صور من المخطوطات التي اعتمدناها في تحقيق الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة قَالَ العبدُ الفقيرُ إلى الله تعالى: مرعي بن يوَسُف الحنْبليُّ المَقْدسي: الحمدُ لله الذي تفضَّلَ ووَهبَ، وأبعدَ مَنْ شاءَ وَقَرَّبَ، يخلقُ ما يشاءُ ويختار ما كانَ لَهُمُ الخِيرَة، وإنَّا لَنَعْجبُ، ولمْ ندرِ ما الحكمة والسبب.
والصلاةُ والسَلامُ على المبعوَثِ من خير بني آدم، وأشرفِ قبائل العَرَبِ، وعلى آله وأصحابهِ الحائزين أعْلَى الرتَبِ، والجائزين على بَحْرِ البلاغَةِ والأدبِ.
وبعد: فهذهِ مسائل تُستعذب، ودلائلً تُستغربُ، تتعلقُ بفضلِ العَرب وما حازُوهُ من شرفِ النَسب والحسَب، وَسَمَيْتُهُ (مَسْبُوك الذَّهبِ، في فَضْلِ العربِ، وشرف العلم على شرف الَنسب) فأَقوَل - وعلى الله اعتمد، ومن فضله استمد -:
مقدمة
اعلم أرشدك الله أن العُربَ - بالضمِّ وبالتحْرِيكِ - خِلاف العَجَمِ. والعُجمُ - بالضمِّ والتحريكِ - خِلافُ العرب من أيِّ جنسٍ كان، من تُرْك ورُومٍ وهنْدٍ وبربَرٍ وَزنْجً.
والعرَبُ العارِبةُ والعرَبُ العرْبَاء الخُلَّصُ منهم، وعَرَبٌ مُتعَربَةٌ ومُسْتَعْربة
1 / 29
دُخَلاءُ بينهُمْ (ويقال العرب العاربة هم الذين تكلموا بلسان يعرب بن قحطان، وهو اللسان القديم، والعرب المستعربة هم الذين تكلموَا بلسان إسماعيل. وهي لغَة أهل الحجاز وما والاها من البادية) .
قالَ في القَامُوسِ: والعرَبُ سكان الأمْصَارِ. والأعْرَابُ منهم سكان البادِيَةِ. وكلام النَحاةِ يخالف كلام القاموَس، فإنهم قالوا: أبَى سيبويه أنْ يجعل الأعراب جمع عرب لأنْ الجمع أعمّ من المفرد، والعرب يعم الحاضرين والبادين. والأعراب خاص بالبادينْ قيل: بل الأعراب جمع عربي.
وقيل: اسم جنس جمعي لا واحد له من لفظه يفرق بينه وبين واحده بياء النسَبِ، مثل روم ورومي، وزنج وزنجي. وهذا أظهر.
وَاعْلَمْ أن العرَبَ موجودة مِنْ قَبل إسماعيل لإبراهيم، فإنَّ الله تعالى قد بعثَ إليهم قبل إسماعيل هُودًا وصَالِحًا ﵉. وما قيل مِنْ أن إسماعيل أبوَ العربِ فلعل المراد أشرف العرب، أو غالب العرب.
ثم رأيت في حديث الترمذي وَحَسنَهُ عن النبي (قالَ: (سَامٌ أبو العَرَبِ، وَحَامٌ أبو الحبَشِ، وَيافِثٌ أبو الروم) .
1 / 30
ورأيت صاحب (تاريخ الخميس) ذكر ما حاصله: أن أبناء نوح ﵇ ثلاثة: سام وهوَ أبوَ العَرَب، وفَارِس، والروم.
ويافث وهو أبو التُرك، ويأجوَج ومأجوج: (والخَز) والصقالبة.
وحام وهوَ أبو السوَدان من الحبشة والزنج والقبط والأفرنج.
قال: ومن أولاد سام عراق وكرمان وخُراسان وفارس وروم، وباسْمِ كل واحدٍ سُمَّيَتْ المملكة التي حلّ بها.
