وكان من أمر هولاندا أنها لقيت من ملوك إسبانيا ظلما كبيرا واضطهادا دينيا لم يسبق له نظير، واشتدت وطأة الظلم عليها في أيام فيليب الثاني، وكان هذا الملك شديد التعصب ساءه أن أهل هولاندا اتبعوا المذهب البروتستانتي فأمر بإعدام كل من لا ينكر هذا المذهب، وأرسل الدوك ألفا من قبله لتنفيذ هذا الحكم الجائر، وكان في جملة المحكوم عليهم الأمير الحاكم على هولاندا من قبل فيليب الثاني، وهو من آل أورانج العائلة الحاكمة حالا على هذه البلاد؛ فجهر الأمير بالعصيان وجند من أهل بلاده جيشا قويا حارب الإسبانيين وانتصر عليهم بعد معارك جسيمة واستقلت هولاندا من ذلك اليوم فصار أمير أورانج حاكما عليها وتوارث آله الإمارة من بعده، وكان ذلك في سنة 1750، وتقدمت بلاد هولاندا في حكم هؤلاء الأمراء تقدما عظيما، واتسعت متاجرها وملكت المستعمرات الكبرى في الهندين الشرقية والغريبة، وظلت على ذلك حتى أيام الثورة الفرنسوية فإن الفرنسويين انتصروا عليها وضموها إلى جمهوريتهم، ثم جعلها بونابارت مملكة لأخيه لويس نابوليون، وانتهزت إنكلترا فرصة اشتغال هولاندا حينئذ بهذه المتاعب فسطت عليها وغنمت بعض مستعمراتها، وأهمها رأس الرجاء الصالح في أفريقيا وجيانا في أميركا الجنوبية.
ولما بدأت قوة فرنسا بالسقوط في أواخر أيام نابوليون الأول قام الهولانديون عليها وتمكنوا من الاستقلال مرة أخرى في سنة 1814 واتحدوا مع بلاد البلجيك فساعدتهم أوروبا على ذلك، وأنشئت مملكة جديدة للبلاد الواطئة دعي وريث آل أورانج للحكم عليها. ولكن الاختلاف بين البلادين في الذوق والطبع كان كبيرا، فلم تمر أعوام كثيرة على هذا الاتحاد، وقام البلجيكيون يطلبون الاستقلال في سنة 1830، فنالوه وساعدتهم أوروبا على نيله وانتخب أمير من آل ساكس كويرج (إمارة في ألمانيا) للحكم على البلجيك، وظلت هولاندا تحت حكم ملوكها من آل أورانج، وهي على هذا الحال إلى اليوم، وقد كان من أمرها أن عائلتها المالكة كادت تنقرض في أواسط هذا القرن ولم يبق منها غير أمير واحد ورث آل أورانج وآل ناسو، وهم حكام إمارة لكسمبرج، فورث الرجل البلادين وحكمها زمانا باسم ولهلم الثالث، وكان له ولدان توفيا في حياته وتوفيت بعدهما زوجته فاضطر الرجل أن يقترن وهو في الثالثة والستين من عمره مرة أخرى؛ ليأتيه من يرث المملكة والإمارة ولم يرزق غير فتاة هي ملكة البلاد الحالية، ولهلمينا ولدت في 31 أوغسطس سنة 1880، وتوفي والدها سنة 1890، فقامت أمها بالوصاية عليها إلى أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها، وتوجت ملكة لهولاندا في شهر مايو من سنة 1899، وكان الاحتفال بتتويجها عظيما بديعا كثر فيه فرح أهل البلاد، وهم يحبون هذه الملكة حبا مفرطا لما ظهر لهم من حسن خصالها وتوقد ذهنها، وقد ربيت جلالة الملكة ولهلمينا على يد أمهر الأساتذة والمربيات، وهي الآن تكتب بعدة لغات أوروبية غير لغتها، ولها إلمام باللغات الشرقية التي يتكلم بها سكان الأملاك الهولاندية في الشرق، وضاعت إمارة لكسمبرج من هولاندا في حكم ملكتها الحالية؛ لأنها بحسب نظامها القديم لا يحكمها النساء، واقترنت هذه الملكة بالبرنس هنري الألماني من إمارة مكلنبرج شورين في سنة 1902 فرزقت منه بنتا سنة 1909 هي ولية عهد المملكة الهولاندية، وكان لولادتها رنة فرح في بلاد هولاندا تشبه أفراح القوم يوم تتويج ملكتهم الحالية.
