Mashahir Aclam Muslimin
مشاهير أعلام المسلمين
Genres
العلامة مصطفى السباعي
هو مصطفى حسني السباعي، ولد في عام 1915 في مدينة حمص السورية في أسرة علمية عريقة. كان أجداده وأبوه يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلا بعد جيل، وكان أبوه الشيخ حسني في طليعة العاملين والمؤيدين للحركات الوطنية، ومن محبي الخير مساهما في تأسيس الجمعيات الخيرية والمشاريع الاجتماعية، يحرص على عقد مجالس العلم مع لفيف من فقهاء حمص وعلمائها الأخيار حيث كانوا يتدارسون الفقه ويتناقشون في أدلة مسائله.
موقع الجماعة 15/7/2006
إعداد: د:خالد الأحمد: ... ...
دراسته :
بدأ مصطفى السباعي بحفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم الشرعية على أبيه حتى بلغ السن التي تخوله دخول المدرسة الابتدائية، حيث التحق بالمدرسة المسعودية، وبعد أن أتم فيها دراسته بتفوق ظاهر، التحق بالثانوية الشرعية وأتم دراسته فيها عام 1930 بنجاح باهر لفت أنظار كبار أساتذته الذين كانوا يتوقعون له مستقبلا علميا باهرا. ولم يقتصر في دراسته الشرعية على المناهج المدرسية، وإنما كان يحضر مجالس العلم التي كان يعقدها والده مع كبار الفقهاء والعلماء، وكان يتردد على غيرهم من علماء حمص يتلقى عنهم العلوم الإسلامية المختلفة. كما كان السباعي مولعا بالمطالعة والبحث في كتب الأدب والثقافة المختلفة، وفي ذلك قام بتأليف جمعية سرية لمقاومة مدارس التبشير الأجنبية التي أنشئت بمساعدة السلطات الاستعمارية الفرنسية، وكانت هذه المدارس تحبب إلى طلابها الثقافة الغربية وتعمل على إبعادهم عن عقيدتهم.. فعمل السباعي على محاربتها، كما ساهم في تأسيس وقيادة عدد من الجمعيات الإسلامية في حمص وفي غيرها، ومنها (الرابطة الدينية بحمص) و(شباب محمد صلى الله عليه وسلم) و(الشبان المسلمين في دمشق).
وكان يلقي خطبة الجمعة في كثير من الأحيان في الجامع الكبير نيابة عن أبيه، مما جعله يحتل مكانة مرموقة في بلده، وحاز إعجاب الجماهير التي كانت تتوق لسماع خطبه القوية الحماسية ضد الاستعمار الفرنسي مما أدى إلى اعتقاله مرتين: 1931، 1932، وعندما أفرج عنه رأى أن يتابع دراسته وتحصيله العالي في مصر.
يقول المستشار عبدالله العقيل : شارك السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا ، وكان يوزع المنشورات ، ويلقي الخطب ويقود المظاهرات في حمص ، وهو في السادسة عشرة من عمره ، وقد قبض عليه الفرنسيون واعتقلوه أول مرة عام (1931) بتهمة توزيع المنشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية ، واعتقل ثانية بسبب خطبه الحماسية ، وآخرها خطبة في الجامع الكبير ... بل قاوم الفرنسيين بالسلاح حيث قاد مجموعة من إخوانه في حمص ، وأطلقوا الرصاص على الفرنسيين ...
وفي مصر شارك إخوانه المصريين في مظاهراتهم ضد الانجليز ، فاعتقلته السلطات الانجليزية مع عدد من زملائه منهم مشهور الضامن وابراهيم القطان وهاشم خزندار وفارس حمداني وعلي الدويك ويوسف المشاري ... وبقوا في المعتقل ثلاثة شهور ، ثم نقلوا إلى (صرفند ) بفلسطين حيث مكثوا أربعة شهور ثم أطلق سراحهم بكفالة مالية ...