قال: وأما ولد ارم بن سام بن نوح فإنهم احتقروا الناس بما أنعم الله عليهم من القوة والبَطْش واللسانِ العَرَبي، وكانوَا سبعة إخوة، وهم: عاد - وكانَ أعَظمَهُم قوَةِ وبطشًا -، وثموَد، وصحار، ووبار، وطسم، وجديس، وجاسِم، وهؤلاء كلهم تفرقوا بجزيرةِ العرب، وهم العربُ السالفة الأولى الذينَ انقرض غَالبُهُم.
1 / 31
قال: وقد فَهَمَ الله العربيةَ لِعمْلِيق، وَطَسْم، وعاد، وعبيل، وثمود، وجَدِيس.
وقال صاحب (تاريخ الملوك التبابعة وملوك حِمْيَر ": إنَ هُودًا ﵇ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوَح هو أبوَ العرب العاربة. وإنَّ ابنَهُ قحطان هوَ ولي عهده قد لزم طريقتَهُ، واقتدى بها وأن يعْرُبَ بنَ قحطان بن هود هوَ أول مَنْ ألْهمَهُ الله - تعالى - العربيةَ المحْضَةَ، وَقَالَ فَأبْلغَ، وَاخْتصَرَ فَأوْجزَ، وأشتقَّ اسم العربية من اسمه. وأنَّ يشجب بن يعرب قام مقامَهُ في النهي والأمر وحاز اليمن والحجاز، وأنَ سبأ بنَ يشجب كان ملكًا عظيمًا، وهو أولُ مَنْ سبَى السَبي. غزا ملوَك بابل وفارس والروم والشام حتى أتى المغرب، ثمَّ رجع إلى اليمن فبنى السَّدَ الذي ذكرَهُ الله - تعالى - واسمه العَرِم، وقسم المُلْكَ بين ولديه حمير وكهلانِ.
1 / 32
وَاعْلَم أنَ آدم ﵇ هو أول مَنْ تكلَّم بالعربيةِ. بل بالألسنة كلِّها بجميع لُغاتِها، وعلَّمَها أولادَهُ، فَلما افترقوا في البلادِ وكثروا اقتصرَ كلُ قوَمٍ على لغة. وما روي: أولُ مَنْ تَكَلَّمَ بالعربيةِ إسماعيلُ، أو يعربُ بنُ قحطانِ فالمراد مِنْ ولدِ إبراهيمَ، أو من قبيلتهِ، وعلى هذا فالظاهرُ أنَّ لغَةَ العرب قديمةٌ، بل وسائر اللغات. وأنً مَنْ كانِ يتكلمُ بالعربيةِ من بني آدم قبل الطوَفان فهَم العرَبُ، أو أن العُرْبَ والعُجْمَ والرُّومَ والتُركَ والحبَشَ أوصاف حادثة بعد الطوَفانَّ، وأنَّهُ كانت للنَّاس أوصافٌ وأجناس أُخر قبل الطوفان نُسخَتْ ونُسيَتْ، فإن الطُوَفان عم أهْلَ الأرض جميعًا بحيثُ لم يبقَ على وجهِ الأرضِ أحدٌ.
ونوح ﵇ هو الأبُ الثاني للبشر قال تعالى: (وَجَعَلنَا ذُريَّتَهُ هُمُ البَاقِين) ثم تناسلوا وكثروا وتكلموَا باللغات كلها إما بإلهام من الله - تعالى - كما مر، أو بتلقيها من نوح ﵇، وتلقاها أولاده عنه، هذا محل تردد، ولم أر في ذلك نقلًا. والأقرب تلقيها من نوح ﵇ فإنَ اللغة لا يحيط بها
1 / 33
إلا ملك أو نبي.
واعلم أنَ الأعراب في الأصل اسم لسكان بادية أرض العرب، فإن كل أمةٍ لها حاضرة وباديةٌ، فباديةُ العرب الأعراب، وبادية الروم الأرمن، وبادية الترك التركمان، وبادية الفرس الأكراد.
وأرض العرب هي: جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم شرقي مصر إلى بحر البصرة، ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام.
وقال أبو عبيد: جزيرة العرب من عدن إلى ريف العراق طولًا، ومن تهامة - بكسر التاء - إلى ما وراءها، إلى أطراف الشام. وسميت جزيرة لأن بحر فارس، وبحر الحبش، ودجلة والفُرات قد أحاطت بها.
