سلطنة الفندال
هم القوم المعروفون بالبربر، خرجوا جيوشا جرارة طامية من بلاد البلطيك في شمال أوروبا، وجاءوا بلاد جرمانيا العليا حيث تنصروا على مذهب آريوس، ثم تقدموا للغزو والفتح فشنوا الغارة على فرنسا، أو هي بلاد الغول في سنة 406، وتقدموا منها إلى إسبانيا فملكوها، وكان جندريك أحد ملوكهم فيها هو الذي امتلك ولايات أفريقيا من الرومانيين، وخلفه ابنه جنسريك، وهو ذو شهرة عظيمة بالدهاء وفنون الحرب، أراد أن يستولي على قرطاجة، فسير عليها جيشا عدده 80 ألف رجل مع نسائهم وأولادهم، كانوا من الهمج الفقراء، فلما بلغوا تلك المدائن الرومانية العامرة ورأوا ما فيها من العز والنعم تمادوا في السلب والنهب، وقام ملكهم إلى قرطاجة. ومع أن بونيفاس ذكره بوعده ألا يتعدى الحدود، فإن كلامه راح سدى، واضطر أن يهرب من وجه الملك إلى مدينة هيبون الواقعة على شاطئ البحر، وجاءت في خلال ذلك نجدة من ملك الروم في الآستانة فلم تفد في رد جموع الفندال، وعلى ذلك نزل أهل المدينة في مراكب الروم وهجروها فدخلها الفندال، ولم يبقوا بها حجرا على حجر، وكان ذلك سنة 432. واستبد جنسريك بعد ذلك بالملك، وكان آريوسيا شديد الوطأة على المسيحيين، وحاول مرارا أن يحملهم على اعتناق المذهب الآريوسي، وفتح مدينة قرطاجة بلا عناء كبير في سنة 439، وابتز مال أهلها، وعذب الكثيرين منهم حتى يسلموه ما خبئوا من الأموال والكنوز. وكان هذا الملك الفندالي شديد الاهتمام للعفاف والصيانة فشدد الوطأة على كل متزوج بغير الطرق الشرعية، ومنع الحفلات الدينية في الشوارع، وكان على الجملة رجلا عظيما قويا مخالفا لأكثر أهل النصرانية فيما يعتقدون.
وظل جنسريك يطمع بتوسيع الملك، حتى إنه قام إلى صقلية واستولى عليها؛ فذعر أهل رومية والقسطنطينية من انتصاره، وتحالف الإمبراطوران عليه، فأرسل الإمبراطور ثيودوسيوس جيشا عدده 30 ألفا من الآستانة في سنة 491، أخذهم جنسريك بالحيلة، ووهمهم أنه أرسل وفدا إلى إمبراطورهم بطلب الصلح، وكان في الحقيقة قد أرسل جيشا للسطو على ثغور بلادهم، فلما اتضحت الحقيقة اضطر الجيش الرومي إلى الرجوع؛ ليحافظ على بلاده، فبقيت صقلية لملك الفندال، وهو أعد فيها أسطولا قويا وجيشا عظيما للاستيلاء على رومية، وساعده اختلال أحوالها وسوء تصرف الإمبراطور على مراده؛ لأن الإمبراطور فالنتين المذكور كان قد أتى أمرا معيبا مع زوجة واحد من أعضاء السناتو فقتله العضو المذكور، وأكره الإمبراطورة على الاقتران به، وأصبح صاحب السلطان، ولكن الإمبراطورة انتقمت منه بمخابرة ملك الفندال سرا حتى إذا جاء بجيشه استولى على عاصمة العالم القديم بلا قتال ولا عناد كبير، ثم أمر بنهبها وإحراقها، وجمع النفائس والغوالي من كنائسها وقصورها ومتاحفها وعاد بها إلى قرطاجة، ومعه الإمبراطورة وبنتاها في جملة الأسرى، فلما بلغ عاصمته عفا عن الإمبراطورة وإحدى البنتين، وأرسلهما إلى الآستانة، وزوج الثانية لابنه أوتريك.