سفره للدراسة في الأزهر :
سافر مصطفى السباعي إلى مصر عام 1933، والتحق بالجامعة الأزهرية، وانتسب إلى قسم الفقه، وأدهش أساتذته لما أبداه من تفوق باهر، ثم انتسب إلى كلية أصول الدين، ونال إجازتها بتفوق التحق بعدها بقسم الدكتوراه لنيل شهادتها في التشريع الإسلامي وتاريخه، وقد قدم أطروحته العلمية وموضوعها (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) التي نالت درجة الامتياز، وكان ذلك عام 1949 وقد أدهش اللجنة بدقته العلمية، وأصبح هذا الكتاب القيم من أهم المراجع العلمية في موضوعه. وما أن استقر السباعي في القاهرة، حتى بادر للاتصال بداعية الإسلام الشهيد حسن البنا، وكان قد سمع به من قبل وعرف جهاده في سبيل الإسلام، وكان الإمام البنا قد فرغ من بناء جماعته التي استطاعت بقيادته الفذة أن توجد في مصر التيار الإسلامي الذي أثبت وجوده وقد أفزع الإمام البنا الاستعمار وعملاءه، فأقدموا على اغتياله عام 1949، بعد أن أثبت أنه وجماعته قوة ترهب المستعمرين وتهدد وجودهم ومصالحهم.
السباعي والبنا
وقد أعجب السباعي بعمل البنا، ورأى أن ما كان ينشده ويفكر به من تنظيم جماعة تنهض بعبء رسالة الإسلام، قد تحقق على يدي الإمام البنا، فساهم خلال وجوده في مصر بدفع هذه الحركة، وتوسيع نشاطها، وتدعيم أساسها، فاستفاد من تجربتها وأفادها من خبرته ونشاطه. وبلغ نشاطه حدا أقلق الاستعمار البريطاني وأتباعه في مصر آنذاك فألقي القبض عليه من قبل القيادة البريطانية بتهمة تحريض الشعب المصري على الثورة ضد الإنكليز، وزج به في السجن، وبعد شهرين سلم إلى السلطات الإنكليزية في فلسطين، فأودع معتقل صرفند وبعد مضي أربعة أشهر أفرج عنه لتعيد السلطات الفرنسية اعتقاله من جديد فور وصوله إلى سورية، وزجته في سجون لبنان أكثر من سنتين ونصف، وبعد أن أفرج عنه عاد إلى حمص ثم انتقل إلى دمشق ليتابع نشاطه في الدعوة إلى الإسلام، وقيادة الجماهير في طريق (الحق والقوة والحرية) ورأى أن الوقت قد حان لإخراج الحركة من نطاق العمل الشعبي العام إلى نطاق الحركة المنظمة، وبدأ باصطفاء الأكفياء من الرجال، وانتهى إلى تأسيس الجماعة المنشودة مختارا لها اسم الحركة الإسلامية في مصر، لإخراج الحركة من النطاق المحلي إلى نطاق الوطن العربي الكبير، فأعلن عام 1945 قيام (جماعة الإخوان المسلمين في سوريا )، وقد انتخبته الهيئة التأسيسية للجماعة فيما بعد مراقبا عاما مدى الحياة، فقاد الجماعة قيادة الحكيم حتى استطاع أن يوجد في سورية التيار الإسلامي الواعي الذي استقطب خيرة الشباب المثقف المؤمن، واستمر السباعي القائد يمنح دعوته وجماعته من شبابه المتوقد وحيويته النادرة وعقله الجبار وروحه القوية وكل ذرة من جهده ووقته حتى سقط من الإرهاق، لكنه لم يستسلم للمرض وكان يقول: (خير لي أن أموت وأنا أقوم بواجبي نحو الله، من أن أموت على فراشي، فالآجال بيد الله، وإن ألمي من حرمان الطلاب من دروس التوجيه أشد وأقسى من آلامي الجسدية، وحسبي الله وعليه الاتكال).
