ومن مشاهد الآستانة التي تذكر، سوقها الكبرى المشهورة، وهي مرجع الذين يبتاعون الأبضعة الاستامبولية، سواء من أهل الآستانة أو من الذين يقصدونها لشراء الأبضعة المعروفة عنها، كالمناديل وأشكال الحرير والمقصب. وقد قسمت هذه السوق الطويلة أقساما لكل نوع من البضاعة قسم، وتفرع منها عدة أسواق صغيرة ضيقة المجال حتى إن الغريب إذا قصدها يضيع فيها، ولا بد لكل من يريد الوقوف على حالة الآستانة الحقيقية من زيارة هذه السوق التي ينتابها الأتراك رجالا ونساء، والسيدات يساومن الباعة من داخل البراقع ويشترين المطلوب كما تفعل نسوة الإفرنج، وهن على غاية من التأدب والاحتشام.
وقصدت في ذلك اليوم وزارات الحكومة، فذهبت بادئ بدء إلى أهمها وأجملها - أريد به سراي السر عسكرية - ودخلت ميدانا واسعا جدا يستعرض به الجند، وحدث أن وزير الحربية جاء في تلك الساعة فاستقبله رجل الجند بالإكرام والاحترام، ودخل من باب كبير ودخلنا نحن من باب آخر وقف على بابه خادم بيده بعض ريش ينظف به أحذية الداخلين، ويغلب أن يتقاضى منهم شيئا أجرة ذلك، وأما الموظفون في هذه النظارات فإنهم يلبسون حذاء فوق حذاء - كما يعرف القراء - فيتركون الحذاء الخارجي عند الباب ويعودون إلى لبسه حين الخروج. والسراي من داخلها واسعة جميلة كثيرة الأجزاء والغرف، كتب على أبوابها وظائف المقيمين فيها، هذه للوزير وهذه للوكيل وهذه للقلم الفلاني حسب ما تراه في أكثر الدواوين المنظمة. وقد بنيت هذه السراي من الحجر المنحوت طولها 430 مترا وعرضها 280، وهي منفردة عن سواها داخل سور متين، وقائمة على رأس أكمة بديعة تجعلها أجمل سرايات الحكومة في هذه العاصمة المشهورة، وفيها برج يقرب من برج غلطه في ارتفاعه إذا ارتقيته رأيت الآستانة كلها تحت يدك، وراق لك ذلك المنظر البديع.
ناووس الإسكندر.
وسرت بعد ذلك إلى باب همايون، وهو باب عظيم بني من الرخام الأبيض والأسود، وفوقه الطغراء العثمانية، يوصل منه إلى بعض النظارات، منها سراي الصدارة العظمى وفيها الأقلام التي تكاتب الولايات، ونظارة الخارجية ونظارة الداخلية ونظارة النافعة، وفي الآستانة نظارات أخرى مثل نظارة الضابطة، ونظارة الخزينة السلطانية الخاصة في جانب من سراي طولمه بغجه على ضفة البوسفور يبلغ عدد عمالها ستة آلاف، ونظارة البحرية في قرن الذهب، وتتبعها المدارس البحرية وإدارة الترسانات والفنارات وسواها، ونظارة الحربية في السر عسكرية، ونظارة العدلية في ميدان آيا صوفيا ونظارة المالية في ميدان بيازيد بسراي فؤاد باشا، ونظارة المعارف بالقرب من جامع محمود باشا. وأكثر جلسات الوزراء في الآستانة تعقد في سراي يلدز برئاسة جلالة السلطان وبعضها في الباب العالي في مقر الصدارة العظمى تحت رئاسة الصدر الأعظم، ولكن الأمور المهمة كلها تقرر في الجلسات التي يرأسها جلالة السلطان.
ويستحق الذكر في هذا المقام موضع يقال له طوب قبو، كان مقر الحكومة السابقة على عهد الدولة الرومية، وفيه قصورها وكنائسها ودواوينها، وصار بعد ذلك مقر حكومة آل عثمان، بنى فيه السلطان محمد الفاتح عدة أبنية وبنى السلطان محمود قصرا من الرخام وكذلك السلطان عبد المجيد.
