وإلى الجهة الجنوبية من الميدان الكبير الذي ذكرناه متنزه القديس أندراوس في أقصى المدينة، يمكن الوصول إليه من الساحة الكبرى التي ذكرناها في الترامواي، طوله نحو ثلاثة أميال وإلى يمينه البحر من أوله إلى آخره، وفي طرفه الشمالي آكام كسيت بالشجر والزهر على اختلاف الأنواع، ولها طرق جميلة رصعت أرضها بالحصى أو فرشت بالرمل، وهي متنزه العائلات، ترى فيها الأولاد والبنات أفواجا يسرحون في تلك الجوانب الرحبة، وليس هناك من المساكن غير منازل قليلة لبعض أهل اليسار، وعلى مقربة منها معمل السفن النمسوية، دخلناه ووجدنا فيه أشكال العمل والترميم والصنع والتركيب، ثم عدنا إلى المدينة عن طريق ساحة جوزيبة، وفيها تمثال الإمبراطور مكسميليان ثم ساحة القديس جيوفاني، وفيها كثير من الأبنية الفخيمة.
ومن أشهر ما يذكر عن تريستة قصر عظيم يقصده كل مقيم في المدينة أو نازل بها؛ أريد به قصر ميرامار، بناه الأرشيدوك مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي، وأنفق مالا طائلا على زخرفه وإعداده حتى إذا تم له ذلك انتخب إمبراطورا لبلاد المكسيك في أميركا، فسار إليها وحكمها زمانا، ولكن قسما من أهلها ثار على حكومته وألف حكومة جمهورية انتصر زعيمها جوارز على الإمبراطور وأسره وأمر بإعدامه في سنة 1867. وكان مكسميليان من أمراء البحر في بلاده، والنمسويون يحبونه كثيرا؛ فأسفوا كثيرا لما أصابه وجعلوا قصر ميرامار تذكارا له يجلون ذكره. والقصر باق على مثل ما تركه صاحبه، وفي قاعاته الفخيمة رسوم الرجال والنساء الذين اشتهروا من آل هايسبرج، وهم البيت الحاكم في بلاد النمسا. وقد بني هذا القصر على مرتفع من الأرض وله حديقة غناء ومنظر من كل الوجوه بديع.
ويقرب من هذا القصر في ارتفاع مركزه كنيسة القديس جوستو قصدتها قبل مبارحة المدينة حتى أطل منها على كل الأنحاء فرأيت تريستة بكل أجزائها وضواحيها. بنيت هذه الكنيسة في القرن الرابع عشر موضع معبد روماني قديم، وفيها مدافن بعض المشهورين، منهم الأميرتان أدلايد وفكتوريا عمتا لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي حصلت في أيامه الثورة الفرنسوية. هذا جل الذي يحسن وصفه في مدينة تريستة، وهي أول ما يمكن للشرقي أن يراه من مدن النمسا، فنتقدم منها إلى ذكر فيينا عاصمة السلطنة النمسوية.
فيينا
برحنا تريستة بعد الإقامة فيها حينا بسكة الحديد فطفقنا ندخل مواضع مختلفة المناظر بديعة الجمال، حتى وصلنا مدينة جراتز قاعدة ولاية أوستريا من ولايات النمسا، ولهذه المدينة شهرة بصنع نوع من البيرا يعرف باسمها. وفي الولاية غابات وحراج مشهورة غضيضة الشجر تقطع منها الأخشاب وترسل إلى سائر الأقطار. ويخترق جراتز نهر مور وقد بنيت منازلها على ضفتيه. تقدمنا منها بين هاتيك المناظر فرأينا في الطريق حصونا بناها النمسويون على عهد السلطان سليمان الثاني اتقاء لهجمات جنوده كما سيجيء، وقد هدم أكثرها الفرنسويون سنة 1809. ووراء هذه الحصون جبال ومرتفعات من الأرض يسير فيها القطار صعدا بسير رويد. وقد كان النمسويون أول من مد خطوط الحديد في مثل هذه الجبال سنة 1848، فإن الطرق هنا متعرجة ملتفة تشبه الكاف العربية في شكلها، فضلا عما فيها من اختراق الجبال والسير تحتها، فإن في هذا الخط وحده 15 نفقا تحت الأرض. وهذه الجبال تعد فرعا من جبال الألب المشهورة يبلغ ارتفاعها عند سمرين التي وقف القطار بها قليلا 2200 قدم، وكلها ملأى بالمناظر الفخيمة، زادها بهاء ورونقا اكتساؤها بحلل خضراء من شجر الصنوبر وغيره، وقد رصعت جنباتها بالمنازل المشيدة يقضي فيها كبراء النمسويين أشهر الصيف. ولا حاجة إلى القول إن السفر في قطار كهذا يصعد إلى قمة جبل شاهق من أغرب الأمور وأكثرها لذة؛ فإنك تدخل جوف الأرض والجبال من فوقك ثم تخرج فإذا أنت في سفح جبل وإلى جانبك الحقول والجداول والمنازل، ثم تصعد أعلى الجبل والقطار مسرع بك فكأنما أنت محلق في الجو تطير ومن دونك الأرض بواديها وسهلها وبقية ما فيها، وفي ذلك نزهة غريبة يعرفها الخبيرون. تلك مناظر الأرض ما بين تريستة ومدينة فيينا التي نحن في شأنها، والمسافة بينهما 16 ساعة في سكة الحديد لا يشعر المسافر بملل في خلالها.