1 / 34
إذا تقرَّر هذا فاعلم أنَّ جنس العرب أفضل من جنس العجم، كما أن جنس الرجل أفضل من جنس المرأة، وأمَّا باعتبار ألأفراد أو أشخاص، فقد يوجد من النَساء ما هو أفضل من ألوفٍ من الرجال كمريم وفاطمة وعائشة. وقد يوَجد من العجم ما هوَ أفضلُ من ألوفٍ من العرب كصهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي وغيرهم فإنَ كل واحدٍ منهم أفضلُ من ألوَفٍ من العرب بل أفضلُ من ألوفٍ من قريشٍ وبني العبًاس والأشرافْ ويصحُ أن نقوَل: إنَ كل واحدٍ من مثل سلمان وبلال وصهيب لصحبة رسول الله - (- أفضلُ من جعفر الصادق وموسى الكاظم، وأفضلُ من أبي حنيفة ومالك والشافعي واحمد.
وهل يصح أن يُقال إن الواحد من الصحابة أفضلُ من جميع أمة محمد من غير الصحابة المشتملة على الأقطاب والأنجاب والأبدال والعلماء والشهداء والأولياء؟ الظاهر صحة ذلك وإن كان العق يأبى ذلك ويستبعده. لا سيما في الهيئة الاجتماعية من الفضل والقوة غاية المزية فليتامل.
والدليل على فضل العرب من وجهين، من المنقوَل والمعقوَل:
1 / 35
امَا النَّقل: فقد روى الطَبرانيُّ والبيهقيُ وأبو نعيمٍ (والحاكم) عن ابن عمر - رض الله عنه - قال: قال رسوَلُ الله (: (إنَّ الله - تعالى - خلقَ الخلقَ، فاختارَ من الخلقِ بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مُضر، واختار من مُضر قُريشًا، واختار من قريشٍ بني هاشمٍ، وَاختارني من بني هاشم، فأنا خيارٌ من خيارٍ، فمن أحبً العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم) .
فهذا النَّقلُ صريح في فضل العرب على العجم، وصريح في فضل جنس بني آدم على (جنس) الملائكة، خلافًا للمُعتزلة ومن وافقهم.
وروى الترمذيُّ أيضًا وحسَنه من حديث العبًاس - رض الله عنه - أنِ النبيَّ - (- قال: (إنَ الله خلقَ الخلقَ فجعلني في خير فرقهم، ثمَّ خير القبائل
1 / 36
فجعلني في خير قبيلةٍ، ثمَّ خير البيوت فجعلني في خير بيوَتهم، فأنا خيرهم نفسًا، وخيرهم بيتًا) .
وروى الترمذي أيضًا وحسَّنه، قال: جاء العبَّاس إلى رسول الله - (- وكأنَّه سمع شيئًا فقام النبيُ - (- على المنبر فقال: (من أنا؟ فقالوا: أنت رسول الله.
فقال: (أنا محمدُ بن عبد الله بن عبد المطلب) . ثمَّ قال: (إنَ الله خلقَ الخلقَ فجعلني في خيرهم، ثمَّ جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقةٍ، ثمَ جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا فجعلني في خيرهم بيتًا، وخيرهم نفسًا) . وروى الإِمامُ أحمدُ هذا الحديث في (المسند) وفيه: فصعد النبيُّ - (- المنبر فقال: (من أنا؟ " فقالوا: أنت رسوَلُ الله.
فقال: (أنا محمدُ بنُ عبد الله بن عبد المُطَلب. إنَّ الله خلق الخلق فجعلني في خير
1 / 37
خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خيرفرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلةٍ، وجعلهم بيوتًا فجعلني في خير بيتٍ، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسًا) .
وروى الحَافِظُ ابنُ تَيْمِية من طرقٍ معروفةٍ إلى محمدِ بن إسحاق الصَاغَاني بإسنادِهِ إلى ابن عُمَرَ عن النبي - (- وفيه: (ثم خَلَقَ الخَلْقَ فاختار مِنَ الخلقِ بني آدم، واختارَ من بني آدمَ العربَ، واختار من العَرَب مُضر، واخْتَارَ مِنْ مُضر قُرَيْشًا، واخْتَارَ مِنْ قريشٍ بني هَاشِمٍ، واختارني مِنْ بني هاشِمٍ، فأنَا من خِيارٍ إلى خيار، فَمَنْ أحَبَّ العَرَبَ فبحبي أحَبَّهُمْ، وَمَنْ أبغضَ العَرَبَ فببغضي أبْغَضَهُمْ) .