التدريس
بعد أن أنهى السباعي دراسته وعاد إلى بلده انخرط في سلك التعليم، رغبة منه في نشر العلم، وتربية النشء على أخلاق الرجولة، فكان يدرس اللغة العربية والتربية الدينية في مدارس حمص الثانوية وعندما انتقل إلى دمشق عمل مع فئة من إخوانه على إنشاء مدرسة تحقق ما يصبو إليه من أهداف في التربية والتعليم، فأسس (المعهد العربي) في دمشق الذي انضمت إلى إدارته فيما بعد جمعية التمدن الإسلامي، فأصبح الاسم (المعهد العربي الإسلامي)، ولم يقتصروا على إنشاء هذا المعهد في دمشق بل فتحوا له فروعا في أكثر المحافظات، وكان السباعي أول مدير لهذا المعهد الذي خرج في زمانه طلابا كانوا خيرة ما أنتجته المدارس في سورية.
وفي عام 1950 عين السباعي أستاذا في كلية الحقوق في دمشق، فكان من ألمع الأساتذة في فن التدريس وخصب الإنتاج العلمي. وقد فكر في إنشاء كلية خاصة مستقلة للشريعة الإسلامية، على أرفع المستويات العلمية والفكرية، فنجحت مساعيه رغم العراقيل والصعوبات وتم تأسيسها عام 1955، وكان أول عميد لها إلى جانب قيامه بالتدريس في كلية الحقوق واضطلاعه بكافة المسؤوليات العامة الملقاة على عاتقه كداعية وكصاحب فكرة.
تأسيس كلية الشريعة :
يقول الأخ محمد السيد :
فلما طلب أن يضحي أحد الرجال الأساتذة الكبار بمنصبه المستقر الكبير في الجامعة، ليتسلم عمادة كلية الشريعة منصبا غير معروف المصير، لم يقبل أحد بهذه التضحية، في حين أقدم الدكتور السباعي على قبول المنصب مضحيا بمكانه الكبير في كلية الحقوق....
ويبين الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء أهمية هذه التضحية من الدكتور السباعي رحمه الله فيقول: وإني لأعترف وأنا أغض من بصري، أنني والأستاذ الدكتور معروف الدواليبي من أساتذة الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، لم نقبل أن نضحي بمراكزنا... لاعتبارات عديدة تجعل هذه التضحية ثقيلة علينا، فضعفت نفوسنا، وضحى السباعي رحمه الله بمركزه الجديد الثابت في كلية الحقوق وقال: »أريد أن أضرب المثل بنفسي...
كما عمل السباعي بالتعاون مع إخوانه الذين شاركوه في تأسيس كلية الشريعة على إنشاء موسوعة الفقه الإسلامي تهدف إلى إحيائه، وصياغته صياغة جديدة وتبويبه وتصنيفه على أحدث الأساليب المتبعة في أرقى الموسوعات العلمية والقانونية في العالم لتكون مرجعا لكل فقيه وعالم، ولتلبي حاجة التشريع، وقد تحدى السباعي كل صعب حتى أخرج المشروع إلى حيز الوجود، وكان أول رئيس لهذه الموسوعة التي جمعت خيرة العناصر العلمية والفقهية والقانونية في الجامعة.
وكان السباعي أيضا رئيسا لقسم الفقه الإسلامي ومذاهبه في جامعة دمشق. وكان يرى أن مناهج كلية الشريعة لا يجوز أن تقتصر على تلقين العلوم الجافة، وأن غاية الكلية ليست تخريج العلماء والفقهاء فحسب، وإنما كان يريد أن يكون خريجو الشريعة علماء ودعاة، لذلك عني بمناهج التربية والتعليم والتوجيه في الكلية، فأحدث درسا أسبوعيا سماه (قاعة البحث) وقد تولى بنفسه إدارة هذه القاعة، وإلقاء محاضراته التوجيهية.
