143

Mashāhid al-mamālik

مشاهد الممالك

Genres

وأهل مالطة على الجملة سمر الألوان كالطليانيين، ولكنهم ذوو نخوة وحدة غريبة يتأثرون لأقل ما يمس النفوس، ولهم شهرة بالورع والتدين وكثرة الصلاة، يظهر ذلك من تعدد كنائسهم؛ فإنها لا تقل عن 200 كنيسة في جزيرة لا يزيد أهلها عن 200 ألف، وفيها أيضا 14 ديرا، فكيفما اتجهت لقيت الرهبان والقسوس، وهم يميل أهل الجزيرة إلى محادثتهم ومعاشرتهم، ويدعونهم إلى كل جمعية عائلية، وقل أن يخلو حديث لهم من موضوع الدين كما أنه ليس يخلو منزل لهم من الأيقونات توقد أمامها الشموع، وليس فيهم شخص إلا وهو على اسم أحد القديسين، ولا سيما القديس يوحنا المعمدان، وهم يذهب كل يوحنا منهم إلى كنيسة هذا القديس يوم عيده مع أفراد عائلته، حتى إذا رجع منها توارد عليه المهنئون بهذا العيد، وهي عادة سار عليها معظم النصارى في مصر والشام، وأكبر الإهانات في مالطة أن أحدهم يسب اسم قديس خصمه، وأعظم آيات المجاملة تمجيدا للقديس الذي سمي الرجل باسمه، ويندر أن تمر بضعة أسابيع لا ترى فيها موكبا لأحد القديسين. وقد رأيت مدة إقامتي موكبا يوم عيد السيدة العذراء، فكان جمعا حافلا خرج من الكنيسة وأمامه فريق من القسوس والرهبان يتقدمهم حامل الصليب، وفي أيديهم الشموع والمباخر، ومن ورائهم جموع الناس معهم صورة العذراء صنعت من الجبس وتردت بثوب أزرق، وعلى رأسها إكليل من الذهب، وقد حملوا تلك الصورة على كرسي فوق أكتاف الرجال، وكان أسعد الناس حالا الذين حملوا ذلك الكرسي. ورأيت وراء كرسي السيدة بحرا أسود متلاطما عجاجا من النساء المالطيات، وهن يلبسن فوق ملابسهن نوعا من الإزار الأسود (حبرة) يسمونها فديتا، ومنظرها يقرب من منظر الحبرة المصرية المعروفة، غير أن القسم الأعلى من الفديتا يصنع على شكل مظلة تضعه المرأة فوق رأسها؛ للاستظلال والوقاية من الشمس والمطر، غير أن سيدات مالطة من أهل الطبقة العليا يلبسن الآن ملابس الأوروبيات، وهن مثل الرجال يقل فيهن زرقة العين، وللمالطيات شهرة بالعفة وبراعة في تدبير المنازل، ويقال على الجملة إن مالطة قسم من أوروبا، وإن أهلها لا يختلفون عن الأوروبيين، وكانت إقامتي في هذه الجزيرة خمسة أيام لما انقضت ركبت باخرة إنكليزية وسرت فيها إلى القطر المصري.

وختام القول أني أرى كثيرا من السائحين بين أهل هذا القطر يذهبون كل سنة إلى أوروبا عن طريق مرسيليا ويعودون من هذا الطريق، مع أنهم يمكنهم الرجوع عن طريق الجزائر وتونس فيرون أقطارا عربية يفيدنا الاختلاط بأهلها، ولا يكلفهم ذلك مالا أو زمانا غير القليل، وذلك سهل إذا سافر المرء في باخرة من شركة ترانس أتلانتيك في مرسيليا، وهي يقوم منها كل أسبوع أربع بواخر، أجرة السفر فيها 100 فرنك، والمسافة إلى عاصمة الجزائر 26 ساعة، والسفر منها إلى عاصمة تونس هين بسكة الحديد وبأجرة 100 فرنك أيضا، والمسافة 20 ساعة تقريبا، ومن تونس إلى مالطة بحرا بأجرة 40 فرنكا والمسافة 14 ساعة، ومن مالطة بالبواخر الإنكليزية إلى الإسكندرية ثلاثة أيام والأجرة 125 فرنكا، فالمسافة بين مرسيليا وإسكندرية بهذا الطريق 7 أيام والأجرة 365 فرنكا، ترى نفع هذه الخطة من أن الذين يعودون إلى إسكندرية عن طريق مرسيليا يقضون 5 أيام في البحر ويدفعون 315 فرنكا، فبهذا الفرق - وهو 50 فرنكا ويوما - يرى المسافر بلاد الجزائر وبلاد تونس، ويشاهد كثيرا من جبالها وأنهارها غير العاصمتين، ويرى جزيرة مالطة أيضا وهو فرق صغير لا يذكر في جنب هذا النفع الكبير. وإذا أقام المسافر في كل من العواصم التي ذكرتها أياما كان النفع أظهر وأتم.