ففي هذه الأحاديث كلَّها أخْبَرَ رسولُ الله - (- أنهُ تعالى جَعَلَ بني آدمَ فرقتينِ، والفرقتان العَرَبُ والعَجَمُ، ثمَّ جَعَلَ العَرَبَ قبائلَ. فكانت قريش أفضلَ قبائلِ العَرَب، ثَم جَعَلَ قُرَيْشًا بُيُوَتًا، فكانت بنوَ هَاشِمٍ افضل البُيًوتِ) .
فالأحاديث كلُّها صريحةٌ بتفضيلِ العَرَب على غيرهم.
وروى الإِمامُ أحمدُ ومسلمُ والتِّرمِذِي من حديث الأوْزَاعي، عن شَدَّادٍ، عن واثلة بن الأسْقَعِ - رض الله عنه - قَالَ: سمعتُ رسولَ الله - (- يقولُ: (إنَّ
1 / 38
الله اصْطَفَى كِنَانَةَ من وَلَدِ إسماعيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشًا من كِنَانَةَ، واصْطَفَى من قُرَيشٍ بني هَاشِم، واصْطَفَاني من بني هَاشِم) .
وفي لفظ آخر (إنَّ الله اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبراهيمَ إسماعيل، واصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إسماعيل بني كِنَانَةَ) إلى آخره.
قال الترمذي: هذا حَدِيث صَحِيحٌ.
وهذا الحديث يقتضي أنَ إسماعيل وَذريتَهُ صَفْوَةُِ وَلَدِ إبراهيمَ، وأنًهُمْ أفْضَلُ من وَلَدِ إسْحَاقَ، ومعلوَمً أنَّ ولد إسحاق الذين هم بنو إسرائيل افضلُ مِنَ العَجَمِ لما فيهم مِنَ النُّبوة والكِتَاب حَيْثُ ثَبَتَ فَضْلُ وَلَدِ إسماعيلَ على بني إسرائيل، فعلى غيرهم بطريقِ الأولى.
وقد احْتَجَ الشافعيّةُ في الكَفَاءةِ بهذا، فقالوا: إنَّ العَرَبَ طَبَقَات، فلا يكافئ غير قُرَشي مِنَ العَرَب قُرَشِيَّة، وليس القُرَشي كُفْءًا للهاشِمِيَّةِ، للحديث السابق: (إِنَّ الله اصْطَفَى) إلَى آخره.
قالوَا: وأولادُ فَاطِمَةَ ﵍ لا يكافؤهم غيرهم من بقيةِ بني هَاشِمٍ، لأنَ مِنْ خَصَائِصِهِ ﵇ أن أولادَ بناتِهِ يُنْسَبُنَ إليهِْ قالوا: وكذا باقي الأمم فلا يكوَنُ مَنْ ليسَ مِنْ بني إسرائيل كفءًا لإِسرائيلية.
ومذهبُ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: أنَّ جميعَ العَرَب أكفاء لبعضِهِمْ، كما
1 / 39
أنَّ جَميعَ العجم أكْفَاء لبعضِهِمْ، واعْتُبِر النَسَبُ في الكَفَاءةِ لأن العَرَبَ تَفْتَخِرُ بِهِ.
واعْلمْ أن لأحَادِيثَ الوَارِدَةَ في فَضْلِ قُرَيْشٍ، ثُم في فَضْلِ بني هَاشِمٍ كثيرة جِدًا. وليسَ هذا مَوْضِعُهَا.
وأما العَقْلُ الدَّالُ على فَضْلِ العَرَب: فقد ثبتَ بالتَوَاتُرِ المَحْسُوسِ المُشَاهَدِ أنَّ العَرَبَ أكْثَرُ النَاس لسَخَاءً، وَكَرَمًا، وَشَجَاعَةً، ومروءةً، وَشَهَامةً، وبلاغةً، وفَصَاحَةً. وِلساَنُهم أَتُم الألْسِنَةِ بيانًا، وَتَمْييزًا للمعاني جمعًا وفَرْقًا بجمعِ المعاني الكثيرةِ في اللَّفْظِ القَليلِ، إذا شاء المتكلِّمُ الجَمْعِ. ويميّزُ بين كلِّ لفظين مشتبهين بلفظٍ آخر مختصرٍ، إلى غيرِ ذَلكَ من خَصَائِصِ اللَسانِ العربيِّ.