وهولاندا بلاد صغيرة عدد سكانها خمسة ملايين ونصف من النفوس، ولكنها في الطبقة الأولى من طبقات التمدن، ولها مستعمرات عظيمة أكثرها في جزائر المحيط الهندي لا يقل عدد سكانها عن أربعين مليونا، فهي من أكبر دول الاستعمار الحالية، ولها تجارة واسعة وعمارة قوية، ولأهلها شهرة في الجد والإقدام والأمانة العظيمة، وهذا السر في نجاحهم مع قلة العدد.
ولهلمينا ملكة هولاندا.
أمستردام
جئت بلاد هولاندا عن طريق كولون التي تقدم ذكرها في الفصل السابق، وكان أول بلد منها دخلته مدينة سفناخ الواقعة على حدود البلاد من الجنوب، وقفنا فيها ريثما انتقلنا إلى القطار الهولاندي، وفتش العمال حاجاتنا ثم تابعنا المسير حتى أتينا مدينة أمستردام، وكان فيها يومئذ حركة كبرى بسبب معرض عام أقامته حكومتها فتوافد الناس عليها لمشاهدة ما في ذلك المعرض، ومدينة أمستردام جميلة الموقع بهية المناظر بنيت على جزر صغيرة لا تقل عن تسعين عدا، وهي متصلة بعضها ببعض بقناطر جميلة الشكل عددها ثلاثمائة، وفيها من الترع ما لا يعد بسبب ذلك، وأهمها أربعة تحيط بالمدينة من كل جهاتها، طول الواحدة منها من 4 كيلومترات إلى 10 وعرضها نحو 45 مترا، والقناطر فوقها متوالية بعضها وراء بعض على نسق يروق للناظرين.
وأهم الترع في أمستردام واحدة فتحت عام 1862 توصل المدينة بالبحر طولها 25 كيلومترا، وعرضها يختلف ما بين 60 كيلومترا ومائة، فهي من الترع العظيمة تمخر فيها الباخرات الكبرى ذاهبة إلى المستعمرات الهولاندية وراجعة منها، وقد أنفقوا على حفر هذه الترعة نحو 70 مليون فرنك، وهم ينفقون على إدارتها ووقايتها وتطهيرها نحو 2000 فرنك كل يوم. وشوارع هذه المدينة كلها واسعة غرست إلى جوانبها الأشجار وقد أدى اتساع الشوارع إلى امتداد المدينة في مساحتها مسافة 12 ميلا، وفيها الآن من السكان نحو 490 ألف نفس ويشطرها نهر أمستل شطرين، وهو نهر كبير تدخله الباخرات الكبرى التي ترود البحار القاصية، وسنعود إلى الكلام عن تجارتها العظيمة ومينائها المشهور.