وفي هذا الموضع قصور ومنازل كثيرة الإتقان والزخرف، منها كشك السلطان عبد المجيد وهو من بدائع الصناعة الحديثة، ومنها قصر قديم لسلاطين آل عثمان لا يقيم فيه الآن أحد، ولكنه مستودع لكنوز هؤلاء السلاطين العظام وما جمعوا من تحف الممالك التي دوخوها، فإنهم - كما لا يخفى - ورثوا ثروة الروم والعرب والفرس وبعض الإفرنج، وملكوا أطيب الأراضي ووصلوا إلى الذي لم ينله سواهم، وقد جمعوا بعض هذه التحف في السراي التي نحن في شأنها، وأقاموا عليها الحراس واحتفظوا بها احتفاظا يجدر بشأنها وقيمتها، فما رآها من الناس غير قليلين قدروا قيمتها بعدة ملايين، وهي مجموع من المثمنات والنفائس يندر مثاله. ولقد أتيح لرجل إنكليزي اسمه السر وليم روبنصن أن يدخل هذا المتحف العظيم بأمر خاص من جلالة السلطان فكتب عنه ما يأتي:
رافقني أحد الياوران يحمل الإرادة السنية المؤذنة بدخولي تلك السراي، فسلمها عند وصولنا إلى كخيا الخزانة، وهذا تناولها ورفعها إلى رأسه وقبلها، وأعلن المستخدمين تحت إدارته بفحواها ثم تقدم نحو باب الخزنة فصلى ونزع ختمه عن بابها بعد أن حدق به طويلا وتحقق سلامته، ولما فتح الباب ودخل الكخيا تبعه جميع المستخدمين باحترام وهدوء حتى وقفوا حول الخزائن الحاوية للنفائس، وكنت أنا وراء هذا المأمور، فأول ما رأيت في القاعة الأولى عرش من الذهب الخالص مرصع بألوف من الحجارة الكريمة كالألماس والياقوت والزمرد واللؤلؤ، وأكثر هذه الجواهر غنمها السلطان سليم في حربه مع إسماعيل شاه صاحب دولة إيران في سنة 1514، ويليه عرش آخر من الأبنوس والصندل مطعم بعرق اللؤلؤ والعاج وعروق الذهب، وفيه مئات من أنقى الحجارة الكريمة، وكان السلاطين السابقون يجلسون على هذا العرش متربعين، وفيه سلسلة من الذهب في طرفها زمردة بديعة طولها عشرة سنتمترات وسمكها أربعة، وأمامه جبة ثمينة مزركشة كان السلطان مراد الرابع يلبسها بعد الاستيلاء على بغداد سنة 1638، وفيها حجارة ثمينة كثيرة العدد، وإلى جانبها سيف ثمين مرصع بنحو ألفي حجر، وهنالك خناجر وسيوف لا تعد كلها من الذهب مرصعة قبضاتها وأنصبتها بأثمن الجواهر، وسروج ركابها وأدواتها من الذهب وكلها مرصعة ترصيعا يبهر الأنظار، فضلا عن أقداح من الذهب المرصع وملابس السلاطين السابقين من محمد الفاتح إلى محمود الثاني - أي من سنة 1423 إلى 1839 - وعلى كل كسوة عمامة غرست فيها الريشة المعروفة عن سلاطين آل عثمان، وهي مجموعة حجارة ساطعة غالية الأثمان.
هذا بعض ما قيل في تحف آل عثمان وهو - بلا ريب - قليل فإنه يمكن للمرء أن يبقى أياما ينتقل بين تلك المثمنات الباهرة ولا تشبع العين من النظر إليها؛ لكثرتها وجمالها، ولكنها مخفية عن الأنظار مع أن مثل هذه الجواهر في أوروبا تعرض لعامة الناس وخاصتهم يتفرجون عليها في مواضعها كما علمت من فصولنا السابقة، فيا حبذا لو درج أولياء الأمر في الآستانة على هذه العادة، فإن تحف هذا القصر من أثمن ما في الأرض وأوفره جمالا.
وفي هذه الجهة بناء يدعى «خرقة شريف أوداسي» فيه الآثار النوية المحمدية، في جملتها الخرقة الشريفة، وهي رداء أسود من شعر الإبل قيل إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
Unknown page