السباعي وفلسطين :
وهنا يصف الأستاذ إميل الغوري موقفا من مواقف الجهاد للدكتور السباعي، نرى من الواجب نقله إلى هذه الصفحة. يقول الأستاذ الغوري في مقالة له بعنوان (ذكريات من جهاد السباعي):
( ....وفي ليلة 2 أيار 1948 وفيما كانت طلائع المجاهدين تتقدم نحو المستعمرتين الآنفتي الذكر، فوجئنا بقدوم عدد من الرجال المسلحين، أكد لنا الحرس أنهم من العرب، وأنهم يريدون المساهمة في الجهاد والانقضاض على المستعمرين.. وجدنا أنهم (قوة سورية) مؤلفة من 150 رجلا من الشبان.. وكان على رأس القوة الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في لباس الميدان متمنطقا سلاحه للجهاد في سبيل الله، فهلل المجاهدون ورحبوا بإخوان الجهاد. وقبيل خوض المعركة حاولنا إبقاء الشيخ مصطفى في مقر القيادة بعيدا نسبيا عن أرض المعركة، كما سعيت شخصيا للاحتيال على الشيخ وإبقائه في القيادة، للقيام بأعمال خطيرة ومهمة، لكنه أبى ورفض وأصر على خوض غمار المعركة مهما كلف الأمر، وقال: إنه لم يحضر من دمشق إلا بنية الشهادة في سبيل الله.. وصمم على أن يشترك بنفسه في الطليعة، فكان له ما أراد، فخاض المعركة ورفاقه ببطولة، وانتهت المعركة بنصر مؤزر. .. ).
في معركة كفار عصيون التي استمرت عاما كاملا بشكل مناوشات ومواجهات مستمرة بين العرب ويهود من منتصف عام 1947 حتى منتصف أيار 1948 حيث كانت في هذا الشهر المعركة الحاسمة التي اشتركت فيها كتيبة الإخوان السوريين يقول الأستاذ الشيخ زهير الشاويش الذي اشترك في تلك المعركة: »وفي هذه المعركة الكبيرة كان لمجموعتنا شرف المشاركة فيها بقيادة الأستاذ مصطفى السباعي، وكان حضورنا إلى أرض المعركة في اليوم الثاني على بدئها... وانتهت المعركة باستسلام اليهود وتحرير المنطقة.. وكانت خسائر اليهود كبيرة جدا... وبعد أن رجع الأستاذ السباعي رحمه الله إلى الروضة كان مع مجموعته بعض الأسرى من اليهود المقاتلين، وأما الباقون فقد جرى السماح لهم بالذهاب إلى القدس.«
لم تكن قضية فلسطين، قضية عادية عند السباعي، فهو الزعيم القائد الذي قرن القول بالعمل فطاف أنحاء البلاد من أدناها إلى أقصاها يلقي الخطب الحماسية يثير بها الجماهير المؤمنة في كل مكان، ويأخذ عليها العهود والمواثيق بأن تبذل لفلسطين الإسلامية كل غال، وقد كان ذلك عقب الإفراج عنه سنة 1943 وقد نشرت صحف دمشق وغيرها من الصحف العربية يومئذ أنباء هذه الجولات والمظاهرات التي كان يقودها عقب كل خطاب في كل مدينة وقرية في أنحاء سورية. كما نشرت هذه الصحف محاضراته وخطبه وأحاديثه.
وفي عام 1948 ولدى اعتراف الأمم المتحدة بشرعية دولة إسرائيل في فلسطين، انطلق السباعي يجوب المدن السورية ويدعو إلى التطوع لإنقاذ فلسطين، واندفع في مقدمة الركب يقود كتائب الشباب المؤمن من جماعة الإخوان المسلمين الذين رباهم على مبدأ (والموت في سبيل الله أسمى أمانينا)، وفي أرض المعركة تم لقاء كتائب إخوان سورية بكتائب إخوان مصر، والتقى السباعي بالبنا وتعاون القائدان ووضعا خطة مشتركة للمعركة، وتوزعا أماكن القتال، واستمر مجاهدو الإخوان يقاتلون ببسالة وشجاعة بقيادة الدكتور السباعي حتى صدرت الأوامر العليا بالانسحاب.
وعلى مر الأيام والسنين لم ينس السباعي القضية الفلسطينية، فدعا إلى تخصيص أسبوع من كل عام باسم (أسبوع الخطر الصهيوني) تقام فيه المهرجانات الشعبية في سائر أنحاء البلاد، وبدأ هذا المشروع عام 1955، ودعا فيه قادة الحركة الإسلامية في الوطن العربي للاشتراك في هذا الأسبوع، وطاف معهم في شتى أنحاء البلاد يتحدثون عن الخطر الصهيوني، ويقودون المظاهرات الشعبية لمطالبة الحكومات والمسؤولين بإعداد الشعب للمعركة واتخاذ كافة الاستعدادات لمعركة التحرير.