وقد كان لاستيلاء الفندال على رومية تأثير عظيم ألقى الرعب في القلوب، حتى خاف أهل القسطنطينية أن يأتي دورهم، ولا سيما بعد أن استولى جنسريك على جزر صقلية وسردينيا وكورسيكا، وسير أسطولا هاجم بعض مدن آسيا الصغرى، فهب ليون إمبراطور الروم للدفاع، وأرسل أسطولا فيه مائة ألف محارب تحت قيادة أحد أعوانه يدعى باسيليكوس، وأمر جيشا بريا أن يقوم من مصر لمعاونة الأسطول على محاربة الفندال، فوصل الأسطول إلى ثغر بوتا (عنابة)، ورسا فيه، وكاد يقضي على الأعداء ، ولكن جنسريك عاد إلى الحيلة ولاطف رجال هذا الأسطول، وأولم الولائم لهم، وقرب مراكبه من مراكبهم، وأوهم القوم أنه ذاهب إلى القسطنطينية بنفسه ليتفق مع إمبراطورهم حتى إذا أنسوا بلطفه دس بين مراكبهم صنادل مملوءة بالمواد الملتهبة ليلا، وتنحت مراكبه بعد إضرام النار في الصنادل فاحترق معظم الأسطول الرومي، واضطرت البقية إلى الفرار، ورجع القائد باسيليكوس إلى القسطنطينية، وقد خاف من غضب الإمبراطور، فلجأ إلى كنيسة آيا صوفيا. وكان الجيش الرومي يتقدم من البر حتى إذا قرب من العدو علم بما أصاب الأسطول، وكان فيه معظم القوة، فأركن إلى الفرار وعاد إلى مصر سنة 467، وخلا الجو لملك الفندال حتى اضطر ملك الروم أن يعترف به سلطانا لرومية والغرب على شرط أن يحترم دين المسيح. وتوفي جنسريك سنة 477 في قرطاجة، وهو في أوج عزه ومجده، وترك سلطنته لابنه أوتريك.
وقد بدأ الضعف يظهر في سلطنة الفندال حالما توفي جنسريك الفاتح؛ لأن ابنه أوتريك انغمس في الرذائل، وزاد في الجور والظلم وقتل ألوفا من الناس في جملتهم المطران الآريوسي الذي احتج على مظالمه. وظل خلفاء جنسريك في جور وبطر وإسراف إلى أن كانت أيام الإمبراطور يوستنيانوس في القسطنطينية، واستغاث به بعض المسيحيين من حكومة الفندال، فعقد مجلسا من أكابر دولته، كان أكثرهم على ترك الحرب خوفا من شدة الفندال وبأسهم، ولكن قائدا اسمه بلزاروس خالف الباقين وأثبت لهم أن القوم الفندال أضاعوا بسالتهم السابقة وانغمسوا في الملذات فصار الانتصار عليهم مضمونا؛ ولذلك أقروا العمل برأي القائد بلزاروس وإشهار الحرب، وأعد جيش وأسطول عدد سفنه 500 ورجاله 20 ألفا تحت أمر هذا القائد، وسار وراءه أسطول آخر فيه 100 مركب و2000 شاب من المتطوعين في سنة 533، وهي السنة السابعة من حكم الإمبراطور يوستنيانوس، ووصلت هذه السفن جزيرة صقلية بعد ثلاثة أشهر، ثم انتقلت إلى شطوط أفريقيا على مقربة من ثغر قرطاجة، فهب ملك الفندال للدفاع واسمه يومئذ جيلمر.
