Mashahid Mamalik

Idwar Ilyas d. 1341 AH
112

Mashahid Mamalik

مشاهد الممالك

Genres

ومن أجمل ما جادت به القرائح وولدته علوم المهندسين في هذا المعرض قرية سويسرية خطر لاثنين من أهل مدينة جنيف أن يشيداها في أرض المعرض وساعدتهما حكومة سويسرا على إتمام هذا الاقتراح البديع؛ لأنه كان بمثابة إعلان لمحاسن سويسرا المشهورة يشوق الناس إلى زيارة تلك البلاد وزيادة عدد السائحين، وبالتالي زيادة الأرباح لحكومة سويسرا وأهلها مما ينفق أولئك السائحون، وهو نظر أولي الحصافة ورجال التدبير وشأن كل حكومة ساهرة على مصلحة البلاد. وقد تم بناء هذه القرية على أبدع منوال، فجاءت مثالا ساحرا لما في بلاد سويسرا من السهول والأودية والجبال والبحيرات والشلالات والبيوت، وكانت القرية السويسرية في المعرض كأنها قطعة حقيقية من أرض سويسرا، تسرح الأبقار الضليعة والماشية في مراعيها، وتمرح الصبية والفلاحون في ربوعها، وتنحدر المياه العذبة من شلالها، حتى إن الناظر لا يميز بينها وبين قرى سويسرا المشهورة بجمال مناظرها البهية، وآيات محاسنها الطبيعية التي ذاعت أخبارها في الخافقين. وقد صنعوا المراعي وجاءوا لها بالبقر والغنم والماعز ترعى فيها على الطريقة الطبيعية، وأتوا بالفلاحين عيالا وبيوتا برمتها من أهل سويسرا أقاموا في تلك القرية الصناعية كأنهم في الوطن المحبوب، وأنشئوا معملا للجبن على أشكاله مما يصنع في قرى سويسرا، ومحلا لبيع اللبن الشهي يغني فيه ثلاثة من رعاة سويسرا أغاني بلادهم الجبلية، وبيتا يمثل البيت الذي بات فيه نابوليون العظيم في حملته المشهورة على إيطاليا عن طريق جبال الألب في سنة 1800، وأنشئوا أيضا محلا لمصارعة الرعاة السويسريين على طريقة بلادهم، وكثيرا من المناظر التي يمكن أن يتصورها ذهن القارئ إذا رجع إلى الفصول السابقة عن هذه البلاد. وفي طرف هذه القرية مثال من جبال الألب جاءوا لها بحجارة صنعت على مثال صخور الألب ولونها ، ورصعوها بالزرع والنبت مما نما في سويسرا نفسها، ونقلوه بترابه في البراميل وأوجدوا نوعا من الشلال ينصب ماؤه من قمة الجبل إلى واد بديع المنظر، وكان في ذلك الجبل مثال من مراعي سويسرا الخصيبة وبقولها الخضلة وماشيتها الضليعة وحرجة من الشجر، وغير هذا مما بلغت نفقاته أكثر من مليون فرنك، وكان في جملة المشاهد المعدودة بين غرائب المعرض الكبير.

قصر الأزياء:

