الدولة العلية
خلاصة تاريخية
أسس هذه الدولة العظيمة أمير اسمه أرطغرل، كان قد نزح مع أبيه وقبيلته على عهد جنكيز خان من بادية خراسان إلى جهات الأناضول في أواخر القرن السابع للهجرة، وكان في أول أمره تابعا لأمير قونية السلجوقي، فلما مات ورث الإمارة ابنه عثمان وهو جد هذه الدولة الذي أورثها اسمه، كان حاكم قضاء صغير في إمارة قونية، فلما مات أميرها علاء الدين استقل عثمان بولايته سنة 1299 مسيحية و699 هجرية، وجعل من بعد ذلك يوسع دائرة ملكه، ويسطو على الأقوام المجاورة له، حتى إنه توصل إلى فتح مدينة بروسة (بورصة) المشهورة على يد ابنه أورخان، وجعلها مقر إمارته إلى يوم مماته في سنة 1326 / 726ه.
وخلف عثمان ابنه أورخان، وكان محبا للفتح وله ميل إلى تحسين الإدارة الداخلية، فهو أول من نظم الحكومة العثمانية ووضع أساس الجيش العثماني والإنكشارية الذين اشتهروا بعد ذلك في تاريخ هذه الدولة، وأصلهم من أسرى الحروب ومن أولاد النصارى، جعل السلطان يربيهم تربية إسلامية؛ ليكونوا عدته في الحروب القادمة، وبقي وجاقهم ذا شأن كبير يولي السلاطين أحيانا ويخلع السلاطين إلى أواسط القرن التاسع عشر حين أفناهم السلطان محمود، وأراح البلاد من عنادهم وتحكمهم.
وتعاقب السلاطين بعد أورخان، وكل منهم في أوائل هذه الدولة يوسع أملاكها ويفتح أقطارا جديدة حتى وقعت آسيا الصغرى كلها في قبضتهم وبعض أوروبا، ثم قام محمد الثاني فاتح القسطنطينية وتمكن من الاستيلاء عليها بعد حصار شديد سنة 1453 فجعلها قصبة ملكه، فهي دار السلطنة والخلافة الإسلامية إلى اليوم، وكان الأتراك يتشوقون من زمان طويل إلى فتح هذه المدينة واستخلاصها من يد الروم، وقد قتل الملك قسطنطين باليولوغوس في أثناء الحصار، وهو آخر ملوك السلطنة البزنطية، وعرفت جثته بعد دخول الأتراك إلى المدينة، فأمر السلطان محمد أن تدفن بالإكرام. ثم استولى السلطان على خزائن الآستانة وعظم شأنه في الأرض، وبدأت أوروبا تخاف من سلامتها من الفاتحين العثمانيين؛ لأنه من يوم تولى السلطنة سليم الأول صار فتح أوروبا أمنية السلاطين، وسليم الأول هذا هو الذي ملك سورية ومصر وكردستان وبلاد العرب، وورث الخلافة عن العباسيين فبلغت السلطنة العثمانية في عهده مقاما رفيعا، ولما آلت الدولة إلى ابنه سليمان الأول، وهو المعروف بالكبير أو القانوني كان آل عثمان في أوج عزهم حتى إن نفس هذا السلطان سولت له أن يفتح أوروبا برمتها؛ فاكتسح بلاد البلقان وضمها إلى ملكه وتقدم على بلاد المجر فأثخن في أهلها، وزحف بعد هذا على فيينا سنة 1529 فحاصرها وضيق عليها الخناق ، ولكنه لم يتمكن من فتحها، ولو هو فعل لوقع معظم أوروبا في قبضة الأتراك.
السلطان محمد الخامس.