كما طالب وإخوانه في المجلس النيابي بتدريس القضية الفلسطينية كمادة أساسية في منهج التعليم، وقد أقر هذا الاقتراح ونفذ بالفعل، حتى تم تجاوزه في المناهج الدراسية في سورية بعد عام 1963 تمهيدا لما سيأتي بعد !!
السباعي في المجلس النيابي :
انتخب السباعي نائبا عن دمشق في الجمعية التأسيسية التي تحولت بعد وضع الدستور إلى برلمان (1949 1954)، وكان أهلا لهذه الثقة وسرعان ما لمع نجمه كبرلماني شعبي متفوق يقارع الباطل والفساد ولا يهادن، فاتجهت إليه الأنظار، والتفتت حوله القلوب داخل البرلمان وخارجه انتخب نائبا لرئيس المجلس، وأصبح عضوا بارزا في لجنة الدستور العامة، وأحد الأعضاء التسعة الذين وضعوا مسودة الدستور، وقدموها إلى اللجنة العامة لإقراره بعد أن ضمنه مواد إسلامية رائعة . وقد تبنى مصطفى السباعي في البرلمان السوري حركة العمال ودافع عن حقوقهم وطالب برفع مستواهم المادي والاجتماعي والأخلاقي، وتبنى مطالبهم في مجلس النواب، وطاف القرى وعاش مع الفلاحين وعرف مشاكلهم وطالب برفع مستواهم وإنصافهم. كما قام بإنشاء المعاهد والمدارس، وساهم في تأسيس عدد من الأندية الرياضية في جميع المحافظات السورية، وتأسيس عدد من اللجان لجمع التبرعات وتوزيعها على المحتاجين والأسر الفقيرة.
وقد بذلت له العروض المغرية للدخول في الوزارات المتعاقبة فأبى مؤثرا العمل الشعبي والبقاء بين الجماهير يعيش مشكلاتها وقضاياها عن الانشغال عنها بالمناصب والمغانم.
السباعي والشيشكلي :
ويحدثنا أخوه في الإخوان المسلمين الشيخ محمد المجذوب فيقول :
( .... وكان الفقيد العظيم أشد الناس بغضا للانقلابات العسكرية ، لإيمانه أن السبيل الوحيدة للإصلاح ، أيا كان، إنما هو الفكر الحر والمنطلق العلمي المبني على الحجة المفحمة .. وهذا ما دفعه إلى استنقاد مجهوده في سبيل إقناع أديب الشيشكلي بإعادة الحياة البرلمانية إلى البلاد ، بعد تلك الاندفاعة الحمقاء التي قوض بها العهد الدستوري .
وتردد أياما بين الشيشكلي والدواليبي المعتقل ، تحقيقا لهذه الغاية ، ولكن النجاح كان مستحيلا عليه، لأن طموح الشيشكلي لم ينسجم مع الغاية التي يريدها الفقيد ، لذلك سرعان ما قلب له ظهر المجن ، وضمه إلى صديقه رئيس الوزراء الدكتور معروف في معتقل المزة ، وأعقب ذلك بمصادرة حرية الجماعة فأغلق مراكزها ، ووضع رجالها تحت مراقبة شديدة .
وبعد مدة غير يسيرة أخرجه من المعتقل لمواجهته ، وقد حدثني أبو حسان ، عليه رحمة الله ، بالبحث الذي دار بينهما يومذاك :
قال الشيشكلي : يؤسفني أيها الأستاذ أن تصدر عني إساءة نحوك ، وأنا الذي أقدر جهادك ، وأثق بإخلاصك ومن معك .. وقد كان الأحرى بنا أن نأتلف بدلا من أن نختصم ونختلف .. ومع ذلك فإن المجال لا يزال أمامنا متسعا لذلك فلننس الماضي ولنتعاون .
فقال أبو حسان : ولكن الذي وجدته منك أكد لي ألا سبيل إلى التلاقي .