كان المعرض على وجه الجملة ممثلا للبشر في حالتهم الحديثة يوم إنشائه، وفي الحالات السابقة أيضا، فهو أعظم مدرسة نشأت في الأرض للعلم بأمور الإنسان في جميع الأزمان؛ ولهذا أوجدوا بين أجزائه جزءا يعرف بقصر الأزياء جمعوا فيه نصبا وتماثيل للرجال والنساء من أهل كل عصر وملة، وألبسوا تلك النصب ملابس الأمم المختلفة حسب أزيائها في كل من العصور المشهورة حتى إذا دخل الزائر رأى البشر أمام عينه من قرون وأجيال على أشكالهم، كأنما هو ساح الأرض في زمانه وفي زمان الأقدمين معا بزيارة هذا المعرض العظيم، وقد نسقوا تلك الأزياء حسب أجناس أصحابها ووضعوا كل فئة في غرف فرشوها برياش يشبه رياش الأيام التي وجدت فيها تلك الأزياء، وأكثر ما عرضوا في هذه الغرف أزياء النساء ما خلا قليل منها، مثل نابوليون الكبير بزيه وشكله الطبيعي، وهنري الرابع ملك فرنسا وغيرهما. وكان في الدور الأول من هذا القصر غرفة للأزياء المصرية القديمة على يمين القادم طليت بالألوان المصرية، وفيها امرأة تردت بثوب رقيق يتلاءم بهواء مصر وحرها، وشكلها مصري من النوع القديم المعروف، وقد جعلت تحدق بحاو أمامها يقلب الحيات بين يديه والثعابين، وتجاه الغرفة المصرية غرفة لأزياء الرومانيين القدماء، وفيها النساء الرومانيات بجلابيبهن الضافية وشعرهن المعقوص وشكلهن البديع، وقد وجهن الأنظار إلى خطيب يلقي عليهن القول البليغ على عادة الرومانيين القدماء. وفي الدور الأعلى قاعة للأزياء الرومية على عهد مملكة القسطنطينية، وفيها مثال ملكة من ملكات القسطنطينية بملابسها الفاخرة تستقبل الضيوف من السيدات، وهن بأزياء ذلك العصر المشهور بكثرة الزخارف الألوان. ويلي ذلك أزياء الفرنسيس أنفسهم في العصور الماضية كلها، وأمثلة من شهيرات النساء في هذه العصور بملابس أزمانهن، ومن أشهرهن جوزفين زوجة نابوليون الأولى، مثلوها هنا بثوب التتويج، وهي تخيط سلعة وأمامها قرينها يتأمل ويفكر، وملابسها فاخرة نفيسة أكثرها بيضاء موشاة بالذهب رسوما تشبه النحل، وعلى كميها صفوف من الألماس، وثمن هذا الرداء عشرة آلاف فرنك، وكان فوقه رداء آخر من القطيفة الحمراء مبطن بفرو غالي الثمن من روسيا قيمته مائة ألف فرنك، وقيمة تطريزه بالذهب 16800 فرنك، وحذاؤها قطيفة بيضاء مطرز بالذهب أيضا. وقس على هذا بقية الأزياء في كل أدوار التاريخ الفرنسوي حتى أيام المعرض، والمقام ضيق عن الإسهاب في وصفها والتطويل.

مثال البندقية:

وقد صنعوا مثالا في المعرض لمدينة البندقية في إيطاليا، فأنشئوا الترع وفيها الزوارق الخاصة بتلك المدينة الحسناء (جوندولا)، وأقاموا من حول هذه الترع أبنية وشوارع كأنها البندقية نفسها، مثل قصر الدوجات، أو هم الحكام القدماء لتلك المدينة، وكنيسة مار مرقص والميدان الفسيح الكائن أمامها، وحوانيت شتى يباع فيها الزجاج الملون آنية مختلفة الأنواع من صنع المعامل المشهورة في البندقية، وكان بعض الصناع يصنعون شيئا من هذه الآنية في الحوانيت المذكورة على مرأى من الزائرين.

بعض الغرائب:

