وقصدت بعد ذلك موضعا في الضواحي يسمونه جبل العصافير، سرت إليه في عربة فوصلته بعد ساعتين، ورأيت هنالك خلقا كثيرا من المتفرجين، وسفح هذا الجبل عند نهر موسكوفا، ثم تتعالى جوانبه شيئا فشيئا حتى تناطح السحاب وكلها مكسوة بالشجر البهي كالسنديان والصنوبر، فلما ارتقينا القمة رأينا موسكو تحت أنظارنا والنهر ملتف بها متعرج بين جوانبها، ومن ورائها هاتيك السهول الفسيحة والأغراس البهية وذكرت ساعتئذ أن بونابارت استطلع المدينة حين قدومه لمحاربتها من هذا الموضع، ولعل ذلك البطل الذكي لما رأى حصون موسكو وقبابها وعظمة ما فيها حدثته النفس بالرجوع عنها مدحورا، فإنه كان سريع الخاطر كثير الإصابة فيما سيكون من ارتداده عن بلاد الروس بالخيبة، وكانت حملته عليها بدء سقوطه وضياع سلطته، فذكرني ذلك بما كان يقوله لقواده وهو ذاهب إليها: «لأفعلن ما أريد»، وأما في عودته فقال لهم: «افعلوا ما تريدون.» وعدت إلى المدينة في المساء في النهر، فعند وصولي قابلني صديق لي هو مدير شركة الكسييف التجارية العظيمة، ذهبت معه إلى مطعم أرمتاج، وهو محل فخيم ينار بالكهربائية، وكل ما فيه روسي محض، فإن ألوان الطعام روسية والخدمة يلبسون ملابس الروس القديمة، وهي سراويل ضيقة بيضاء وسترة بيضاء واسعة الأكمام وقبعة صغيرة بيضاء أيضا، فكان لهذه المناظر البهية ولصوت الموسيقى تأثير مطرب وأثر جميل، وأهل المدينة يقصدون هذا المطعم الفاخر لإحياء الليالي وعمل الولائم والأعراس، وفيه استعداد تام لكل ما يلزم من هذا القبيل، وغرف لكل أمر ومطلب حتى إن السمك يوجد في بركة حيا، والمرء يختار السمكة التي يريدها فيصطادونها ويطبخونها له في الحال.
وقد سرت مع هذا الصديق في اليوم التالي لزيارة كنيسة المخلص، وهي من أعظم الكنائس وأبهاها، بنيت فوق أكمة تشرف على المدينة ولها قباب مذهبة بديعة الأشكال بناها القيصر نقولا الأول تذكارا لخلاص البلاد من الفرنسويين، وبلغت نفقات بنائها عشرين مليون ريال، جمعت بالاكتتاب من مدن روسيا، وقد اشتغلوا ببنائها 44 سنة، والذي فيها من الصور الثمينة والأنوار البديعة والجوانب المزخرفة يفوق الوصف، وفيها خمسة آلاف نور. وكنيسة أفان فليكي في برجها 34 جرسا، صنع أكبرها من بقايا أجراس قديمة بعد حريق موسكو سنة 1812 وزنه 68390 كيلوجراما، وعليه صور الإمبراطور إسكندر الأول وبعض أعضاء عائلته، وهو يقرع مرتين في السنة - أي يوم عيد الميلاد ويوم عيد الفصح - ويقرع أيضا عند التتويج أو عند حدوث حادث في السلطنة عظيم كوفاة قيصر أو ما يشبه هذا، وأعظم منه - بل هو أعظم أجراس الدنيا - الجرس الكبير الملقى إلى الأرض على مقربة من هذا البرج، وضعوه في قبة متينة فسقطت من ثقله، علوه 8 أمتار ومحيط فوهته 24 مترا، فيمكن لعشرين شخصا أن يجتمعوا داخله، وعليه نقوش دينية ورسوم بعض القياصرة، ويؤخذ من كتابة عليه أن الإمبراطورة حنة صبته سنة 1731 ويبلغ وزنه 195000 كيلو.
وقد ذكرنا أن القياصرة إذا أتوا موسكو للتتويج باتوا في قصر بتروفسكي تذكارا لخروج نابوليون منه، وهو بات فيه ليلة اندحاره وتقهقره عن موسكو، ومما يذكر عنه أنه جاء بلاد الروس ومعه 150 ألف جندي، فلما خرج من موسكو كان معه 40 ألفا فقط، وذلك بسبب ما أصاب هذا الجيش من هجمات الروس والبرد الشديد وتراكم الثلج وقلة الزاد، وقد مات هذا الخلق الكثير - أي مائة وعشرة آلاف - في ثلاثة أيام فقط من 19 إلى 22 أكتوبر سنة 1812، فسرت إلى هذا القصر في سهل فسيح تحيط به الحدائق الغناء والرياض الفيحاء، ووراءها ساحة التمرينات العسكرية وميدان لسباق الخيل ومتنزهات وقصور جميلة، حتى أتينا القصر ورأينا جوانبه، ولا حاجة إلى الوصف والإسهاب بعد كل الذي كتبناه عن قصور القياصرة العظام.