ومَنْ كان كذلكَ فالعقلُ قَاضٍ بفضلهِ قَطْعًَا على مَنْ ليسَ كذلكَ، ولهم مكارمُ أخْلاَقٍ مَحموَدة لا تَنْحَصِرُ، غريزةٌِ في أنفسهم، وَسَجِيَّة لهم جُبلُوا عليها، لكنْ كانوا قبلَ الإِسلامِ طَبِيعةً قَابِلَةً للخيرِ ليسَ عندَهم عِلْمٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّماءِ، وَلاَ هُمْ أيضًا
1 / 40
مُشْتَغلُونَّ ببعضِ العُلُوَم العَقْلية المَحْضَة كَالطِّبِّ أو الحِسَاب أو المَنْطِقِ ونحوه. إنَما علمُهُمْ ما سَمَحَتْ بهِ قًرَائِحُهُمْ مِنَ الشِّعْرِ والخُطَبَ أو ماَ حَفِظُوه مِنْ أنْسَابهِمْ وأيَّامِهم، أو ما احْتَاجُوَا إليه في دنياهم مِنَ الأنواء والنُجوَم، أو الحُروب، فلما بعثَ الله محمدًا - (- بالهُدَى الذي ما جَعَلَ الله. في الأرضَِ مِثْلَهُ تَلَقُّوَهُ عَنْهُ بعدَ مُجَاهَدَتِهِ الشديدةِ لهم، ومعالَجتهم على نقلهم عن تلكَ العاداتِ الجَاهِليَّةِ التي كانت قد أحالتْ قلوَبَهُمْ عن فِطْرَتِهَا، فلمَّا تلقَوا عنه ذلكَ الهُدَى زَالَتْ تلكَ الرُّيُوَن عن قلوَبهِمْ واسْتَنَارَتْ بهدي الله فَأخذوا هذا الهدي العظيم بتلكَ الفِطْرةِ الجيدةِ فاجتمِعَ لهم الكَمَال التَامُ بالقوة المَخْلُوَقَةِ فيهم، والهُدَى الذي أنزلَهُ عليهم، ثُمَّ خصَّ قُريشًا على سائرِ العَرَبِ بما جعل فيهم خلافَةَ النُبُوةِ وغير ذلكَ من الخَصَائِصِ، ثُمَّ خَص بني هَاشِمٍ بتحريمِ الصَّدَقَةِ، واستحقاقِ قِسْطٍ مِنَ الفَيءِ إلى غيرِ ذلكَ من الخَصَائِصِ، فأعطى الله - سبحانه - كل درجة من الفَضْلِ بحسبِهَا والله عليمٌ حكيمٌ (الله يَصْطَفِي مِنَ الملائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) (الله أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالاته) .
واعلم أنًهُ ليسَ فَضْلُ العَرَبِ ثمَّ قُرَيْشٍ ثُم بني هَاشِمٍ بمجردِ كَوَْنِ النبي - (- مِنْهُمْ كما يُتَوهمُ وإنْ كانَ هوَ ﵇ قد زَادَهُمْ فضلًا وشرفًا بلا
1 / 41
ريب - بل هُمْ في أنْفُسِهِمْ أفْضَلُ وَأشرفُ وأكْمَلُ. وبذلكَ ثَبَتَ لَه ﵇ أنَّهُ أفضل نَفْسًا وَنَسَبًا، وإلا لَلَزمَ الدَّوْرُ وهو بَاطِلٌ.
وبالجملةِ فالذي عليه أهلُ السُنًةِ والجماعةِ اعتقاد أنَّ جنسَ العَرَب أفضلُ من جنس العجم عبرانيهم، وسريانيهم، ورومهم، وفرسهم، وغيرهم، وأنَّ قريشًا أفضلُ العرب، وأن بني هاشم أفضلُ قريشٍ، وأن رسوَلَ الله - (- أفضلُ بني هاشم. فهوَ أَفضلُ الخلق أجمعين، وأشرفهم نسبًا وحسبًا، وعلى ذلك دَرَجَ السَلَفُ والخَلفُ.