قال الشيشكلي : ولم لا .. إنك تدعو إلى الإسلام ، وأنا والله مسلم يملأ قلبي الإيمان بالله ورسوله وكتابه ، فكيف لا يتم تلاقينا .
قال الفقيد : لعلك تفهم الإسلام عبادة وعقيدة وحسب ، أما نحن فالإسلام في مفهومنا نظام يشمل الحياة ويقدر لكل شيء حسابه ، لأن الله يقول لنا : [ما فرطنا في الكتاب من شيء] ومعنى ذلك أننا لا نستطيع القبول بالواقع الذي تفرضه القوة ، ولا بد لنا من النضال بكل الوسائل المشروعة حتى نعيد إلى هذه الديار نظامها الإسلامي الذي به دخلت أمتنا التاريخ ، وبه تسنمت مركز القيادة العالمية من أوروبة إلى أقصى الصين .
وهنا لم يبق متسع لاستمرار المحاولة ، فأعلن صاحب الانقلاب أسفه لإصرار السباعي على معارضته ، ونهض ليودعه وهو يقول " إذن فنحن معذورون في اتخاذ كل ما نراه ضروريا لحماية أهدافنا . ولكني آمل ألا نيأس من إمكان التلاقي في وقت وآخر.. عندما تتضح لكم حقيقة أغراضي يا دكتور !.."
وكان طبيعيا أن يفرض الحصار على تنقلات الفقيد ، وعلى داره ، التي أخذت تزدحم بالزائرين من مختلف أنحاء دمشق وغيرها . ثم رأى الشيشكلي أن دمشق لا تتسع له وللفقيد فأخرجه إلى لبنان ، حيث بقي في منفاه هذا إلى نهاية ذلك العهد
أسفاره في الدعوة :
في عام 1951 رأس مصطفى السباعي وفد سورية إلى المؤتمر الإسلامي العالمي في الباكستان فكان من أبرز شخصيات المؤتمر وأكثرها نشاطا وإنتاجا. وفي عام 1954 رأس وفد سورية إلى المؤتمر الإسلامي المسيحي المنعقد في بحمدون، وألقى هناك خطابه المشهور عن (الإسلام والشيوعية) فذعرت له الدوائر الاستعمارية الغربية التي كانت تستتر وراء المؤتمر. وفي عام 1956 أوفدته الجامعة السورية إلى ديار الغرب لزيارة الجامعات الغربية والاطلاع على مناهج الدراسات الإسلامية فيها، فزار تركيا وإيطاليا وبريطانيا وايرلندا وبلجيكا وهولندا والدنمارك والنرويج والسويد وفنلندا وألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا، واجتمع في هذه البلاد كلها بالمستشرقين من أساتذة الدراسات الإسلامية والشرقية، وناقشهم في مؤلفاتهم عن الإسلام، وكشف لهم الأخطاء العلمية والتاريخية التي وقعوا فيها، وبين لهم حقائق الإسلام بأسلوب علمي فأدهشهم بقوة حجته وغزارة علمه، وحضور بديهته وسعة آفاقه، ومرونة أسلوبه. وقد عاهده فريق منهم على أن لا يكتبوا عن موضوع إسلامي إلا بعد أن يراجعوه في صحة المعلومات التي وصلت إليهم. كما أنه استفاد من وجوده هناك فألقى المحاضرات في المساجد وفي الجامعات وفي الندوات مدافعا عن حقوق العرب في فلسطين والجزائر، وعن قضايا الشرق والإسلام.
وفي عام 1957 سافر إلى موسكو مع إخوانه عمداء كلية الجامعة بدعوة من جامعة موسكو زار خلالها معظم الجامعات الروسية في مختلف الأقاليم، والتقى بأساتذة الدراسات الشرقية والتاريخية والاجتماعية، وناقشهم في أقوالهم وآرائهم في الإسلام، كما ناقش غيرهم من الشخصيات السوفييتية، فكشف لهم أخطاءهم ووضح لهم رأيه صريحا في موقفه من الشيوعية في البلاد العربية، كما شرح لهم مواقف الشيوعيين في البلاد العربية من القضايا الوطنية والاجتماعية وفضح أخلاقهم وأساليبهم.