وأما فيينا هذه فهي قاعدة سلطنة النمسا والمجر، ومن أشهر العواصم الأوروبية في حالها الحاضرة وتاريخها الماضي وعدد سكانها نحو مليوني نفس، واسمها القديم فندوما، وقد ورد ذكرها على عهد يوليوس قيصر القائد الروماني في القرن الأول للميلاد، ثم كثر تردد الرومانيين عليها بعد هذا، ومات فيها أحد قياصرتهم وهو ماركوس أوريليوس سنة 180، وظلت محطا لرحال الفاتحين من تلك الأيام حتى جعلها شارلمان حدا لمملكته في القرن التاسع للميلاد، فلما مات ألحقت بمملكة ألمانيا وانفصلت عن فرنسا وصار يحكمها دوكات النمسا حتى قامت العائلة المالكة الحالية على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية. وقد توالت النكبات على فيينا، ولكنها لم تؤثر عليها تأثيرا يذكر؛ فإنها حاصرها المجر سنة 1485 أربعة أشهر وفتحوها، ثم أنقذها منهم سنة 1490 مكسميليان الأول من آل هايسبرج وجعلها قاعدة المملكة النمسوية إلى اليوم، وحاصرها ملك بوهيميا مرة سنة 1619 فلم يفده الحصار، وتقدم عليها الأتراك مرتين: أولهما على عهد السلطان سليمان الثاني سنة 1529، والثانية على عهد السلطان محمد الثالث سنة 1582، وكان قائد جنودهم يومئذ الصدر قرا مصطفى باشا المشهور، فضيق على المدينة تضييقا شديدا، ولولا ورود النجدة إليها من بوهيميا تحت قيادة ملكها سوبيسكي لفتحها، وحاصرها نابوليون بعد ذلك على مثل ما تقدم في الخلاصة التاريخية، وكان هذا الحصار الكثير داعيا إلى بناء دائرة كبرى من الحصون داخل المدينة أبدلت الآن بشارع رنغ ستراس (ومعناه درب الحلقة لاستدارته) طوله نحو ميلين وعرضه 62 مترا، بني على نظامه الحالي سنة 1858.
خرجت مع الدليل من فندق متروبول الذي اخترت الإقامة فيه، وبدأت بشارع رنغ ستراس هذا، وهو أعظم شوارع فيينا، ليس في أوروبا كلها شارع بطوله تجتمع فيه محاسن البناء وغرائب الصناعة وأدلة العز والترف متوالية مترادفة مثل هذا الشارع العظيم في عاصمة النمسا؛ فإن فيه غير المخازن الجميلة والفنادق المشيدة والحانات المنظمة بناء البورصة والتلغراف والبوليس والمجلس البلدي والمرسح الإمبراطوري والمتحفين ومجلس نواب الأمة والأوبرا الكبيرة ووزارة الحقانية، وقصورا أخرى تدهش الأبصار بمحاسنها في كل جانب منه، وحديقة ستاد بارك، وغير ذلك من بدائع هذا الشارع العظيم. وقد قسم هذا الشارع أقساما ثمانية، أولها رصيف يمشي عليه الناس من بعد الأبنية المتقنة، ثم طريق للعربات يليه طريق للترامواي فطريق للجياد وراكبيها، وبعده خط من الشجر الجميل يزدان به وسط الشارع، ثم طريق للعربات وطريق للترامواي وطريق للجياد ورصيف للمارة؛ أي إن الشجر في وسط الشارع والطرق المختلفة صفان إلى جانبيه، صف من هنا وصف من هنا، وفي ذلك نظام يمنع الزحام والاصطدام، ومنظر لا تشبع العين منه ولو طالت مدة الإمعان.