قال أبوَ محمد حَرْبُ بنُ إسماعيلَ الكَرْمَانيُّ صاحب الإِمام أحمد في وصفه للسُّنَّةِ، التي قال فيها: هذا مذهبُ أئمةِ العلَمِ، وأصحاب الأثَرِ، وأهل السُنَةِ المعروفين بها، المفتدى بهم فيها.
قالَ: وأدركتُ مَنْ أدركتُ مِنْ أهلِ العِراقِ والحِجازِ والشام وغيرهم عليها، وأن
1 / 42
مَنْ خالفها أو طعنَ فيها أو عابَ قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحقْ - وساق كلامًا طويلا إلى أنَّ قال -: وَنَعْرِفُ للعربِ حَقها وفضلها وسابقتها، ونُحِبُّهم لحديث رسوَل الله - (- (حُبُّ العَرَب إيمان، وبغْضُهُم نِفَاق) ولا نقوَل بقولِ الشُّعُوبية وأرادَ الموالي الذينَ لا يُحبونَّ العَرَبَ ولا يقرُّونَّ بفضلِهِمْ - فإن قوَلهُمْ بِدْعَةٌ وخلافٌ.
وقد وَرَدَتْ أحاديثُ تؤيد مذهبَ أهل السُنَةِ والجماعةِ: رَوى الحاكمُ عن انس عن النبيِّ - (- (حبُّ العَرَب إيمان وبُغْضُهُمْ كفر، فَمَنْ أحب العَرَبَ فقد أحبَّني، ومَنْ أبْغَضَ العَرَبَ فقد أبْغضَني) .
وروى الطَبَراَنيُّ عن أنس ﵁ عن النبي - (- (حب قُريشٍ
1 / 43
إيمان وبغْضُهُمْ كفر، وحبُّ العَرَب إيمان وبُغْضُهُم كُفْر، فمن أحبَّ العربَ فقد أحبَّني، ومَنْ أبغَضَ العَرَبَ فقد أبْغَضنِي) .
وروى ابنُ عساكِرِ والسِّلَفِيُ عن جابرِ بنِ عبد الله ﵁ قال: قَالَ رسوَلُ الله - (-: حُبُّ أبي بكر وعمرَ مِنَ الإِيمانَّ وبغَضهما كُفْرٌ، وحُبُ الأنصارِ مِنَ الإِيمانَّ وبُغْضُهُمْ كُفْر، وحبُ العَرَبِ منَ الإِيمانِ وبُغْضُهمْ كُفْرٌ) .
وروى التِّرمذيُّ وغيرُهُ عن سلمانَّ - رض الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - (- (يا سلمانُ لا تُبْغِضْني فَتُفَارِقَ دِينَكَ) .
قلتُ يا رسوَل الله، كيف أبْغِضُكَ وبكَ هَدَاني الله؟ قالَ: (تُبْغِضُ العَرَبَ فَتُبْغِضُنِي) .
قال الترمذيُ: هذا حديث حَسَن غَرِيبٌ.
فَجَعَلَ النبي - (- بغضَ العرب سببًا لفراقِ الدِّينِ، وجعلَ بغضَهم مقتضيًا لبغضِهِ ﵇ ولعلَّهُ إنَماَ خَاطَبَ سلمانَ بهذا وهوَ سابق الفُرْسِ، وذوِ الفضائل المأثوَرةِ تنبيهًا لغيره مِنْ سائرِ الفُرْسِ، لما علمهُ الله - تعالى - مِنْ أنَّ
1 / 44
الشيطانَّ قد يدعو بعضَ النفوس إلى شيءٍ من ذلكَ.
وهذا دليل على أنَّ بغضَ جنس العرب ومعاداتهم كُفْر، أو سبب للكفرِ، ومقتضاهُ أنًهم أفضلُ من غيرهم، وأنّ محبتَهم سببُ قوةِ الإِيمانِ.
وعن أبي هريرةِ ﵁ قَالَ: قَالَ رسوَلُ الله - (-: (أحِبُّوَا العَرَبَ وبقاءهم، فإنً بقاءهم نور في الإِسلام، وإنَّ فناءهم فَنَاءٌ في الإِسلام) . رواه أبو الشيخ ابنُ حبَّان.