ورأيي على المسافر الذي يتبع هذه الخطة أن يجعل سفره في أشهر الخريف، وهو يكفيه 40 أو 50 يوما لكل ما يريد؛ لأنه يذهب من مرسيليا بحرا إلى وهران، وهي ثغر في غرب الجزائر وبعدها 38 ساعة عن مرسيليا، ويسير منها بسكة الحديد إلى تلمسان عند حدود مراكش ومسافتها 5 ساعات، ومن تلمسان إلى عاصمة الجزائر، وهي إلى الشمال على بعد 17 ساعة، ومنها إلى قسنطينة في الجنوب على بعد 15 ساعة، ومنها بسكة الحديد إلى عنابة في الشمال الشرقي على بعد 8 ساعات، ومنها يدخل القطار ولاية تونس ويبلغ عاصمتها في 10 ساعات، فمجموع الساعات 92، وبيان المشاهد في هذه الجهات كلها مبين فيما تقدم من فصول هذا الكتاب.

سورية ولبنان

في السفر من مصر إلى بيروت ولبنان

إن المسافة بين مصر وبيروت يمكن اجتيازها في نحو 24 ساعة؛ إذ يقوم القطار من محطة مصر عند الساعة السابعة صباحا، فيبلغ بورسعيد بعد الظهر بقليل، ومنها يبحر في الساعة الثانية فيصل بيروت صباح الغد، والذاهب إلى بيروت يتجلى له منظر لبنان عن بعد، وقد امتد هذا المنظر من ضفة البحر وظهرت صخوره بألوانها الطبيعية ما بين أحمر وأزرق ورمادي؛ لأن الأشجار في هذا الجبل لا تكسو كل جوانبه، ولا تحجب منظر أرضه وصخره عن الناظرين، مثل أشجار الجبال الأوروبية، وكذلك القرى تظهر للمرء من عرض البحر وقد سطع نور الشمس عليها، مثل عين سعادة والزوق وجوبية وغيرها. وأما بيروت فهي عند سفح هذا الجبل، وقد قامت فوق البحر على شكل هضبة متدرجة الارتفاع من الشاطئ فما فوق، كأنما هي مرسح متدرج الطبقات صعدا (أنفتياتر)، وكل منازلها مشرفة على الماء ومطلة على منظر لبنان، وأحسن ما يكون لرؤية بيروت أن يتأملها المرء من البحر، ولا سيما في الليل حين تسطع أنوار الغاز من منازلها بعضها فوق بعض، ومنازل بيروت جميلة الظاهر فسيحة الغرف كثيرة الطاقات، وكلها بالحجر الرملي الأصفر أو البرتقالي، ومعظم سقوفها بالآجر الأحمر، وكذلك معظم المنازل المستجدة في جبل لبنان. ومن أهم بناياتها المدرسة الكلية لمرسلي الأميركان، وهي مجموع أبنية ضخمة جميلة الشكل في الطرف الغربي من المدينة، ويعرف باسم رأس بيروت، ومنها