وأما نحن فلسنا كفارا، فأنت كافر بتفكيرك إيانا. فقال له بعض أصحابه: قل لهم إني استفهمت ولم أخبر. فقبلوه منه، ولما رأى منهم هذا التغير بايع المقعطر العبدي، فكرهت الخوارج ذلك وسألوه إعفاءهم من مبايعة المقعطر فأبى، فاختلفوا وتهايجوا، وحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق فقتله، ثم اقتتلوا فيما بينهم قتالا شديدا، وارتحل قطري مع أتباعه إلى طبرستان.
وجلس المهلب للناس بعد ارتحال قطري فدخل إليه وجوههم. •••
ولعل القارئ يرى من هذه الأمثلة ولع الخوارج بالتمسك بالمجادلات اللفظية الفارغة، والجدال فيما لا طائل تحته، وهذه ظاهرة تبدو لكل من يقرأ تاريخ الخوارج، وحسبك أن تعلم كيف خرجوا على علي بن أبي طالب متمحلين أوهى الأسباب، ثم تتبع منازعتهم فيما بعد، وكيف كانوا يثيرون مسألة عرضية فارغة، فتثور معها حروب طاحنة تطيح فيها الرءوس وتزهق النفوس، وإن الباحث ليحار في التوفيق بين براعة هؤلاء الرجال وتفوقهم في أساليب الحرب والدين معا، وبين ما يتمسكون به من سفساف الأمور وما يرتكبونه من الأخطاء التي لا يقع فيها الأطفال، على أن حل هذه المشكلة وذلك التناقض في نظرنا يسير، إذا أعملنا الرؤية واصطنعنا الأناة والفكر؛ فقد كان زعماء الخوارج - ويجب أن نفرق بين زعماء الخوارج وجمهرتهم - ذوي أغراض سياسية بعيدة ومطامح جريئة لا تقل عن التفرد بالملك والاستئثار بالأمر، وكانوا خطباء مهرة يلهبون الحماسة في نفوس أصحابهم إلهابا، ويدفعونهم باسم الورع والصلاح ونصرة الدين وقهر أعدائه الألداء وإقامة حدود الله، فتنخدع الجمهرة وتقدم - بما فيها من شجاعة وقوة وتفان في نصرة العقيدة - إلى اقتحام الموت، ويندفع سادتهم وأشرافهم، بما في نفوسهم من مطامح بعيدة المدى وآمال كبار في تحقيق مآربهم الجريئة، بحماسة زائدة إلى خوض غمار الحروب واقتحام الصفوف والاستهانة بالموت حتى لتقول إحدى نسائهم وهي تخوض الحرب:
9
أحمل رأسا قد مللت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله
وكان يكفي زعيم الخوارج أو المتطلع للزعامة أن يثير مشكلة دينية لفظية فارغة؛ لينتقم من زعيم آخر، فينزله من زعامته ويسقط مكانته الدينية ليحل مكانه ويتولى الزعامة بعده، ولولا هذه الخلافات ما علم إلا الله وحده كيف كانت تكون عاقبة أمرهم. •••
وما نحسب أن ثورة زعماء الخوارج على علي بن أبي طالب إلا تطلعا للملك وتمحلا لأسباب الكيد من قريش حسدا وغيرة لما نالته قريش من السلطان والرفعة، فقد طالما حاول الخوارج أن يجدوا فرصة يتحينونها لإشباع رغباتهم ومطامعهم حتى أتيحت لهم فرصة التحكيم فانتهزوها للانشقاق والفتنة. •••
ولولا ما سلكه المهلب بن أبي صفرة من ضروب الشجاعة والحزم مع ما وهبه من خبرة بالحرب وبعد نظر، لاستفحل أمر الخوارج استفحالا ما كان أجدره أن يغير وجه التاريخ.
Unknown page