وعن جابرٍ - رض الله عنه - أن النبي - (- (قَالَ: إذا ذلت العرب ذَل الإِسلام) . حديثٌ صحيح.
وعن أبي هريرة ﵁ قَالَ: قَال النبي - (- (النَّاسُ تَبَعٌ لقريشٍ في هذا الشَّأن، مُسْلِمهُمْ تَبَع لمُسْلِمِهِمْ، وكَافِرُهم تَبَعٌ لكافِرِهِمْ، والنَّاسُ مَعَادِن، خِيارُهمْ في الجاهلية خِيارهُمْ في الإِسلامِ إذا فقهوَا) . حديث صحيحٌ متفق عليه.
1 / 45
وقال - (-: (الأنْصَارُ لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضُهُمْ إلاَ منافق. فَمَنْ أحبهُمْ أحبهُ الله، وَمَنْ أبْغَضهمْ أبْغَضَهُ الله) . حديثَ صحيح. أخرجَهُ الأئِمةُ الستةُ) .
قالَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيْميَّة: وقد رُوِيَتْ في ذلكَ أحاديثُ، النكرةُ ظاهرة عليها كحديثِ التَرْمِذِيِّ من حديث حُصين بنِ عمرَ بإسنادهِ عن عثمان بن عَفَّانِ - رض الله عنه - قالَ: قَالَ رسولُ الله - (-: (مَنْ غش العَرَبَ لم يدخل في شفاعتي، ولم تَنَلْهُ مَوَدَّتي) .
قالَ الترْمِذيُ: هذا حديث حَسَن غَرِيبٌ، لا نعرفُه إلاَ من حديث حُصين بن عمر.
قالَ ابن تيمية: حصين هذا الذي رواه قد أنكرَ أكْثَرُ الحُفَّاظِ حَدِيثَهُ.
قَال يحيى بنُ معين: ليسَ بشيء.
وقال ابنُ المَديني: ليس بالقوي.
وقالَ البخاريُّ وأبوَ زُرْعَةَ: مكرُ الحَديثِ.
وقالَ ابنُ عدي: عامةُ أحاديثهِ معاضيل وينفرد عن كل مَنْ رَوَى عنه منهم. ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب.
1 / 46
وروى عبدُ الله بنُ أحمد في مسند أبيه (من طريقِ إسماعيل بنَ عَيَّاش عن يزيد بنُ جبير بإسناده، عن علي ﵁ قال: قالَ رسوَلُ الله - (-: (لا يبغض العَرَبَ إلا منافقٌ) .
قالَ ابنُ تيمية: وزيد بن جَبيرة عندهم منكرُ الحديثِ، وروايةُ إسماعيل بن عياش عن الشاميين مُضطَّربة.
وروى العُقَيليُّ في (الضُّعَفاء) والطَبراني في (الكبير "، والحاكمُ في (المُسْتَدْرَكِ) . والبيهقيُ في (شُعَب الإِيمانِ) عن ابنِيِ عباس - رض الله عنه - قالَ: قالَ رسوَلُ الله - (-: (أحبُوا الَعَرَبَ لثلاثٍ، لأني عربي، والقرآنُ عربي، وكلامُ أهلَ الجَنَّةِ عربي) .
1 / 47
قالَ الحافظُ السِّلَفِي: هذا حديث حَسَن.
قال ابنُ تيمية: فما أدري أرادَ حُسن إسنادِهِ على طريقةِ المُحَدِّثين، أو حسن متنه على الاصطلاح العام؟ قالَ: وابن الجَوْزِيُ ذَكَرَ هذا الحديثَ في (المَوْضُوعَاتِ) وقالَ: قالَ العُقَيْليُّ: لا أصل له.
وعن أبي هريرةَِ قَال: قَالَ رسوَلُ الله - (- أنا عربي، والقرآنَّ عرييّ، ولسانُِ أهلَ الجَنَة عربي.
قال الحاكمُ: حديثٌ صحيحٌ رجالُهُ كُلُهم ثِقَاتٌ.
ومما يدلُ على فضلِ العَرَبِ أيضًا ما رواهُ البَزَّارُ بإسنادِهِ قَالَ: قالَ سلمان
1 / 48