المتباينة.
وكان الذين عدوا هذا الكتاب من كتب النقد على حق أيضًا؛ لأنهم رأوه يفيض بكثير من الفكر والآراء الحرة في الأدب والأدباء، ولم يسلم من نقد ابن الأثير كثير من فحول الشعراء الذين يعرفهم تاريخ الأدب العربي بالإجلال والإكبار، كامرئ القيس، وتأبط شرًّا، والفرزدق، وأبي نواس وأبي تمام، وأبي الطيب المتنبي، وغيرهم من كبار شعراء العربية.
وفي كثير من الأحيان نجد نقدًا موضوعيًّا، وفي كثير من الأحيان أيضًا نرى ابن الأثير لا يكتفي في النقد الأدبي بحكم المعرفة المستنيرة، بل يكبر من حكم الذوق السليم الذي يرى أنه أكبر من حكم القاعدة الموضوعية والمعرفة المحدودة، ويشجِّع على تربية هذا الذوق بكثرة القراءة ومداومة الاطلاع، فتراه يقول بالرغم من اعتداده بنفسه، والزهو بتأليفه: اعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حكم الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم، وهذا الكتاب إن كان فيما يلقيه إليك أستاذًا، وإذا سألت عمَّا ينتفع به في فنه قيل لك هذا! فإن الدربة والإدمان أجدى عليك نفعًا، وأهدى بصرًا وسمعًا، وهما يريانك الخبر عيانًا، ويجعلان عسرك من القول إمكانًا، وكل جارحة منك قلبًا ولسانًا، فخد من هذا الكتاب ما أعطاك، واستنبط بإدمانك ما أخطاك، وما مثلي فيما مهدته لك من هذا الطريق إلا كمن طبع سيفًا، ووضعه في يمينك لتقاتل به، وليس عليه أن يخلق لك قلبًا، فإن حمل النصال غير مباشرة القتال!.
ثم إن هذا الكتاب معدود من أمهات الكتب في البلاغة العربية، ومرجعًا من أهم
1 / 20
مراجعها، بما حوى من فنونها الكثيرة المنثورة في بطون الكتب المختلفة في موضوعاتها، المتباينة في مناهجها.
ويمتاز كتاب ابن الأثير من بين أكثر كتب البلاغة بأنه درس تلك الفنون دراستين:
إحداهما: دراسة قاعدية، عني فيها بالحدود والتعاريف وحصر الأقسام، وجمع فيها كل ما استطاع جمعه من معالمها التي اهتدى إليها الذين سبقوه إلى البحث البلاغي، وهو في كثير من المواضع يصحح أخطاءهم، ويضيف إلى تحديداتهم ما جعلها جامعة مانعة على الوجه الذي يهتدي إليه، وبالنظر الذي يهتدى به.
والأخرى: دراسة نقدية، وفيها ألمَّ بكثير من العيوب التي يقع فيها مستعملو تلك الفنون في أشعارهم أو خطبهم أو كتاباتهم.
ولذلك كان من الممكن أن يقال: إن ابن الأثير قد جمع في المثل السائر كثيرًا من أصول البلاغة العربية والنقد الأدبي، وأنه وحَّد هذين الفنين الجمالين، ومزجهما، وأعادهما إلى طبيعتها التي تنفر من الأسلوب القاعدي الجاف، وخلطهما بنصوص من الأدب وآراء فيه أكثرها جيد مصيب.
ومن جيد ما وفِّقَ إليه من النظرات الصائبة في هذا الكتاب محاولته التفريق بين مهمة البياني، ومهمة كل من النحوي واللغوي، ويقول في ذلك: إن موضوع علم البيان هو الفصاحة والبلاغة، ويسأل صاحب هذا العلم عن أحوالها اللفظية والمعنوية، ويشترك هو والنحوي أو اللغوي في أن الثاني ينظر في دلالته على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة.
أما صاحب البيان فإن له نظرةً فوق هذه النظرة؛ لأنه ينظر في فضيلة تلك الدلالة، التي هي دلالة خاصة، والمراد بها أن يكون الكلام على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء اللغة والنحو والإعراب، ألا ترى أن النحو يفهم معنى الكلام المنظور والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من أسرار الفصاحة والبلاغة؟ وهذا هو السر في خطأ مفسري الأشعار؛ لأنهم اقتصروا على شرح
1 / 21
معناها، وما فيها من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب منها، دون العناية بشرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة والبلاغة.
وهذا كلام جيد؛ لأن ابن الأثير يفرِّق فيه بين أمرين هامين، ينبغي أن يكون التفريق بينهما أساسًا لفهم مهمة اللغوي أو النحوي، ومهمة الناقد أو صاحب البيان.
ذلك أن هناك علومًا تتخصَّص في البحث عن صحة العبارة، من حيث صحة مفرداتها، وصحة دلالتها على معانيها، وصحة التركيب الذي توضع فيه وضعًا صحيحًا على حسب ما يقتضي المعنى وفقًا لقواعد النحو والإعراب، وتلك مهمة علماء اللغة الذين يبحثون في بنية الكلمة، وفي دلالتها على معناها، طبقًا للوضع اللغوي، وفهم أصحاب اللغة لتلك الدلالة، وهي مهمة علماء النحو والإعراب الذين يبحثون في صحة ضبط كل لفظ في الجملة على حسب موقعه من العبارة ضبطًا يوافق ما جرى عليه العرب في ذلك الضبط، وما بنيت عليه قواعد النحو والإعراب التي استنبطها أولئك العلماء بالقياس على نهج العرب في كلامهم.
ثم إن هنالك علومًا أخرى لا تقف عند تلك المسائل التقليدية المعروفة، ولكنها تعالج النواحي الجمالية في الأعمال الأدبية على حسب التقاليد الفنية المعروفة التي استنَّها كبار الأدباء، والقواعد المستقاة من مظاهر الحسن التي توافرت للفن الأدبي المأثور عن أولئك الأدباء، نتيجة لطول المدارسة والموازنة بين نصٍّ ونصٍّ، وبين أديبٍ وأديبٍ، وتلك مهمة النقاد أو البلاغين، أو علماء البيان.
والنظرة الأولى من هاتين النظرتين عامة، تتناول العبارة المقولة، والعبارة المكتوبة بكل أنواعها، سواء أكانت تلك العبارة عبارة علمية تخاطب العقل، أم كانت عبارة أدبية تخاطب المشاعر، وتثير العاطفة والوجدان، وسواء أكانت في أعلى درجات السموِّ، أم كانت هابطة إلى مستوى لغة التفاهم التي تجري بين الناس، ولا تسموا عن العامية إلّا بصحة كلماتها، وسلامة تركيبها.
أما النظرة الأولى فإنها تختص بالعبارة الأدبية، أو الأسلوب الفني، الذي يعتمد عليه الشعر والخطابة، وسائر أساليب الكتابة الفنية.
1 / 22