وكان بلزاروس شديد الوطأة على المعتدين من جنوده، لا يسمح لهم بالاعتداء على الأهالي حتى أمال الأهالي إليه ، فلما دارت رحى الحرب كسرت فيالق الفندال وهرب ملكهم إلى هبون فحاصر فيها. وتقدم بلزاروس بعد هذا الانتصار على قرطاجة فقابله أهلها بسرور عظيم؛ لأنهم كانوا قد ملوا جور الفندال، فدخلها بأبهة كبرى، وأقام في قصر ملوك الفندال، وذهب إلى كنيستها فصلى مع المسيحيين من أهلها وهم في طرب عظيم ثم، اهتم لتحصين قرطاجة فأشغل جيشه وجيشا من الأهالي مدة شهر في البناء والحفر والتحصين استعدادا لهجمات الفندال، وكان ملكهم قد بدأ يستعد الزحف عليه، واستدعى أخا له من سردينيا ؛ ليعاونه على حشد الجيوش وقيادتها، فلما بلغت جنودهما قرطاجة قام بلزاروس لمقابلة أعدائه ونشبت حرب عنيفة قتل فيها أخو ملك الفندال، وظهر الضعف في جيشه حتى إنه لزم الفرار وترك قناطير مقنطرة من النفائس والتحف والذخائر غنيمة باردة للروم، وكان أكثر هذه الغنائم أصله من رومية، فأخذها القائد الرومي وعاد بها إلى الآستانة. فلما سمع به الإمبراطور يوستنيانوس فرح فرحا عظيما واهتزت جوانب القسطنطينية طربا، ولكن الدسائس بدأت على القائد الفاتح حسب العادة، وجعل الخصوم يتهمونه بالعمل على امتلاك أفريقيا، وباختلاس الجواهر والنفائس التي لا تعد من غنائم حربه مع الفندال، غير أن بلزاروس لم يحفل بهذه المساعي، بل دأب على إتمام حربه مع الفندال حتى لا يبقى لسلطانهم أثر، وعلم أن ملكهم جيلمر فر إلى جبل أدوغ (سنذكره في فصل السياحة)، فأرسل وراءه قائدا اسمه فاروس حاصره في ذلك الجبل مع أصحابه وهم في فقر وضنك شديد.
وتقدم بلزاروس بعد ذلك على بقية الولايات الأفريقية ففتحها بلا مقاومة، وفي جملتها إقليم طرابلس، وهو آخر ملك الروم في شمال أفريقيا، واستولت مراكبه على جزر البحر أيضا، فما بقي غير الملك في جبل أدوغ، إلا أن هذا الملك المنكود الحظ اشتد الفقر عليه، وقيل إنه رأى ابن أخيه يوما يخاصم أحد أولاد القرويين الفقراء على لقمة من خبز الشعير فحزن لهذه الحالة وبكى، ثم أرسل يعلم القائد الرومي بعزمه على التسليم لبلزاروس القائد العام على شرط أن يحسن معاملته، وبذلك انتهى أمر هذا الملك وأخذ أسيرا إلى قرطاجة حيث قابله بلزاروس وفرح بتسليمة وأخذه معه إلى الآستانة، فأكرمه الإمبراطور وعين له راتبا وأسكنه في قصر، وبذلك دالت دولة الفندال بعد كل تلك القوة وحلت محلها دولة الروم في ولايات أفريقيا. وقد احتفل ملك الروم وشعبه بهذا الانتصار احتفالا عظيما، وأتوا بملك الفندال لابسا حلته الأرجوانية، فأمروه أن يركع أمام يوستنيانوس وزينت المدينة كلها في المساء. وفي الغد سار القائد المنصور في الشوارع حسب عادتهم، تحيط به الزينات وآيات النصر والطرب، وكان ملك الفندال سائرا وراء الفاتح الذي جعل ينثر الذهب والفضة على الجموع، وانقضت سلالة جنسريك بموت جيلمر.