بناء البنك العثماني الجديد عند شاطئ البحر والثكنة العسكرية بعده بقليل، ومدرسة اليسوعيين ومدرسة الناصرة ومنازل بعض الأكابر من آل سرسق وبسترس وتويني وفريج وغيرهم في الأحياء الشرقية من المدينة، وهي يسكنها معظم الأهالي من المسيحيين وسراي الحكومة في أواسط البلد وغير هذا، مما جعل إمبراطور ألمانيا يقول حين زار بيروت سنة 1898 إن تلك المدينة جوهرة في تاج آل عثمان. وطول مدينة بيروت كيلومتر ونصف، وعرضها ثلاثة كيلومترات ونصف، ومساحتها 4530 كيلومترا، بنيت محل بيريت القديمة، واسمها الحالي محرف من هذا الاسم القديم، وقد تقلبت عليها الأدوار والدول كما تقلبت على بقية مدن سورية وأكثر جهات الشرق القريب، فنكتفي هنا بالقول إن بدوين الأول فتحها سنة 1110 أيام الحروب الصليبية، واسترجعها السلطان صلاح الدين الأيوبي من الإفرنج سنة 1187، ثم وقعت في حوزة آل عثمان على عهد السلطان سليم الأول سنة 1517، وما زالت عاصمة إحدى الولايات العثمانية الكبرى إلى الآن. وتقسم ولايتها إلى أربع متصرفيات، هي عكا ونابلس وطرابلس واللاذقية، ولها أقضية تتبعها رأسا، هي صيدا وصور ومرجعيون، ولكل من المتصرفيات السابق ذكرها أقضية تابعة لها، ففي متصرفية عكا أقضية حيفا والناصرة وصفد وطبرية. وفي متصرفية نابلس، جنين وبني صعب، وفي متصرفية طرابلس، عكاز والحصن وصافيتا، وفي متصرفية اللاذقية، جبلة والمرقب وصهيون، وقد بقيت بيروت ثغرا غير كثير السكان بسبب الحروب والمخاصمات إلى عهد قريب؛ فإن سكانها في سنة 1848 لم يزيدوا عن 25 ألفا، ولم يكن بها منزل خارج سور المدينة، فكانت مثل مصر قبل إنشاء التوفيقية والإسماعيلية وغيرهما من الأحياء المستجدة. ولكن بيروت زادت أهمية وسكانا في النصف الثاني من القرن الأخير حتى إن أهلها الآن لا يقلون عن 120 ألفا، منهم 37500 من المسلمين و36500 من الأرثوذكس، و29000 من الموارنة، و9000 من الروم الكاثوليك، و3000 من اليهود و2000 بروتستانت، و1800 لاتين، و500 سريان كاثوليك، و500 دروز و400 أرمن كاثوليك، و300 أرمن أرثوذكس و200 متاولة، وهو إحصاء تقريبي لم أقف على ما هو أقرب منه إلى الصواب.