ومن هذا القبيل أنهم صنعوا كرة طول قطرها 46 مترا، جعلوها على شكل الكرة الأرضية ومن حولها القمر والكواكب تدور في أفلاكها وحول محورها الدورات المعلومة، وكل ذلك بواسطة آلات، مثل آلات الساعات، وصنعوا أيضا نظارة عظيمة مقربة للأشباح كانوا يرقبون القمر بها ويرونه كأنه على مقربة من الناظرين، وهنالك قاعة القلب ملأوها بالمرائي التي تعكس المنظر مقلوبا، أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فكنت ترى كل شيء في هذه الغرفة مقلوبا حتى الأشخاص، أرجلهم من فوق ورءوسهم من تحت، يرون ذلك ويخرجون ضاحكين مقهقهين. وقاعة الرقص كان فيها جماعات شتى من الراقصين والراقصات على كل الأنواع، منها الرقص القديم لليونان والرومان والمصريين والعرب والصينيين، وهؤلاء كانوا إذا انتهى دورهم بالرقص أبدوا للحاضرين التحية على طريقتهم؛ أي إنهم يركعون ويقبلون الأرض وينصرفون، خلافا للغربيين الذين يكتفون بالانحناء المعلوم . ومن هذا القبيل أيضا صورة السفر حول الأرض في مكان جمعوا فيه رسوم الأقطار، وكانت المناظر المتتابعة تمر أمام الرائي من داخل نظارات متوالية تمثل جهات الأرض، كان الرائي متنقل بنفسه يرى مختلف الديار، مثل مرسيليا تمر أمامه بمينائها، وما فيها من بواخر التجار، وطولون في مائها البارجات الحربية وعدن وبومباي ونيويورك، وغير هذا يتمثل أمام المتفرج على أهون سبيل. ومن هذا أيضا معرض الفواكه والخمور جمعوا فيه خمورا وأثمارا من كل الأقطار، حتى إني رأيت رابية فيه من تفاح أستراخان في بلاد الروس. وكان هذا المعرض كبيرا وله سقف مرتفع من الزجاج، وفيه لكل مملكة قسم تعرض فيه أهم الخمور التي تصنع في تلك المملكة، مثل الوسكي لإنكلترا والنبيذ الحلو لإسبانيا، والبيرا للنمسا والشمبانيا والكونياك لفرنسا، وهم يعرضون عليك خمورهم هنا ويقدمون منها مثالا ويعطونك جداول بما عندهم وأثمانها ترويجا لبضائعهم على عادة التجار الغربيين.

المعرض في الليل:

إذا كان المعرض مجموع غرائب وبدائع في النهار، فإنه كان آية البهاء في الليل وفتنة للأنظار، وإن أنواره المتلونة التي لا تعد كانت عجيبة ساحرة للأفكار، ما رأى الراءون أبهى منها ولا أحسن في جميع الأقطار، كانوا إذا غابت الشمس وأرخى الليل سدوله يعوضون عن أم الأنوار بألوف وعشرات الألوف من المصابيح الكهربائية في كل موضع من جوانب المعرض، وقد نسقوا هذه الأنوار على طرق بلغت غاية ما تروم النفوس من الجمال الفتان حتى إنك إذا تنقلت بين هاتيك الصروح المنيفة والآثار المرصوفة والنفائس الحسناء والحرجات الغضيضة الفيحاء والطرق الباهرة الغناء، وجدت الكل في حلل من الأنوار التي تعشقها العين والنفس، وقد تفاوتت ألوانها وتبدلت من حين إلى حين تتبدى لك المناظر من دونها صورا متغيرة من عالم الغيب، فما أنت إلا في أرض مسحورة تتجلى لك الغرائب فيها من حيث لا تدري، وتنطبع في ذهنك من هاتيك الآيات البينات صور ورسوم لم تخطر لك من قبل في بال، وليس ينسيها مرور الأعوام عليك والأحوال.

كان برج إيفل غريبة من غرائب الدهر في الليل؛ لأنك إذا رأيته في النهار حسبته طودا من الحديد، وأما في الليل فإنه كان قطعة من الذهب الوضاح رصعت بالجوهر الوهاج؛ لأنهم مدوا الأسلاك الكهربائية وأوصلوها بالمصابيح الملونة في جميع أجزائه من أسفله إلى قمته الباسقة على علو 300 متر عن سطح الأرض، فكانت تلك الأنوار تتألق وتسطع كأنها الكواكب في كبد السماء، وكذلك البوابة الأثرية أبدعوا وأجادوا في تنسيق مصابيحها الملونة وعددها 3000 نور، وقنطرة إسكندر الثالث زينوها بنحو 1200 نور، وفعلوا مثل ذلك في كل صرح وحرجة وبركة وطريق، فما كنت ترى في الليل إلا أنوارا وراء أنوار ترتاح إليها نفسك ويعجز عن وصف بهائها اللسان.

Unknown page