وجملة القول أني شغفت بهذه المدينة وآثارها العظيمة، فما أبقيت منها شيئا حتى قصدته، ولما انتهى الأجل وعولت على الرحيل منها غادرتها وقصدت غيرها من مدائن الروس.
كييف
اجتاز القطار بنا المسافة بين المدينتين في 27 ساعة قضينا معظمها نخترق الهضاب والبطاح، ونسرح الأنظار في تلك المروج النضرة والحراج الغضة والحقول الفسيحة مرصعة بالقرى والعمائر، وفيها الفلاحون بالجبات الطويلة والجزم الروسية المتينة، والنساء بملابس من الشيت يعملن في إنبات الأرض واستدرار خيرها على مهل، والرزق متوفر لديهم بما نالوا من خصب الأرض وطيب الهواء. وكييف - ولا يخفى - كانت عاصمة الروس قبل موسكو، وهي تعد مدينة مقدسة عند القوم؛ لأن النصرانية امتدت منها إلى بقية نواحي المملكة، وفيها مناسك الأولياء ومعابد قديمة العهد، وهي عاصمة إقليم كبير بنيت على ضفة نهر دنيبر العظيم، وهم يسمونه نهر أورشليم؛ لأن الذين اعتنقوا الدين المسيحي عند دخوله البلاد تعمدوا في مائه، ولمنظرها جمال تحفظه الذاكرة؛ لأن أحياءها واقعة على تلال وآكام، تليها عقبات وساحات، وهي مشهورة بتجارة الغلال؛ لأنها مثل أكثر مدائن الروس في وسط سهول تكثر فيها الزراعة.
ومن أشهر ما في كييف الدير القيصري وكنيسته والمغارات المقدسة إلى جانبه، وهو على رأس أكمة بديعة قصدناه ودخلنا تلك المغائر الضيقة، فرأينا فيها مدافن المتعبدين الأول توقد الشموع إلى جانبها ليل نهار، وللناس ولع بزيارة هذا الموضع حتى إنهم لا يقلون عن مائتي ألف زائر كل عام، وفي هذا الدير مدرسة لاهوتية ومطبعة وفرن للقربان المقدس، بلغ ثمن ما وزع منه على الزائرين في سنة واحدة خمسين ألف ريال، وفيه كنيسة كأنها قطعة من الذهب لكثرة ما ذهبوا من جوانبها، وقد أودعوا فيها عظام القديس ثيودوسيوس، وهنالك موضع بسيط لا أثر فيه للعظمة غرسوا فيه صليبا وإلى جانبه بركة من الماء يحترمهما الروس احتراما عظيما؛ لأن هذا الموضع كان أساس النصرانية في البلاد وأول من تنصر من أهلها عمد في تلك البركة، فهم يتبركون بمائها وينقلونه إلى أبعد الأنحاء، وأكثر ما في كييف مناظر مثل هذه لست أرى داعيا إلى الإسهاب في وصفها، وعدد سكانها ثلاثمائة ألف نفس.
أودسا
تركت كييف قاصدا أودسا وهي مدينة للروس عظيمة في الجنوب على شاطئ البحر الأسود، تبلغ المسافة بينها وبين كييف 16 ساعة في القطار، ولا يصل المسافر من بطرسبرج إليها إلا بعد سفر ستين ساعة في القطار المستعجل يجتاز في خلالها 11 إقليما، وفي هذا ما يكفي للدلالة إلى اتساع بلاد الروس وعظمتها، والطريق إلى أدوسا لا يختلف في وصفه عما مر ذكره من مناظر البلاد الروسية، ولكن المدينة عظيمة الأهمية، والمتاجر يصدر منها في كل عام من الحبوب ما قيمته مائة مليون ريال، وفيها معامل للنشا وللصابون والحديد والجلد والدخان والشمع، ومعامل لبناء السفن التجارية والحربية، ولا يقل عدد السفن التي تدخل ميناءها كل سنة عن ستة آلاف سفينة. ولهذه المدينة تاريخ قديم مثل كييف، فإنها بنيت على عهد كاترينا الثانية، وأتاها في سنة 1790 فرنسوي هو الدوك ريشليو هجر بلاده لأسباب سياسية، فعين حاكما لها ونظمها ورفع منزلتها، فصارت من أيامه تعد من أمهات المدائن الروسية، وهي الرابعة بين مدن روسيا الكبيرة الآن، وعدد سكانها نصف مليون من النفوس.
وأعظم مشاهد أودسا محل يشبه منشية الإسكندرية في شكله ووضعه، وهو إلى جانب البحر ترى منه البواخر الراسية أو السائرة في كل الجهات وقسما عظيما من المدينة، وهو مثابة الكبراء من أهل أدوسا ينتابونه في الليل والنهار، وفيه مطاعم ومواضع للتنزه من كل جانب، ويلي هذا الموضع البهي بناء البورصة والمكتبة العمومية ونادي الأشراف ومركز شركة البواخر الروسية والمرسح الجديد، وغير هذا مما أكتفي بالإشارة إليه، هذا غير الضواحي الجميلة والقرى الكثيرة المحيطة بهذه المدينة، مما قضيت ردحا من الزمن في التفرج عليه إلى أن آن زمان السفر من بلاد الروس فتركتها معجبا بما فيها.
Unknown page