في عام 1955 أسس مصطفى السباعي مع إخوانه جريدة (الشهاب) التي استمرت حتى عام 1958، كما أصدر أيضا عام 1955 مجلة (المسلمون) بعد احتجابها في مصر، وفي عام 1958، رأى تغيير اسم المجلة فسماها (حضارة الإسلام) وأفرد فيها بابا للقضية الفلسطينية باسم (الدرة المغتصبة).
وفي عهد الشيشكلي في أواخر عام 1952، تعرض الدكتور السباعي لمضايقة السلطة الحاكمة التي فرضت عليه رقابة مزعجة تحصي عليه حركاته وسكناته. ولم يكتف الشيشكلي بهذه المضايقة بل طلب من أساتذة الجامعة ومن كبار الموظفين أداء قسم الولاء لعهده والدخول في الحركة التي أسسها باسم (حركة التحرير)، ولكن السباعي رفض الانصياع للأوامر، فغضب الشيشكلي وأصدر مرسوما بتسريحه من الجامعة، وأبعده عن البلاد فاختار لبنان وبقي فيه حتى أواخر عهد الشيشكلي، وهناك في لبنان التف حوله مئات الشباب الجامعي المثقف، وأظهروا له استعدادهم لإنشاء حركة إسلامية في لبنان بقيادته، وفعلا أسس معهم الحركة التي استمرت تسير على النهج الذي رسمه لها.
وفي مطلع عام 1956 حاول أحد المجرمين المأجورين الإقدام على اغتيال السباعي، ولكن الله سلمه، وتمكنت سلطات الأمن من إلقاء القبض على المجرم الذي تبين أنه أحد أفراد عصابة مأجورة لمصلحة دولة أجنبية، وأن سبب الاغتيال وقوف السباعي في وجه الأحلاف الغربية.
كان السباعي رحمه الله عالما وداعية وسياسيا استطاع أن يقود حركة الإخوان المسلمين في سورية في ظروف كثيرة التقلب بالغة التعقيد، ولكنه كان دائما يبرز هذه الحركة متشابكة في نسيج المجتمع السوري بأبعاده كافة الإسلامية والاجتماعية والسياسة. كما أنه قاد على الصعيد الإسلامي حركة إصلاح ديني فقاوم البدع والتقاليد البالية، وارتقى بالخطاب الإسلامي إلى مستوى العصر الذي يعيشه المسلمون، وأعطى الدعوة من روحه وعقله وعصبه مما أهلها أن تكون من الحركات الإسلامية المؤثرة في العالم العربي والإسلامي.
توفي السباعي إثر مرض ألم به يوم السبت الثالث من تشرين الأول عام 1964.
ولنقرأ ماكتبه الشيخ محمد المجذوب يرحمه الله أحد إخوة الشيخ السباعي المعاصرين له ، والذين لهم تفاعل مباشر معه ..يقول واصفا جنازته يرحمه الله :
( ....ووصلت دمشق ظهر اليوم التالي ، ولم أعرف مكان الجثمان إلا من انقطاع حركة المواصلات في شارع مدحت باشا . وسرعان ما ابتلعني موكب الجنازة العزيزة كقطرة الماء لامست السيل الهادر، الذي ما لبث أن ملأ شارع الحميدية حتى قلب الجامع الأموي .. وأبت دمشق الوفية المؤمنة أن تحمل السيارة جسد البطل الذي طالما هز منابرها وأثار عزائمها وحفز شبابها لاستعادة مكانتها في خدمة الإسلام ، وتحرير أرض الإسلام ، فإذا هي تتداول نعشه على الراح حتى المقبرة ، التي ضمت من قبله أجساد الأباة من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعيهم وتابعي تابعيهم من أعلام الهداة .
وفي غمرة الأنين والنشيج وانطلاقات الأصوات المؤمنة بشعارات السماء ، التي وقف الفقيد حياته الغالية على تركيزها وتحقيقها ، والتي بذل في نصرتها آخر أنفاسه في لحظاته الأخيرة .. وجدتني أتساءل وأتذكر.
Page 89