سلطنة الروم والبيزانس
لما استتب الأمر لدولة الروم في أفريقيا، تقرر في مجلس القسطنطينية أن يعين لها وال عام، فوقع الانتخاب على صالومون لهذا المنصب، وهو قائد محنك يحبه الشعب، وذهب هذا الوالي الجديد إلى محل عمله فوجد حال وصوله أن الأسقفيات المسيحية نقصت في الأقاليم السبعة (ما بين طنجة وطرابلس) إلى 210 بعد أن كانت 690 أسقفية، وأن الأهالي جعلوا يظهرون العدوان والتمرد، وأنهم اعتدوا في كثير من المواضع حتى تقدموا لحد أبواب قرطاجة، فأرسل إلى زعمائهم يذكرهم بإنصاف بلزاروس ونعمه لهم، ويقول إنهم إذا ظلوا على العدوان كانت آخرتهم مثل آخرة الفندال. وكان جوابهم شديدا، حتى إنه اضطر أن يقوم لمحاربتهم بعد أن خطب في عساكره وحضهم على حسن البلاء. والتقى صالومون بالأهالي العصاة على مقربة من أحد الجبال، ومعهم ألوف من الجمال صفوها اثنين اثنين على شكل مربع؛ لتكون سورا يقيهم سلاح الروم، وكان مع العصاة عدة من النساء يساعدن في العمل ويداوين الجرحى، فلما دار القتال تمكن الروم من اختراق مربع الثائرين، ودخلوا معسكرهم فقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، وقتل من الروم ألفان. وفي الليل تراجع الفريقان وفر العصاة إلى الجبل، عادة الأهالي في هذا القطر في كل حروبهم القديمة والحديثة، يعتصمون بالجبال أو يلجئون إلى القفار حين يشتد عليهم أمر العدو. فلما كان الغد عاد القتال على غير جدوى، فاهتم صالومون للأمر واختار ألفين من أشد رجاله؛ ليتسلقوا الجبل في الليل ويدخلوا معسكر الأعداء، وأوصاهم بالحذر حتى إذا كان الليل دخلوا حسب أمره، وانسلوا بين العصاة، فلما دنت ساعة الفجر هبوا يقتلون العصاة من كل جانب حتى أهلكوا عشرة آلاف منهم، وأسروا أكثر من هذا العدد، وعادوا إلى قرطاجة بالأسرى فباعوهم بأرخص الأثمان.
على أن هذه الثورة ما كادت تخمد حتى ظهر روح الشر من جديد بين الأهالي، وقام صالومون للقتال مرة أخرى، فتمكن الآريوسيون في غيابه عن المدينة من إغراء حاميتها الرومية على التمرد، فاختل نظام الجنود وقاموا يعيثون فسادا في أحياء المدينة، وعم السلب والاعتداء حتى اضطر الوالي حين بلغه الخبر أن يترك الأعداء، ويعود إلى المدينة، ولكنه رأى أنهم ينوون الإيقاع به، فتركهم وعاد إلى الآستانة سنة 537. ولما عرف الإمبراطور يوستنيانوس بهذه الحالة عين ابن أخيه جرمانوس ليصلح الحال؛ فذهب هذا الأمير بمفرده إلى قرطاجة، ولما بلغها ألقى في الجنود خطابا بليغا ردهم فيه إلى الطاعة، وأعادهم إلى الأمانة للإمبراطور. وكان الأمير زكيا حازما فأبطل المظالم والمغارم ودفع الرواتب المتأخرة إلى الجنود، وشدد في معاقبة المعتدين وكافأ الأمناء والمجدين، فرتعت البلاد في بحبوبة الأمن، ولكن الإمبراطورة تيودورة - وهي زوجة يوستنيانوس - كانت تكره جرمانوس، فظلت على الوشاية به إلى عمه حتى عزله، وأعاد صالومون للولاية مرة أخرى سنة 589، فلما عاد الرجل إلى قرطاجة رأى أن أحوالها متحسنة، فأرسل وراء ولدي أخيه، وهما سيروس وسرجيوس، ولى الأول إقليم قسنطينة والثاني إقليم طرابلس، وكان الشابان بلا مقدرة ولا ذكاء، أهملا شئون الحكومة ارتكانا على صولة عمهما الوالي العام. وحدث أن زعماء القبائل في ولاية سرجيوس جاءوا لمقابلته؛ لينالوا الخلعة، وهم يثمنونها كثيرا، فأكرمهم الشاب ودعاهم إلى مائدته، ولكنه غدر بهم وأمر بقتلهم بعد الطعام، وهم 80 شيخا وزعيما، فما نجا منهم غير واحد دار في البلاد يحدث أهلها بخيانة سرجيوس حتى هيج الأهالي كلهم عليه، فقاموا يدا واحدة لطلب الانتقام من الحاكم الخائن؛ ففر سرجيوس إلى قرطاجة وتبعته جموع الثائرين حتى إذا قربت منها بعث صالومون يطلب الزعماء ليكلمهم في الصلح، فقالوا إنهم لا يثقون بوعد الروم وأيمانهم، وأنهم لا يصدقون صالومون إلا إذا عاقب ابن أخيه أولا على تلك الخيانة الكبرى. وعلى هذا دار القتال بين الفريقين، وكان فيه النصر للأهالي، وقد كبا الجواد بصالومون في وسط المعركة، فوقع بين الأعداء ومات مقتولا.
Unknown page