وقد مر أن المدينة كانت في حركة كبرى يوم زرناها بسبب المعرض؛ ولهذا قصدناه قبل غيره من المشاهد المذكورة، وكان في حديقة كبرى واسعة الأرجاء شيدت فيها الأبنية العظيمة حسب عادتهم في المعارض، فدخلت القسم العام منه والأقسام الخاصة بالممالك الغربية والشرقية، وفيه من حاصلاتها ومصنوعاتها واختراعاتها ما نضرب صفحا عن وصفه؛ لأنه لا يخرج عن وصف ما في المعارض الأخرى، وقد ذكرنا بعضها في هذه الرحلات والظاهر أن الشرقيين تحولت أنظارهم إلى هذا المعرض أكثر من سواهم، فإنه كان في سوقه العمومية عدة مخازن وحانات ودكاكين لأناس من مصر والآستانة وحلب والقدس ودمشق والإسكندرية وأفراد كثيرين من كل هذه الجهات، وأقيم إلى جانب هذه المخازن منزل عظيم للصور المجسمة والمناظر المشهورة، وعلى بابه اثنان من السودانيين بالملابس المعروفة في هذه البلاد، وفي يد أحدهما بوق ينفخ فيه دعوة للسامعين، وقد رأينا في ذلك المنزل صورا كثيرة، منها صورة الرحالة ستانلي في قلب أفريقيا يخابر أمين باشا في أمر إرجاعه إلى مصر، وأمامها القرية الأفريقية بأكواخها وسكانها السود ونسائها يحملن الأطفال على ظهورهن ومناظر طبيعية أخرى، والناس في شئون شتى، منها ما استلفت الأنظار وهو عقد الإخاء على طريقة أهل أفريقيا الوسطى، وهي أن يقصد كل من المتعاقدين نفسه ويمص الرجل من دم الآخر شيئا، فيعد ذلك دليلا على الرضاء والوفاء، وقد كان ستانلي وغيره من الأوروبيين يلجئون إلى هذه الطريقة في معاملاتهم مع زعماء الإفريقيين مدة السياحات الأولى ليأمنوا شرهم وينالوا مساعدتهم.
ولو شئت أن أعدد غرائب هذا المعرض وملاهيه للزم الشيء الكثير فأقتصر على القليل مما رأيته فيه، مثل باخرة كبرى بحجم البواخر التي تمخر في البحار وضعت في بحيرة داخل حديقة المعرض، وهي كاملة العدد ليس ينقصها غير الآلة البخارية، وقد جعلها أصحابها حانة ومطعما لزائري المعرض مدة وجوده، فكان الناس يدخلونها ويأكلون فيها ويشربون ويخدمهم رجال بملابس النوتية، ويجلس معهم على المائدة ربان يمثل حالة السفن في البواخر العظيمة، وربح أصحاب هذه الباخرة من استخدامها لهذا الغرض مالا وافرا، وفي جملة ذلك منزل بني على شكل الفيل بخرطومه وجسمه وأقيمت فيه قهوة وحانة فكان الناس يصعدون هذا الفيل وأصحابه يجمعون منهم المال، ومن هذا موضع من الخشب بني على الشكل الفلمنكي القديم، وفيه مطاعم وحانات استخدموا لها البنات بالزي الهولاندي القديم وهو جلباب قصير إلى الركبتين، وسترة أكمامها قصيرة أيضا وجوارب بيضاء صنعت باليد وحذاء مكشوف والشعر ملفوف في طاسة نحاسية تعلق في الرأس يقدمن أشكال الطعام والشراب على نغم الموسيقى الوطنية، وغير هذا كثير.
هذا بعض الذي يقال عن معرض أمستردام، وأما مشاهدها الأخرى فكثيرة، منها المتحف الهولاندي على مقربة من حديقة المعرض، وهو يشغل 11 ألف متر من الأرض، وله واجهة فخيمة طليت زخارفها بماء الذهب، وفي داخله تحف وصور جميلة لا تعد ومن أثمنها وأوفرها إتقانا صورة زنوبيا ملكة تدمر بملابسها السورية القديمة، وصور من الكتاب المقدس، وصورة لويس نابوليون ملك هولاندا الذي ذكرناه في الخلاصة التاريخية، وصورة نابوليون بونابارت في معركة واترلو التي قضت على عزه وهو مطرق في الأرض مغضب مما لحق به. وفي الدور الأسفل من هذا المعرض رسوم السفن والبواخر الحربية الهولاندية وقد كتب على كل رسم اسم السفينة وتاريخها والوقائع التي حضرتها، وهنالك أعلام ومدافع قديمة غنموها في الحروب ورسوم السفن الإنكليزية التي غنمها الهولانديون من الإنكليز سنة 1666، ورسوم معركة تشاتم من شواطئ إنكلترا في سنة 1667، وهي التي انتصروا فيها على الإنكليز أيضا، وهم يذكرون ذلك مع الفخر وينظرون إلى هذه الرسوم معجبين.
Unknown page