ولا بد للذي يريد الذهاب إلى لبنان أن يقيم يوما أو أياما في بيروت؛ ليرى ضواحيها ومتنزهاتها، مثل الفنار وهو على الطرف الغربي الأقصى من المدينة فوق شاطئ البحر، والحرش وهو غابة من شجر الصنوبر عند حدود جبل لبنان، يمكن الوصول إليها بالعربة في مسافة ثلثي الساعة، ولها ضواح أخرى تقوم إليها قطر الحديد خمس مرات كل يوم، وتقف في 13 مثابة منها قريب بعضها من بعض، مثل محطات خط المطرية أو خط حلوان في ضواحي مصر. وأسماء المحطات في بيروت وضواحيها كما يأتي: المدور وبيروت والدورة ونهر الموت والفوار وأنطلياس وضبية ونهر الكلب وعنطورة وصربا وجولية وموقف البيطار والمعاملتين، وأحسن هذه المواضع الضبية ونهر الكلب، يمكن رؤيتهما في يوم واحد، وهما في منتصف الطريق، وقد قمنا إليهما في القطار من محطة المدور، فسار بنا من عند الجمرك يخترق شوارع المدينة حتى إذا بلغ أطرافها جعل يدخل في نفق ويخرج من نفق، وهو جار إلى يمينه بساتين الزرع الشهية وإلى يساره البحر. ولما وصلنا نهر الكلب استرحنا في قهوة وكان من ورائنا جبال صخرية وأمامنا بساتين وأغراس ومن ورائها الرمل والبحر بعده، والمنظر من تلك البقعة له جمال فتان. ومشينا نحو ربع ساعة من ذلك المكان فوصلنا شلال نهر الكلب والحجر المحفور عليه كتابات باللغات المصرية القديمة والآشورية واليونانية والرومانية، وسنعود إلى ذكرها عند الكلام عن أنهر جبل لبنان. وعدنا بعد ذلك في القطار إلى محطة ضبية، وهي أجمل متنزهات الضواحي البيروتية والناس ينتابونها أكثر من كل ناحية أخرى؛ لأنها مجموع غياض حسناء من أشجار الصنوبر والزنزلخت والدلب، تحجب نور الشمس، ويقعد الناس تحت ظلها إلى مقاعد ومناضد كثيرة نثرت في جوانبها. ويتقاطر البيروتيون بعيالهم إلى هذا المكان في أيام الأحد فتزدحم القطرات بهم، وأكثرهم يقضون النهار بطوله هنا، فيأكلون مما تزودوا، أو يطبخون مأكولهم في تلك المثابات، حيث تكثر اللحوم، والسمك يصيدونه ويقلونه في الحال. وقد قسم المكان أرصفة ومراتب صغرى، تختار كل فئة أو عائلة من المتنزهين ما تشاء منها، وتقضي الساعات في قصف وراحة وسماع أصوات المغنين أو أنغام الفونوغراف. قلنا إن هذا المكان فيه شلال وهو يزيد محاسنه الكثيرة وعرض هذا الشلال نحو 12 مترا، يتدفق منه الماء كاللجين، وهو يهبط من علو خمسة أمتار بوجه التقريب، ثم ينساب بين تلك الأغراس والأشجار، ويتفرع في جوانب المكان فيحلو للناس أن يجلسوا فوق المجاري الكثيرة يشنفون السمع بخرير الماء، ويمتعون الطرف بمنظره ويقضون يومهم في هناء حتى يجيء موعد الرجوع إلى بيروت.

جبل لبنان

كان جبل لبنان في سني تاريخه الحديث تابعا لإيالة صيدا حتى سنة 1860 حين حدثت فيه الحرب الأهلية بين المسيحيين والدروز، وتداخلت دول أوروبا الخمس لفض مشاكله، وهي فرنسا وإنكلترا وروسيا والنمسا وبروسيا؛ فاتفقت مع الدولة العلية على أن يمنح لبنان استقلالا إداريا، ويعين له متصرف مسيحي من رعايا الدولة العلية ترشحه الدولة العلية، وتوافق دول أوروبا على تعيينه، واتفقت هذه الدول أيضا على نظام جبل لبنان. ولما تذاكر السفراء عند وضع القانون الأساسي عن تعيين متصرف مسيحي رأت روسيا جواز تعيين متصرف أرثوذكسي، ومن بعد مفاوضات ودية مع فرنسا تم الاتفاق على أن يكون المتصرف كاثوليكيا من غير الطوائف المنتشرة بالجبل، وكان ذلك مراعاة لطائفة الموارنة؛ لأنها الفئة الغالبة من اللبنانيين.

وقد شكل بناء على هذا النظام مجلس الإدارة من سراة الجبل ونواب طوائفه، رئيسه المتصرف، وعدد أعضائه 12، منهم 4 عن الموارنة و3 عن الدروز و2 عن الروم الأرثوذكس، وواحد عن الروم الكاثوليك وواحد عن المسلمين وواحد عن المتاولة. ولهذا المجلس أن يقرر جباية الأموال ويراقب طرق إنفاقها بحيث لا تتجاوز مصروفاته القدر المعين في الميزانية، وهو 7000 كيس أي 35000 ليرا مجيدية، وقد عين حسب هذا النظام إلى الآن سبعة من المتصرفين هم: (1)

Unknown page