ذكرنا في هذا الشارع بناء البورصة وهو عظيم الأركان شاهق الجدران في داخله قاعات شتى، بعضها للجلوس وبعضها للمطالعة، وبعضها للأشغال والمداولات والمضاربات والمبايعات وغير هذا مما يدور في جوانب ذلك البناء، وفيها من الحركة التجارية والجلبة الناشئة عن كثرة المركبات والمترددين ما يوجب الذهول ويشير إلى نشاط أهل المتاجر والمضاربات من المتمدنين.
وأما مجلس النواب فإنه قصر فخيم بني من سنة 1874 إلى 1884، طوله 143 مترا، ومنظره من الخارج يدل إلى الهيبة والوقار، يصعد إليه على درج عريض من الرخام الأبيض يتصل آخره برواق قام على عمد من الرخام أيضا، له شكل الهياكل اليونانية، ومن ورائه رواق آخر طويل قائم على 24 عمودا من الرخام الأحمر مذهبة تيجانها، وفي الجدران والسقف رسوم حوادث فيينا والنمسا التاريخية، والناس يجتمعون في هذا الرواق البهي ريثما تفتح أبواب القاعة الكبرى التي يجتمع فيها النواب للنظر في سياسة المملكة والجدال فيما يلزم لها من النظامات والقوانين، وفي تلك القاعة مقاعد أمام كل منها منضدة صغيرة للنائب الذي يقعد إليها ومنصة للرئيس وكتابه، ومواضع مرتفعة في جوانب القاعة خص بعضها بأعضاء العائلة المالكة والسفراء والبعض بالمتفرجين والزائرين أو بأصحاب الصحف وجماعة الأخبار، وغير هذا مما تراه في أكثر المجالس النيابية. وقد اشتهر نواب النمسا الحاليون بكثرة الأحزاب والانقسام، وما يحدث في وسط هذا المجلس الفخيم من الفتن والشحناء بينهم. وفي هذا البناء أيضا قاعة لمجلس الشيوخ مثل قاعة النواب في نظامها وغرف كثيرة للمداولات وللوزراء واللجنات التي يأمر المجلس بعقدها، ومطعم فاخر مستعد في الليل والنهار لتقديم ما يطلبه الأعضاء الذين يكثر بقاؤهم 24 ساعة متوالية في جلسة واحدة إذا طال الجدل واحتد الأعضاء بسبب أمر تختلف الأحزاب عليه.
وقصر الحقانية بني من 1875 إلى 1881، في وسطه تمثال القسطاس والعدل، وفيه غرف لمحكمة الاستئناف العليا وإدارة النيابة العمومية، وهو من الأبنية التي تستحق الاعتبار، وعلى مقربة منه المجلس البلدي وهو قصر طويل عريض، كمل بناؤه سنة 1883 بعد عمل 11 عاما، وأنفق عليه فوق ثلاثين مليون فرنك، وهو من أجمل المجالس البلدية في أوروبا وأعظمها، تولم فيه الولائم الكبرى، وتعقد الاحتفالات العظيمة في قاعات فسيحة بديعة يصعد إليها على درج من الرخام له عمد من المرمر المذهب، ولا يقل طول قاعة الولائم عن 150 مترا، ينيرها ثلاثة آلاف أنبوبة للنور لم أر لها نظيرا في قصر الإمبراطور ولا في غيره. ويقام فيها كل عام مرقص يشترك فيه أهل الترف والنعمة، ومن أمامها شرفة تطل على الشارع الكبير الذي نحن في شأنه. وأما القاعة التي يجتمع فيها أعضاء المجلس البلدي فعظيمة فسيحة، تشبه قاعة النواب التي ذكرناها في الوضع والنظام، وفي سقفها ثريا من الأنوار قيل إن ثمنها 160 ألف فرنك، وعلى جدرانها صور الرؤساء السابقين لهذا المجلس والمتوفين، وفي الدور الأسفل من هذا البناء الفخيم تحف ثمينة ونفائس تعد من أثمن ما في مدينة فيينا؛ من ذلك مكتبة عظيمة فيها من نوادر الكتب ما يفخر به أهل هذه المدينة، وقد جمعت بنوع أخص ما فيه تاريخ فيينا القديم والحديث، ومن ذلك أيضا آثار وتحف كثيرة وصور تاريخية تمثل الحوادث المشهورة، مثل هجوم الأتراك سنة 1529 وهم بهيئاتهم القديمة وملابسهم المعروفة، واستيلاء بونابارت على فيينا سنة 1805 و1809. وهنالك أيضا أدوات شتى كانوا يستعملونها للتعذيب فيما مر من الزمان، وهي باقية تدل على قسوة الأيام الماضية وحرية هذه الأيام، ورايات وأسلحة قديمة غنمها النمسويون في حروبهم الكثيرة، وغير هذا مما لا يمكن الإسهاب في شرحه.
Unknown page