وكان السلطان سليمان معاصرا لشارلكان إمبراطور ألمانيا وإسبانيا وفرانسوا الأول ملك فرنسا، وقد تداخل مرة في الحروب بينهما نصرة لملك الفرنسيس، ولم تر الدولة عزا مثل الذي رأته على أيامه؛ لأنها بلغت حدا بعيدا في أملاكها؛ ولأن سلطانها كان حكيما في الإدارة قديرا في حروب، فلما آلت السلطنة إلى من جاء بعده بدأت بالهبوط لما أن الخمول والانغماس في اللذات تغلبا على السلاطين، هذا غير أن الاضطرابات الداخلية كثرت من بعد أيام السلطان سليم، وعاث الإنكشارية في البلاد فسادا، وصيروا السلطان ألعوبة في أيديهم حتى أبادهم السلطان محمود كما تقدم القول، وقد ضعفت الدولة بتوالي الحروب مع روسيا وسواها، وجعلت أملاكها الأوروبية تضيع من قبضتها شيئا بعد شيء حتى إذا كانت سنة 1878، وعقد مؤتمر برلين بعد حروب روسيا وتركيا الأخيرة انتهى عمله بفصل معظم الولايات الأوروبية وتحريرها، ثم تلا ذلك أن كريت استقلت إداريا على إثر حرب الأتراك والأروام الأخيرة، وأن القلاقل الداخلية كثرت وتجسمت على عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حتى رأى عقلاء الأمة أنه لا ينقذ هذه السلطنة من الاضمحلال غير الإصلاح على القاعدة الدستورية، فظلوا يستعدون سرا لهذه الغاية، والسلطان يبطش بكل ذي صراحة منهم حتى استمالوا إليهم قسما عظيما من الجيش، وأكرهوا السلطان على قبول الدستور وإعادة القانون الأساسي الذي نودي به في أوائل حكمه، وكان ذلك في 24 يوليو سنة 1908 ففرح العثمانيون بهذه النعمة فرحا عظيما في سائر الأقطار، وأقاموا الحفلات الشائقة، وسارت الحكومة العثمانية سيرا دستوريا بضعة أشهر سولت النفس في خلالها للسلطان عبد الحميد أن يعيد استبداده السابق؛ فانتفض عليه الجيش مرة أخرى وتغلب على أعوانه وخلعه بفتوى من شيخ الإسلام يوم 28 أبريل من سنة 1909، ثم ارتقى العرش مكانه جلالة السلطان الحالي محمد الخامس، وهو أول ملك دستوري رقي عرش عثمان وأعلن رغبته مرارا في الحكم على الطريقة الدستورية، وميله إلى الاختلاط بالأمة والسياحة في الأقطار، وقد قلد جلالة السلطان محمد الخامس سيف آل عثمان يوم 10 من شهر مايو سنة 1909 في حفلة باهرة، هي بمثابة حفلات التتويج عند ملوك الإفرنج، ورأيت أن أنقل هنا تفاصيل هذه الحفلة العثمانية إتماما للفائدة فأقول:
لما عزمت الحكومة العثمانية على تقليد جلالة السلطان سيف جده عثمان أرسلت منشورا إلى سكان الآستانة، بينت لهم فيه مواضع الاحتفال المئوي وآياته، وأشارت بتزيين الطرق والمنازل، ثم اهتمت بإعداد الدواوين والجوامع والميادين وبقية المواضع العمومية التي مر بها الموكب، أو تم فيها شيء من حفلات التتويج، ونصبت السرادقات الخصوصية للسفراء والأمراء والرؤساء الروحيين ونواب الصحف، حتى إذا تم الاستعداد رسا يختان عثمانيان قرب سراي طولمه بغجه، وهي منزل السلطان الحالي، فلما جاء موعد القيام خرج أمراء البيت السلطاني وجلسوا في أحد اليختين المذكورين، وركب حرم القصر العربات السلطانية وسرن محفوفات بالخدم والأغوات إلى استامبول. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة 35 خرج جلالته فصدحت الموسيقى بنغم الحرية، وركب يخت سيودلي فسار إلى بستان أسلكه سي، وحيته المراكب الحربية العثمانية بإطلاق المدافع، وفي مقدمتها المدرعة مسعوديه.
ولما وصل جلالته بستان أسكله سي استقبله الوكلاء وشيخ الطريقة المولوية جلبي أفندي، وهو الذي له حق تقليد السلطان سيف عثمان وبعض المشايخ، وسار الموكب إلى جامع أيوب الأنصاري مشيا على الأقدام فدخل، جلالته المكان المعد له وجلس الوكلاء في أماكنهم. وبعد أن استراح قليلا دخل إلى التربة حيث كان السيف موضعا على نمرقة فأخذه بحضور رئيس الأعيان والمبعوثان والصدر الأعظم وشيخ الإسلام، وأعطاه لجلبي أفندي فقلده إياه، وقرأ دعاء لجلالته، وكان الانفعال باديا على جلالته، ثم خرج الناس وتركوا جلالته يؤدي الصلاة لله شكرا على هذه المنة.
ولما اجتمع الموكب خارج الجامع دخل السر تشريفاتي وأخبر جلالته بذلك فخرج وحيا المدعوين في صحن الدار، وركب العربة وسار الموكب في ثلاث ألايات على الترتيب التالي: (1)
Unknown page